فاطمة علي
كاتبة مصرية
تُعدّ الثانوية العامة واحدة من الأزمات الشخصية والأسرية التي يمر بها كل شخص، وتقريباً كل أسرة في مصر، فلا يوجد مصري ليست له ندوب مع تلك المرحلة المؤلمة، حتى وإن تُوجت بدخوله الكليّة التي أرادها، فالثانوية تجربة نفسية صعبة في رحلتها بغضّ النظر عن نتائجها، وهي صعبة على الأسر؛ لأنّه فوق الضغوط النفسية، هناك ضغوط مادية كبيرة، فبالطبع لا يوجد تعليم بالمدارس، والتعليم يتحمل تكلفته ولي الأمر، وهناك توحش غير طبيعي فيما أصبحت عليه أسعار الحصص، أضف إلى ذلك إرهاق مواعيد الدروس وتعارضها، وتأخر الأبناء ليلاً وقلق الآباء، ورحلة البحث عن المعلم المناسب والمكان القريب.
كما تمثل الثانوية العامة صُداعاً بالنسبة إلى الوزارة والدولة ككل، بداية من إعداد الامتحانات وإجراءات تأمينها وتأمين اللجان، واصطفاف أولياء الأمور أمام اللجان، في مشهد يذكّر بانتظار خروج سجين عزيز، والتشبيه لا يختلف كثيراً، وشائعات وحقائق تسريب الامتحانات، والتصحيح والأسئلة الصعبة والأسئلة الخارجة عن المنهج، وأزمة إعلان النتيجة والمدارس الكاملة اللجان التي ستلتحق بكليّة الطب، في مشهد يتعدى حدود المهزلة.
إنَّ نظرة إلى الوراء لما كانت عليه حال الثانوية العامة قديماً، أقصد قديماً جداً، تؤكد لنّا أننا نعود إلى الخلف، بل نسقط إلى منحدر، إنّ قراءة سريعة في السير الذاتية لكتّاب مصر ومشاهيرها مثل: عبد الرحمن بدوي، وجلال أمين وغيرهم، عن ذكرياتهم عن تلك المرحلة العمرية، ستؤكد لنّا أنّنا نقف على أمر عظيم الخطورة. فهم يسجلون شهادات عن مدارس بنظام تعليمي قوي، وأحياناً الاستعانة بمدرسين أجانب لتدريس اللغات، ولا أقصد بالطبع أن نستورد معلمين من الخارج، لكنّها مجرد قراءة لما كانت عليه الجودة آنذاك، الجودة التي أصبحت مفهوماً مهترئاً وصوريّاً في أروقة المدارس المصرية، يتحدثون عن الأنشطة المختلفة، كيف كانوا يلقون القصائد العربية البديعة أمام حضور وجهاء المجتمع من خارج المدرسة، وكيف كان هناك مسرح مدرسي بأدوات وكواليس كاملة تؤدى عليه المسرحيات العالمية، وكيف كان هناك أنشطة موسيقية غذت أرواحهم ووجدانهم، وكيف كان لهم أساتذة يوجهونهم لقراءة الكُتب خارج المقرر الرسمي في مختلف ينابيع الآداب العالمية، وكيف عرفوا روائع الأدب العالمي في مرحلة الثانوية العامة، ربما لهذا السبب خرج علينا في مصر جيل لم يتكرر أبداً، شهدت مصر بعده نضوباً حقيقياً، وصوراً هشة وغير أصيلة، مصر نفسها التي لا نريد أن ننسى أنّها كانت تُصدر العلم إلى دول الجوار، وكانت منارة علم وأدب وفن في محيطها.
أين هذا من واقع التعليم في مصر الآن؟
أود أن نتذكر أنّ هذا هو التعليم الحقيقي، التعليم الذي يصقل الفرد المصري وروحه، ويُعمق إحساسه بتاريخه الخاص وبتاريخ العالم، تعليم يُعدّ فرداً متحضراً وراقياً، ويجهز جيلاً جديداً لقيادة الأمّة، هكذا تتحرك الأمم إلى الأمام. إنّ ما يوصف داخل سير آبائنا الكرام عن التعليم، يحكي عن أعوام تعليمهم على أنّها أعوام من المتعة الحقيقة، أعوام من تفتح الملكات العقلية والروحية تفتحاً طبيعياً وصحياً نحو الحياة.
أمّا ذكرياتنا نحن عن الثانوية العامة، فهي ذكريات فقيرة وبائسة ومشحونة بالغضب وتلال الأوراق والملازم والملخصات، التي كنّا مضطرين لتعبئتها في أسرع وقت، دون أن نكون قد مررنا هذه المعلومات على الجانب الواقعي من الحياة، ودون أن تكون هذه المواد قد أسهمت في تعميق رؤيتنا للعالم؛ طريقة عمله ورؤية الجمال فيه، وطريقة محبته والحفاظ عليه.
لعلّ السؤال المنطقي الآن هو: ماذا فعلت مجانية التعليم في جودة التعليم في مصر؟
كان هؤلاء الآباء الكرام يتحدثون عن ذكريات المدارس في العصر الملكي وخمسينيات وستينيات مصر، قبل أن تنتشر مجانية التعليم بهذا الشكل، وقبل أن تمتد المدارس في طول البلاد وعرضها دون تعليم حقيقي!. وسيدفعنا إلى حقيقة شائكة أخرى، حول الدولة التي أرادت أن تراضي المواطن المصري البسيط، فتجعل له ابناً من أصحاب الياقات البيضاء المنتسبين إلى الجامعة، دون أن يكون هناك استحقاق حقيقي لهذا الابن، ودون أن تكون الدولة في حاجة لهذا الكم الهائل من الخريجين المُتعطلين، والنتيجة هذه الأعداد الغفيرة العاطلة وغير المتعلمة تعليماً حقيقياً من ذوي الشهادات الجامعية، وقد كان من الممكن أن تستفيد منهم الدولة أكثر في التعليم الفني أو غيره.
إنّ هناك كتلاً بشرية كاملة أهدرت سياسة التعليم الخاطئة طاقاتها وملكاتها، وفوتت على الدولة فرصة الاستفادة من هذه الطاقات.
محطة جديدة إلى الوراء
لعل قرارات التحديث الأخيرة لنظام الثانوية العامة التي أعلنها وزير التربية والتعليم تمثل محطة جديدة من محطات الهبوط بالتعليم، ورؤية قاصرة بشدة مع الأسف، وإن كان ظاهرها تخفيف المواد عن الطلاب، وتخفيف مصاريف الدروس الخصوصية عن الأسر، لكن في الواقع إنّ هذا التخفيف سيحدث عواراً كبيراً في شخصية الخريجين، والتي ستنعكس على البلد بأكمله.
فلا بدّ أن تتخرج عدة أجيال من هذا النظام حتى تدرك الدولة ويدرك المجتمع خطورة تخفيف تدريس العلوم الإنسانية على روح المجتمعات، وكيف أنّ تهميش تدريس هذه المواد سيخلق مجتمعات بدون روح، لا تفهم نفسها ولن تقبل الآخر، هذا في عزّ حاجتنا المُلحة إلى إحداث تغييرات جذرية في الشخصية المصرية تتوافق مع إنسان عالمي جديد، قادر على قبول الانفتاح على الآخر المختلف.
وتحديد دراسة الفلسفة في الصف الأول الثانوي فقط، هو قصور في تكوين التفكير العقلي، لأنّ الفلسفة تُعدّ إنساناً راشداً وعقلانياً، فكيف نخفف منهجها قبل أن يكون قد اكتسب الحدّ المعقول من التفكير الفلسفي، الذي يتركه للبحث والشغف في مراحل عمرية لاحقة، ولا أفهم كيف يفكر المخطط لسياسة التعليم حين قرر تخفيف تدريس علم النفس، بل على حسب التحديث الجديد هناك طلاب سيدخلون الثانوية العامة ويخرجون منها دون أن يكونوا أخذوا ولو مقرراً بسيطاً في علم النفس. هل نريد إنساناً يدرس ويفهم العالم من حوله دون أن يفهم ما يختلج في نفسه من دوافع ومشاعر، وكيف يدير هذه المشاعر ويفهم نفسه والآخرين؟
إنّ التخفيف من تدريس العلوم الإنسانية على حساب الاهتمام بالعلوم العقلية، جدير بأن يدفعنا إلى الخوف؛ لأنّه تقصير في إعداد الإنسانية داخل الإنسان، تقصير في إعداد الروح والحس والتعاطف والتسامح، بل الأخطر أنّ هذا التجويف لروح الإنسان سيجعله أكثر عرضة للاستقطاب من قبل أصحاب الأجندات المتطرفة والإرهابية، لأنّ هذا الفكر المُتطرف قوامه خلو الروح الإنسانية وعدم التعاطف ورفض الآخر. وعليه ينبغي ألّا تحدث عدة كوارث حتى ننتبه إلى أنّ تخفيف دراسة العلوم الإنسانية سيمرض المجتمع من داخله.
نقلآ عن حفريات