خالد بشير
كاتب أردني
بينما حار علماء الفيزياء والفلاسفة في ماهيّة الزمن وتفسيره، كانت الأديان والمعتقدات قد تعاملت معه من منظور مغاير؛ فلم تُعنَ به كظاهرة، وإنما اتجهت لإعطاء القيمة والمعنى له، وراحت تروي الحكايات في تفسير بدايته، وتصوّر نهايته، وقسّمته إلى أزمان مقدّسة مباركة، وأخرى مدنّسة مشؤومة.
بداية الزمن
تجمع غالبية الديانات على وجود لحظة بداية للزمان، وهي ذاتها لحظة خلق الكون؛ فخلق الكون هو إيجاده من العدم، وهو فعل قامت به الآلهة، كما في الأديان الوثنية التعددية، أو الإله الواحد، كما في الأديان التوحيدية.
وبحسب العهد القديم، فإنه “في البدء خلق الله السموات والأرض” (سفر التكوين)، وكان “روح الله يرف على وجه المياه” (التكوين)، ومن الماء بدئ الخلق، فأخرج منه السماء والأرض وفصلهما عن بعضهما، واستمرت عملية الخلق، بحسب الرواية التوراتية، “مدة ستة أيام، ثم استراح الله بعد إتمامه الخلق في اليوم السابع”، وبحسب سرد التوراة لقصص الأنبياء وأعمارهم الواردة، فإن عُمر البشرية والأرض اليوم لا يتجاوز السبعة آلاف سنة منذ بداية الخليقة. وفي اليوم الرابع من أيام الخليقة الستة، خلق الله الشمس والقمر، وكان ذلك بداية الليل والنهار، وبالتالي تحوّل الزمن إلى وحدات قابلة للعدّ والقياس، من أيام وأشهر وسنوات.
وقد تأثرت رواية الخلق التوراتية بما سبقها من أساطير ومعتقدات، وخاصّة التي كانت منتشرة في بلاد ما بين النهرين، وبالتحديد أسطورة الخلق البابلية، الـ “إينوما ايليش”، وهي ملحمة شعرية تحكي قصة خلق الإله مردوخ للكون بعد انتصاره في صراع خاضه مع الآلهة الأخرى. وكذلك روايات الخلق عند الفراعنة، تتحدث عن وجود ماء في البداية، ومنه ظهرت الآله الخالقة، ومنه خلق الإله “رِع” السماوات والأرض. وبحسب أساطير وحكايات الخلق عموماً تتصف الآلهة أو الإله، بكونها أزلية وأبدية (سرمدية)، أما الكون (السماء والأرض) فهي حادثة؛ بمعنى لها لحظة بداية.
وقد تبنّت المسيحية رواية العهد القديم، كما جاء القرآن الكريم موافقاً لها، فاعتبر بأنّ خلق السماوات والأرض تمّ في ستة أيام: “الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام” (السجدة آية 4)، وبأن عرش الله كان على الماء: “وكان عرشه على الماء” (السجدة آية 4)، وبأن كُلّ الأحياء خلقت من الماء: “وجعلنا من الماء كُلّ شيء حي” (الأنبياء آية 30)، وبأن السماوات والأرض كانتا شيئاً واحداً ومن ثم فصلتا: “كانتا رتقاً ففتقناهما” (الأنبياء آية 30).
نهاية الزمن
وبحسب الديانات الإبراهيمية وأديان أخرى، فإنّ الزمن يسير بشكل حتمي نحو النهاية، والتي تأخذ صوراً مختلفة، ففي اليهودية تأتي نهاية الزمن مع قدوم مخلص (المسيا) من نسل النبي داود يخلص الشعب اليهودي من معاناته ويجمعهم من شتاتهم في أرض فلسطين ويقيم فيها “مملكة إسرائيل”، التي تُمثّل الجنة الأرضية المخصصة للشعب اليهودي حصراً.
أما في المسيحية، فتأتي نهاية الزمن مع المجيء الثاني للمسيح، ليقوم بعدها الأموات، ويبدأ يوم الدينونة (الحساب)، ومن ثم ينتقل المؤمنون إلى ملكوت الله وتبدأ الحياة الأبدية. وجاء في “إنجيل متّى” أنّ عودة المسيح تسبقها علامات، من حدوث المجاعات والزلازل.
وفي الإسلام أيضاً، هناك ايمان بالعودة الثانية للمسيح: “وإنه لَعَلَمٌ للساعة” (الزخرف آية 61)، مع ظهور علامات أخرى، كظهور المهدي، والمسيح المُضاد (الدجّال)، وخروج “يأجوج ومأجوج”، ومن ثم تأتي النهاية مع طلوع الشمس من مغربها، لتبدأ بعد ذلك أحداث “يوم القيامة”، اليوم الأخير في الزمن الأرضي، من النفخ في الصور إلى البعث والنشور، وهو يوم طويل يصل مقداره إلى خمسين ألف سنة: “في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدّون” (المعارج آية 4)، وهكذا، فإنّ الزمان الدنيوي سينتهي ويبدأ عالم آخر جديد باحداثيات جديدة، هو “العالم الآخر”، أو “الحياة الآخرة”، وفي ذلك العالم لا تجري قوانين الزمن المعهودة؛ فأعمار الناس ثابتة، والحياة فيه خالدة لا نهاية لها: “خالدين فيها أبداً”.
كما ظهرت تصورات نهاية العالم في ديانات ومعتقدات أخرى، كما في أسطورة “راجناروك” (مصير الآلهة)، في الميثولوجيا النوردية (شعوب شمال أوروبا)، حين تلتحم الآلهة في معركة عُظمى.
وفي البوذية، يُنقل عن بوذا في تعاليمه، أنه أخبر أتباعه عن قدوم “الماتيريا”، وهو مخلّص منتظر، يظهر بعد أكثر من أربعة آلاف سنة من زمن بوذا وينشر وعياً جديداً في العالم.
وعند المايا، تحدثت الأساطير عن نهاية منتظرة للعالم، وذلك مع انتهاء “تقويم أمريكا الوسطى الكبير” في سنة 5125، الموافقة لسنة 2012 للميلاد، وهو ما دفع العديدين لانتظار حدث النهاية في تلك السنة، وتوقع أن يكون ذلك عن طريق اصطدام جرم سماوي بكوكب الأرض.
الزمن الدائري
وخلافاً لتصورات الزمن الخطي، التي سادت في الديانات الابراهيمية وغيرها، ساد الاعتقاد في الهندوسية، كبرى الديانات في الهند، بأنّ الزمن دائري؛ فهناك “عَجَلة للزمن، تتكرر فيها الأزمنة والعصور، وبحسب المعتقدات فإنّ هناك أربع أزمنة، تبدأ بـ “ساتيا يوغا”، وهو العصر الذهبي، الذي يسود فيه الخير ويعمّ، ومن ثم يتم الانتقال إلى عصر “تريتا يوغا”، وهو عصر يشهد بداية الانحدار وظهور الشرّ، ومن ثُمّ عصر “دوابرا يوغا” وفيه المزيد من الانحدار، وصولاً إلى عصر “كالي يوغا”، وهو عصر الظلام والدمار، والذي لا ينتهي إلّا بظهور “كالكي”؛ التجسّد الأخير للإله “فشنو”، الذي يُنهي هذا العصر، ويعود بالزمن إلى “ساتيا يوغا” من جديد. وهكذا، في دورة متعاقبة لانهائية.
الزمن المقدس والزمن المدنسّ
وتشترك أديان عديدة في الاعتقاد بوجود لحظة مقدسّة في بداية الزمن، ومن ثم يجري الابتعاد عنها بمرور الزمن، مع تراجع وانتشار تدريجي للشرّ والفساد، ففي الأديان الإبراهيمية كانت بداية الزمن في الجنة؛ سواء السماوية، أو جنة عدن الأرضية، ومن ثُمّ خرج آدم وحواء منها بسبب اقتراف الخطيئة، وبدأ الناس بعدها يرتكبون الخطايا والمعاصي، وبحسب التوراة، فإنه كان يُبعث بعد كل مرحلة من الفساد نبيّ يُصلح قومه ويعيدهم إلى حالة الطهارة والصلاح الأولى، كما أن هناك عودة منتظرة للمخلص (المسيا) الذي يحرر شعبه ويدخلهم الجنة من جديد في نهاية الزمن، وبالتالي فإن هناك تماثلاً ما بين بداية الزمن ونهايته، من حيث الاشتراك في القداسة والخير.
واشتركت الديانتان؛ المسيحية والإسلامية في هذه التصوّرات؛ ففي الإسلام يسود الاعتقاد بحالة التراجع المستمر مع مرور الزمن، ويشتهر في الاستدلال على ذلك الحديث النبوي “خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم…”، و”لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شرّ منه”، والآية الكريمة “ثُلّة من الأولين وقليل من الآخرين” (الواقعة آية 13)، وهكذا، إلى أن يَصِل الزمن إلى مرحلة “زمن الفتن”، وهو الزمن الذي يعمّ فيه الظُلم وتنتشر فيه الخطايا والمعاصي، وبالتالي فهو زمن مٌدنّس، خلافاً لحالة القداسة والنقاء الأولى، حين كان الخير هو المنتشر، ولا ينتهي هذا الزمن إلا بظهور “المهدي”، الذي “يملأ الدُنيا قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظُلماً وجوراً”، فيعيد الزمن من جديد إلى حالة القداسة الأولى.
وبسبب الاعتقاد بدناسة الزمن المتأخر وفضل الزمن السابق، تظهر نزعة الحنين إلى الزمان الماضي والزمن الأول، زمن “السَلَف” والأجداد، وهو الحنين الذي ينبني عليه الفِكر السَلَفيّ، الذي يريد العودة إلى ذلك الزمن وإعادة إحياء حتى أبسط عناصره وتقاليده، من لباس ومظهر وهيئة.
خيرٌ من ألفِ شهر
ولا يمنع الاعتقاد بالاتجاه نحو الانحدار من وجود أيام مقدّسة استثنائية، يتجدد فيها الزمن ويولد من جديد، وأشهر تلك الأيام هي أيام “الأعياد”، الأيام الاستثنائية التي تُرفع فيها النواهي والمحظورات، كما في أكثر الثقافات والمعتقدات.
كما أنّ هناك أياماً مقدسة على مستوى الأسبوع، فعند اليهود يتم تعظيم يوم السبت، وهو يوم يتركون العمل فيه، كما جاء النصّ على ذلك في نص توراتي (سفر الخروج)؛ وذلك كمحاكاة للفعل الإلهي عندما استراح الرب في اليوم السابع بعد إتمامه خلق السماوات والأرض. وفي المسيحية، يعظّم المسيحيون يوم الأحد، وتقام الصلوات فيه؛ بسبب حدوث قيامة المسيح فيه، بعد يومين من صلبه يوم الجمعة.
أما عند المسلمين، فهناك يوم الجمعة، الذي هو بمثابة عيد للمسلمين، تقام فيه الصلاة الجامعة وتلقى فيها الخطبة، وقد فسر سبب التعظيم الحديث النبوي الشريف: “خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خُلِق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها”.
وهناك أيام وليالٍ أخرى تحظى بالخصوصية والتعظيم في الإسلام، كـ “ليلة القدر”، التي هي “خير من ألف شهر”، وذلك بسبب نزول القرآن الكريم أول مرة فيها، وهناك ليلة “النصف من شعبان”، وهي ليلة تحويل القبلة من القدس إلى مكة، التي يغفر فيها الله لجميع المؤمنين، وكذلك “يوم عرفة”، الذي يغفر صيامه ذنوب سنة سابقة وسنة لاحقة، بما يمثل لحظة ولادة جديدة للمؤمن.
وهناك يوم عاشوراء، الذي يشترك في تعظيمه اليهود والمسلمون، بسبب الاعتقاد بأنّ الله، عز وجل، نجى موسى، عليه السلام، في هذا اليوم من فرعون، وقد أصبحت له خصوصية كبيرة في المعتقد الشيعي بسبب وقوع حادثة كربلاء ومقتل الحسين فيه. كما تُروى الأحاديث في فضائل أوقات معينة من اليوم؛ كالفجر والسحر والساعة الأخيرة من يوم الجمعة.
ومهما اختلفت الأديان في نظرتها للزمن، فإنها اتفقت على إعطائه القيمة والمعنى، ولم تقف عند ظاهره، وخصصت أحكاماً خاصّة به، ورَوَت فيه النصوص والحكايات، وهو ما أثرى وتقاطع مع القيم والرموز في الثقافات البشرية المختلفة، حتى يومنا هذا.
المصدر : حفريات