محمد الزغول
كاتب أردني
بتبسيطٍ مُخلٍّ، يُمكنُ اعتبار ما جرى في منطقة الشرق الأوسط، في خلال الأسابيع الماضية، بأنّه «تفوُّقٌ طبيعيٌّ للتكنولوجيا على الأيديولوجيا» كما ذهب أحدُ محللي الأخبار، حيثُ شهِدنا انهياراً مُفاجئاً ودراماتيكيّاً لتنظيم “حزب الله” اللبناني أمام الضربات والاختراقات الإسرائيلية، رافَقَهُ تلكُّؤٌ إيرانيٌّ محرجٌ في تنفيذ تهديداتٍ عديدةٍ سابقةٍ، وجّهتها مُختلَف مستويات القيادة في إيران لإسرائيل من عواقب الهجوم على “حزب الله”، أو محاولة ضرب قدراته العسكريّة. وهو ما فتحَ الباب واسعاً أمام إسرائيل للقيام بعملية تحجيم واسعة للميليشيات المتحالفة مع إيران على مستوى جغرافيا المنطقة.
لكنّ مثل هذا التفسير لا يصمد كثيراً حينما نعرف بأنّ التفوق التكنولوجي والاستخباراتي الإسرائيلي هو حقيقةٌ واقعةٌ منذ عقود، وحتى قبل تأسيس “حزب الله” في لبنان، وباقي ميليشيات ما يُعرَفُ بمحور المقاومة، فما الذي تغيّر إذن؟ ولماذا يحدثُ مثل هذا الانهيار المفاجئ للميليشيات، ويعقُبه مثل هذا التّردُّد المُحرِج لإيران، الآن؟ وما هو المصير الذي ينتظر “حزب الله” وباقي الميليشيات بعد هذه الحرب؟
إن الإجابة على مثل هذه التساؤلات تقتضي ابتداءً العودة إلى “القرار المؤسس” الذي أنتج ظاهرة الميليشيات في الشرق الأوسط.
“الأدلجة”، والميليشيات، والقرار الذي غيّر جغرافيا المنطقة
كان القادة الثوريُّون الإسلاميُّون في إيران، هم الفاعلون المُنشِئُون لظاهرة الميليشيات بالمفهوم الذي نعرفه اليوم في منطقة الشرق الأوسط، والتي تتسم بالأيديولوجية الإسلامية الشيعية؛ فقد اتخذ قادة الثورة قراراً تأسيسيّاً أعاد هيكلة البُنية الإقليميّة في مرحلة لاحقة، حينما قرّروا عدم الاعتراف بمنطق “الدولة الوطنية” في مقارَبتهم لما يجب أن تكون عليه سياساتهم الداخلية والخارجية، وحين انطلقوا في ممارسةِ السياسات من نُقطةِ بدءٍ تقع خارج مفهوم “مؤسسة الدولة”.
وأدّى هذا القرار الذي كان مدفوعاً بهواجس أيديولوجية واستراتيجية إلى خلق هذه البُنية الإقليمية الجديدة المسكونة بالعشرات من “اللاعبين دون الدولة” الذين يتحكّمون بمساحات جغرافية هائلة على امتداد المنطقة.
وما كانت “الأيديولوجيا الإسلامية الشيعية” وحدها هي التي تمظهرت في شكل تنظيمات مسلحة أو ميليشيات في منطقة الشرق الأوسط، فقد سبقها إلى ذلك، ولحق بها أيضاً، العديد من الأيديولوجيات الإسلامية، وغير الإسلامية.
لكنّ عدد الميليشيات التي أنشأتها إيران، وحجمها، وانتشارها الجغرافي الواسع، وقدراتها التنظيمية، والتسليحية، والاقتصادية، جعل منها ظاهرة غير مسبوقة، ليس في المنطقة وحدها، بل وعلى مستوى العالم كُلّه.
ولطالما كانت منطقة الشرق الأوسط زاخرة بالأفكار، والأديان، والأيديولوجيات المتعارضة، والمتناسلة، والمتصارعة. والحقيقة أن الأيديولوجيا لا تنتج بحد ذاتها أثراً في الجغرافيا السياسية، لكنّ الذي يترك أثراً هو “عمليّة الأدلَجة”؛ أيْ: التّحشيد، ومأسسة الأيديولوجيا، وعسكرتها، وتوظيفها سياسيّاً، واقتصاديّاً.
وهي العمليّة التي يُنْسَبُ جزءٌ كبيرُ منها إلى الإسلام السياسي بفرعيه؛ السُّني، والشيعي.
وقد أنتجت “عمليّة الأدلجة” هذه في منطقة الشرق الأوسط ثلاث مصائب: ماضٍ لا يُترَكُ لكي يمضي، وواقعٌ يُرْفَضُ، ولا يُتَعامَل معهُ، ومستقبلٌ يُخافُ، ولا يُشارَكُ في صُنعِه.
وفي الحالة الإيرانية، يمكنُ القول بكثير من الثقة بأنّ العقل الذي أنشأ ظاهرة الميليشيات، وأوَّلُها “حزب الله”، والتي غيّرت الجغرافيا السياسية في المنطقة، لم يكن “عقل الدولة” الإيرانية، وإنما كان “عقل الثورة” الإسلامية. ولطالما كان هناك صراعٌ في إيران، بين هذين العقلين المتناقضين.
ويبدو اليوم بأنّ “عقل الدولة” يتقدَّمُ على “عقل الثورة” بضع خطوات إلى الأمام؛ فهو (أي عقل الدولة) الذي قرّر الانسحاب من المواجهة الحالية أمام الاندفاعة الإسرائيلية، وتجنيب إيران مخاطر مواجهة شاملة، ومفتوحة مع إسرائيل، والولايات المتحدة، والقوى الغربية، كان يمكن أنْ تُطيح بكلّ مُكتَسبات إيران في العصر الحديث أو معظمها، وأنْ تُعيد البلاد عقوداً إلى الوراء، كما حصل للعراق، وليبيا وغيرها من دول المنطقة والعالم.
وهذا هو “عقل الدولة” ذاته أيضاً الذي أقنع الزعيم الراحل روح الله الخميني بـ “تجرُّع السُّمّ”، وأنهى الحرب العراقية – الإيرانية بعد ثمان سنواتٍ عِجافٍ، كادت تُطيحُ بإيران الدولة والثورة معاً. لكنّ “عقل الدولة” خسر معارك كثيرةً بعد ذلك، وهو يعود اليوم إلى الواجهة مدفوعاً بهواجس المخاطر الوجودية.
وفي نظرةٍ متفائلةٍ للغاية، لو قُدِّرَ لعقل الدولة هذا أن ينتصر اليوم، لربما تغيّر وجه الشرق الأوسط من دون مواجهاتٍ، وحروبٍ داميةٍ، ومن دون تدخُّلاتٍ دوليّةٍ، وزلازلَ استراتيجيّة.
ولعلّ إحدى أهم النتائج المترتّبة على “عملية الأدلجة”، الانفصال عن الواقع، ورفض الانصياع إلى موازين القوة، وتوازناتها، ومقتضياتها، والاستناد بدلاً من ذلك إلى قيم التضحية، والفداء، والتغنّي بالقدرة على تحمُّل المعاناة.
ولا تُغني كل هذه القيم في المواجهة الميدانية عن الأخذ بأسباب القوة، والاستعداد الجيد، والتخطيط السليم.
وهذا ما يتسبب بالانهيارات المفاجئة التي نشهدها في المنطقة عادةً أمام سطوة القوة، وحقائق التفوق.
وفي هذا السياق، لم يكن انهيار “حزب الله” المفاجئ أمام الضربات الإسرائيلية شيئاً جديداً على المنطقة، فقد سبقه انهيار الجيش العراقي بنفس الطريقة في عام 2003، وللأسباب ذاتها تقريباً. ومن المرجّح أن تنهار ميليشيات أخرى، في سياق هذه المواجهة، بالطريقة ذاتها، وللأسباب ذاتها.
إيران بين الضرورات الاستراتيجية، والأولويات الأيديولوجية
يُمكنُ – من دون السُّقوط في فخّ المبالغة– القولُ بأنّ هناك انحسارٌ واضحٌ في الخطاب الإيراني، وتلكُّؤٌ جَسيمٌ في الإجراءات الميدانيّة الإيرانيّة المتّخذة لدعم “حزب الله”، ومختلف ميليشيات محور المقاومة في ظل الهجمة الإسرائيلية المفتوحة على هذه الميليشيات، الأمر الذي أثار سخط الأوساط المتشددة في إيران.
كما أثار تساؤلاً مشروعاً عن الأسباب التي دفعت صانع القرار في طهران نحو اعتماد هذه المقاربة، وما إذا كانت الميليشيات بالأساس بالنسبة لإيران، مُجرّد ورقة للضغط، وجني الامتيازات، وبالتالي أمكنُ التخلي عنها في مُقايضةٍ مُربحةٍ، أم إنها كانت بالفعل جزءاً أساسيّاً من المنظومة العسكرية الإيرانية، ومن استراتيجية الردع الإيرانية، وعمقاً استراتيجيا للبلاد، كما تقول السرديّة الإيرانية؟
ولا شكّ بأنّ جزءاً من هذا التلكُّؤ والتراجُع عن دعم “حزب الله”، يمكنُ اعتباره “تريُّثاً إيرانيّاً” ناجماً عن الخَشية من تداعيات الردّ المفتوح، والانخراط الواسع في المواجهة الجارية، خُصوصاً على الجبهة اللبنانية؛ فالتجربة الميدانيّة أظهرت لإيران ضعف دفاعاتها الجوية في التصدي لأي هجوم مُضادّ تشنّه إسرائيل على منشآتها، وبُنيتها التحتيّة، سيّما المنشآت النووية.
كما أظهرت التجربة أنّ الأسلحة الإيرانية التي ناورت طهران على فاعليّتها، غير قادرة على تجاوز أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية التي شهدت تطوراً كبيراً، وفاعليّةً في أبريل الماضي، حين أسقطت تقريباً جميع الصواريخ والمسيرات الإيرانية.
وتفتقر إيران للقدرات الهجومية الشاملة، وبخاصة سلاح الجوّ، ولذلك تمنحُ قيمةً عاليةً للقدرات الصاروخية، ولبرنامج المسيرات التي خسرت المعركة أمام تطور الدفاعات الجويّة.
كما تُعاني إيران من غياب النظرة الاستراتيجية للحظة التالية؛ أيْ ماذا يُمكِنُ أنْ يحدث بعد أنْ تُوجِّه إيران ضربتَها الصاروخيّة؟ ولا تقتصرُ أسبابُ الخشية الإيرانية على الاعتبارات العسكرية، وإنما تُدرِكُ إيران أنّ بُنيتها الاقتصادية لا تتحمّل أعباءَ حربٍ مفتوحةٍ مع إسرائيل التي ستدعمها القوى الدوليّة، خصوصاً وأنّ طهران لا تتوقّعُ إسناداً مُؤثّراً من حُلفائها في الكتلة الشرقيّة.
وإلى جانب هذه الأسباب الإجرائية والميدانية، ثمّة أسباباً على مستوى أعمق، هي التي دعمت توجُّهات المرحلة الراهنة، تعود إلى بُنية اتخاذ القرار في إيران، وتطوُّر رؤية مطبخ القرار الإيراني لمشروع التمدُّد الإقليمي، والميليشيات التي تُمثّل الأداة الرئيسة لتحقيق هذا التمدُّد؛ إذْ يُمكِنُ التمييزُ بين توجُّهين رئيسين حَكَمَا التّصوُّرات الإيرانية طوال العقود الماضية لمسألة التوسُّع الإقليمي والميليشيات؛ أحدهما صادرٌ عن “عقل الثورة”، والآخر صادرٌ عن “عقل الدولة”.
وينظرُ “عقل الثورة”، وهو صاحب القرار المُهيمِن داخل البُنية السياسية الإيرانية، إلى التمدُّد الإقليمي وشبكة الميليشيات باعتبارهما جزءاً من “نظريّة الرّدع الإيرانية”، و”عُمقاً استراتيجيّاً لإيران”، وأداةً رئيسةً في تطبيق “مشروعٍ الهيمنة الإقليميّة” الذي يتبنّاه “عقل الثورة” من منطلق دوافع عقائدية، وأيديولوجية راسخة، ومنبثقة من “نظرية ولاية الفقيه”، والقراءة الإيرانيّة الرسميّة للعقيدة الإسلاميّة الشيعيّة.
وبهذا المعنى، تُصبح الميليشيات أداةً للتأثير على القرار الإقليمي والدولي، وجُزءاً من مُعادلة الأمن الاستراتيجي الإيراني، وجُزءاً من القُدرة العسكرية الإيرانية في مواجهة ما يعتبرهما النظام: العدو الاستراتيجي الإقليمي (إسرائيل)، والعدو الدولي (الولايات المتحدة).
لكن المشهد السياسي الإيراني فيه توجهٌ آخر، يَصدُر عن “عقل الدولة” الذي تُمثّله على أرض الواقع الحكومات الإيرانية المتعاقبة، والمؤسسات التّابعة لها.
ويضعُ هذا التوجُّه الميليشيات خارج سياق الرّدع الاستراتيجي، بل يَعتبرها “أداةً إقليميّة” في يد إيران للضغط على المنافسين، ويتعاملُ معها من منطلق كونها أدواتٍ غير استراتيجية، وإنّما “أوراق قوة”.
ويعتبرُ أصحابُ هذا التوجه مُجملَ مشروع التّمدُّد الإقليمي، والميليشيات المُنفّذة له، أوراقاً يمكن استخدامُها، ثم التفاوضُ للتخلي عنها، أو إعادتها إلى الصندوق، مقابل الحصول على امتيازاتٍ ملموسة، قد ترتقي إلى مستوى المصالح الاستراتيجية؛ السياسية والاقتصادية لإيران.
ويعني هذا التوجُّه ضِمناً، أنْ يَحْتَكِمَ النظام السياسي الإيراني إلى “حسابات الكُلفة والحصيلة” في القرارات المتعلقة بمصير هذه الميليشيات، وكذلك في القرارات المتعلّقة بمصير مشروع التوسُّع الإقليمي.
وكان التوجُّه الأول، هو التوجُّه العام الذي اعتمدته “الدولة العميقة” على مدى العقود الماضية، والذي أنتج على صعيد الخطاب حجماً واسعاً من الأدبيّات السياسية التي تؤكّد على الدوافع الاستراتيجية لمشروع التمدُّد الإقليمي، ودعم الميليشيات، وهو يزعمُ أنّ ذلك السلوك من شأنه النهوض بالموقع السياسي لإيران إلى مستوىً أعلى من باقي الأطراف الإقليميّة، ويمنحها أفضليّة في توازُنات القوّة الإقليميّة. بينما تبنّت مؤسسة الحكومة – خُصوصاً في نسختها الإصلاحيّة والمُعتدلة – ودوائر التفكير الإصلاحية والمعتدلة، التوجه الثاني الذي لا يُقلّل من أهميّة التمدُّد الإقليمي، ومكانة الميليشيات في النظرية السياسية الإيرانية، لكنّه يعتبرُها جزءاً من “أوراق القوة” التي يمكنُ وضعُها على طاولة التفاوض مع الأطراف الدولية للحصول من طريقها على امتيازات، وتنازلات تخدم الأمن القومي الإيراني، والمصلحة الإيرانية.
ويمكنُ مشاهدة نماذج من هذه الرغبة في الخطاب الذي طرحته حكومة الرئيس الأسبق حسن روحاني – وتكرره اليوم حكومة الرئيس مسعود بزشكيان – عن الاستعداد للدخول في مفاوضات حول ملفات، واتفاقيات تالية للاتفاق النووي، تتضمن الملفات الخلافيّة الأخرى.
كما يمكن ملاحظته في المواقف التي أبداها الرئيس الإيراني بزشكيان في نيويورك حول استعداد إيران للتفاوض بشأن قضايا أخرى بعد عودة الأطراف إلى الاتفاق النووي.
المُنافسة غير المتكافئة: هل يمتلكُ “عقل الدولة” فرصة الفوز؟
كان المشهد الإيراني في خلال العقود الثلاثة الماضية مسرحاً لتنافس التوجهين، وكانت الغلَبَةُ في هذا التنافس لمنطق الثورة، وعقلها الذي تُمثّله “الدولة العميقة”.
لكنه شهد أيضاً محطّات تفوّق فيها “عقل الدولة”، خاصة في المحطّات التي كان النظام يُواجِهُ فيها خطراً وجوديّاً يستدعي التّراجُع عن طروحاته، أو نتيجة للضغوط الشعبية التي كانت تتمظهرُ في الاحتجاجات أو في عمليّات الاقتراع الاعتراضيّة، والتصويت للمرشح المختلف عن “الدولة العميقة”.
ويعودُ جزءٌ من هذه الثنائيّة أيضاً إلى سلوك إيرانيّ تقليديّ، يُقدِّمُ للعالم صورةً متأرجحةً بين التّراخي والتّشدُّد، لمنح النظام مزيداً من القدرة على المناورة في الأوقات الصّعبة.
وفي كل المواقف التي كان ينتصرُ فيها “عقل الدولة”، إنّما كان يفعلُ ذلك بدعمٍ من القائد الأعلى، وحاشيته، غير أنّ التّجربة التاريخيّة نفسها، تُبيّن أنّ الانسجام بين مؤسسة “بيت القائد” والحكومات، كان انسجاماً عابراً، سَرعان ما ينتهي بعودة مؤسسة “بيت القائد” إلى موقعها الطبيعي في قلب الدولة العميقة وتوجهاتها الإقليمية والدولية.
وكما في المرّات السابقة، يأتي الاقترابُ أو الانسجامُ الذي تُظهِرُه مؤسسة “بيت القائد” اليوم، مع توجُّهات حكومة الرئيس مسعود بزشكيان المعتدلة، بعد استفحال مخاطر وجودية قادمة من: مغامرات “الحرس الثوري” والقوى السياسية المرتبطة به، أو من مساعيهم للانفراد بالقرار السيادي الإيراني، ومحاولتهم الوقوف في وجه إرادة القائد الأعلى المُطلقة. أمّا الهاجسُ الجديدُ الذي يُضافُ إلى هذه القائمة من المخاوف اليوم، فهو رغبة “الحرس الثوري”، أو أطراف مؤثرة فيه، بالتخطيط لمرحلة ما بعد القائد الأعلى.
وربما كان اتّساع الشرخ بين “الحرس” و”البيت”، هو الذي أدّى أساساً إلى اتخاذ “البيت” قراراً بإعادة الإصلاحيين إلى المشهد السياسي لاستعادة التوازنات، وضبط اتجاهات المرحلة الانتقالية.
وبالنّظر إلى هذا التباعُد المتزايد بين إرادة القائد، وإرادة “الحرس الثوري” تشهدُ إيران “فترة مخاض” في مطبخ القرار السّيادي، يُصاحبُها صعودٌ تقليديٌّ للخطاب الإصلاحي والمعتدل، يُشبِهُ ما حدَث في عام 2014 حين تسلّمت حكومة حسن روحاني السلطة.
ويبدو أنّ فترة المخاض هذه، والناتجة عن صراع الإرادات داخل الدولة العميقة نتيجة مُزاحمة “الحرس الثوري” لصلاحيات القائد الأعلى، أدت إلى تلكُّؤ في اتخاذ القرار الإقليمي الذي يُعتَبرُ أكثر الملفّات التي تتزاحمُ فيها صلاحيّات الطّرفين تاريخيّاً؛ ما أدّى إلى تعثُّرٍ، وتلكُّؤٍ في الإسناد الذي تُقدّمه الدولة العميقة لشبكة الميليشيات الموالية لها، حتى إذا كان الجانب الذي يحتاجُ إلى هذا الإسناد هو “حزب الله”.
ومن المرجّح أنْ تستمرّ فترة المخاض الناجمة عن هذا الصّدع بين جزئي الدولة العميقة، وربما يتعزّز هذا التلكؤ في اتخاذ القرار، من دون أنْ يعني ذلك بالضرورة، أنها ستؤدي إلى تغليب “عقل الدولة” على “عقل الثورة”؛ فالدولة العميقة التي تتبنى التوجه الأول، وتعتبرُ الملفات الإقليمية ضمن صلاحياتها، تمتلكُ مصالح سياسية، وأيديولوجية، واقتصادية كبرى في المنطقة، ولا يمكن تصوُّر تَخلِّيها عن كل تلك المصالح بسهولة.
ولا تُشيرُ المعطيات إلى تخلّي مؤسسة “بيت القائد” أيضاً عن “عقل الثورة” الذي يَعتبِرُ التمدُّدَ الإقليمي عبر الميليشيات جزءاً أصيلاً من استراتيجية الرّدع الإيرانية، على الرغم من تحسُّسِها من توجُّهات مؤسسة “الحرس”.
ومن دون تأييد “بيت القائد” سيبقى الخطاب الذي تتبنّاه الحكومة غير قادرٍ على أنْ يطغى على خطاب “الدولة العميقة” في المشهد الإيراني.
مطامح “فكّ الارتباط” بين إيران وشيعة المنطقة
كانت الميليشيات الإقليمية، بما في ذلك “حزب الله”، تعتمدُ على وحدة الصفّ داخل الدولة العميقة في إيران بين “البيت” و”الحرس”، وربما لم تستوعب نتائج هذا الشرخ المتزايد بينهما، أو لم تدرك وجوده أساساً.
وقد أدّى هذا الشرخ بالنتيجة إلى تصرُّف خامنئي بصفته قائداً لإيران، وليس قائداً للأمة كما كانت تراه الميليشيات؛ أيّ أنّه انحاز إلى “عقل الدولة”، خصوصاً في موقفة الأخير بعد اغتيال حسن نصر الله.
ومن وجهة نظر الميليشيات، كان الارتباط العضوي بين إيران وشيعة المنطقة، مدفوعا بمسألتين: حماية الطائفة، وفكرة المقاومة. لكنّ هذا الارتباط الذي كانت تتصوّره الميليشيات عُضويّاً، ثَبُتَ اليوم أنّه قابلٌ للتفكيك، نظريّاً على الأقل، إذا توفّر “تهديدٌ كبيرٌ، وذو مصداقيّة” أمام إيران، يجعلُها مُضطرّةً للاختيار بين: أمنها القومي، ومشروعها الإقليمي.
وفيما لم تستطع الدول العربية توفير مثل هذا التهديد على الرغم من أنها كانت المستهدفة من المشروع الإيراني، تبدو الحملة الإسرائيلية اليوم، وكأنها وفّرت بديلاً يُشجّعُ على إطلاق مُحاولاتٍ جديدةٍ لتحريك “فك الارتباط” بين إيران، وشيعة المنطقة؛ فقد تضرّرت “فكرة المقاومة”، وجدواها إلى حدٍّ بعيدٍ، وبقيت مسألة “حماية الطائفة”.
وإذا وفّرت دول المنطقة للشيعة؛ الأمان، والحماية، والحرية الدينية، سوف تضعُف حاجتهم إلى الحماية الإيرانية التي باتت تكلّفهم الكثير على مستوى استقلالهم، واقتصادهم، ورفاههم، وأمنهم.
نقلآ عن مركز الإمارات للسياسات