كتب .. د/ عبدالعليم محمد باعباد
في أحد التعريفات الجميلة للمثثف قيل بإنه من يعمل على رأب الصدع ووحدة الصف ولم الشمل.
وعندما حُشر المثقف في زاوية ضيقة بسؤالٍ عن وظيفته أهي قول الحقيقة، أم تخفيف المرارة ! لم يرضَ المثقف أن يصطف مع هذه الجزء ضد الجزء الآخر .
إن قول الحقيقة قد ينطوي على مرارات لقائلها و متلقيها، فهل يقول الحقيقة وإن كانت مرة، أم يسكت عن قولها حتى لا تثير المرارات !
عندما توضع مثل هذه المتقابلات، يحشر المثقف في زاوية ضيقة، بينما سقفه السماء، وبالتالي يصعب عليه الاصطفاف في جانب واحد على حساب الجانب الآخر .
فقول ما يظن أنها حقيقة من وجهة نظره، قد تنطوي على مرارات كبيرة يصعب ابتلاعها..
وبالمقابل فالصمت عنها قد يوصم المثقف بالنفاق، وعدم المصداقية.
الموازنة بين هذه الأمور، والاتزان في معالجة القضايا لا تعتمد على علم الشخص وثقافته فحسب؛ بل تعتمد على شخصية المثقف، نفسيته، تربيته، عقليته وضميره، خبرته التراكمية، استنتاجاته التاريخية، لتكون وظيفته كما قيل بحق: “قول الحقيقة وتقليل المرارة”.
لسائل أن يسأل كيف يكون التوفيق بين هذين الأمرين !
ولآخر أن يقول: ليصدح المثقف بقول الحقيقة فالحق أحق أن يتبع، وليكن ما يكن !
وهي تساؤلات وآراء وازنة، وعليه لا بد من تفصيل القول قليلا على وجه يزيل اللبس والتداخل.
ثمة خيط رفيع يصعب رؤيته أحيانا بين الحقيقة المثمرة والحقيقة المدمرة.
الحقيقة المثمرة هي تلك التي يترتب على عدم قولها ضياع حق، وفوات مصلحة على الفرد أو المجتمع، فهي بمثابة بيان في وقت الحاجة.
فالمحذر من كارثة بيئية قادمة، أو صائلٍ يتأبط شرا، سواء كان فردا أو جماعة أو دولة/دول، يجب عليه قول الحقيقة على مرارات القلق وانتظار الشر، بغية الاستعداد له وتوقي كل أو بعض أخطاره وآثاره.
هناك بعض الأطباء مجرد أن يتكلم مع المريض ويسأله عن مرضه، يشعُر مريضه معه بدبيب الشفاء في جسده، ناهيك عن ارتفاع معنويته؛ هذا الطبيب بأسلوبه الجميل يخفف من وقع وطأة حقيقة المرض، لكنه لا يخفيها، بل يهون منها و يقوي إيمان مريضه بقدرة الله على الشفاء من كل مرض شرط أخذ الأسباب و الالتزام بتعليمات الطبيب في طريقة وتوقيت جرعة العلاج. هذا الطبيب قال الحقيقة وخفف مرارة وقعها على المريض.
وهناك حقيقة مدمرة، رغم أنها حقيقة *لكن طريقة* قولها تهدم وتدمر.
فالطبيب الذي يصارح مريضه بقول الحقيقة، ولا يراعي نفسية المريض، كقول بعضهم لمريضه: أنت خلاص تأخرت !
المرض انتشرت ! هو بهذا القول يدمره ويزيده مرضا.
عرفنا أطباء بعضهم حدث مريضه بقرب أجله، فيلقى المريض أجله قبل وقت توقع الطبيب، وذلك لفرط شدة وقع هذه الحقيقة المؤلمة على نفسية المريض.
ولرجال الشريعة والقانون من القضاة والمحامين معرفة بهذه الحقيقة، فقد يتسبب إلقاء كلام على شخص لا يحتمل تقبله قد يتسبب بموته، وهنا قد يكون ملقي الكلام قاتلا بالتسبب.
*هناك حقائق مدمرة بلا جدال*
وهناك حقائق لا جدال في صدقها ووقوعها سواء كانت حقائق تاريخية، أو واقعية، و قولها لا ينطوي على مرارات فحسب، بل على كوارث وحروب؛ فيحصل الشتات بعد الاجتماع، والقطيعة بعد الوصال.
خذ مثلا التذكير *”بيوم بعاث”* ألم يكن يوم بعاث حقيقة تاريخية لا جدال فيها !
*لكن التذكير بيوم بعاث* في زمن اجتمع فيه القوم، ونسوا فيه أحقادهم وضغائنهم، وصاروا فيه إخوة متحابين تحت رابطة الدين والعقيدة بجانب رابطة القوم والوطن كان حمقا ونفاقا وجاهلية، ولذلك غضب الرسول الرسول صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا لهذا القول المدمر، وسار بالقوم بغير توقف ولا استجمام لراحة، على غير عادته في السفر، وقال قولته المشهورة: ” أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم !