كتب .. د.غزوان طربوش
الفساد في القطاع الصحي في اليمن تجاوز كونه مشكلة إدارية ليصبح جريمة ضد الإنسانية. وسط استغلال بشع للفقراء وتجاهل كامل لحقوقهم الصحية، يبقى السؤال الجوهري: هل تعي قيادة المجلس الرئاسي حجم المأساة أم أنها لا تبالي؟
من المؤسف أن نرى كيف يُهمل الجانب الصحي، وهو الأكثر حيوية لحياة المواطن. في بلد كاليمن، يعاني الناس يوميًا من غياب الرعاية الصحية المتطورة، وتفاقم الفساد في هذا القطاع يزيد من معاناتهم. الدولة، بدلاً من أن تركز على تحسين مستوى الخدمات الصحية، تنخرط في شبكات فساد تستنزف الموارد العامة دون مراعاة لحياة المواطنين، أو تستثمر في مستشفيات خاصة لتحقيق مكاسب شخصية . هناك غياب تام للاستراتيجيات المدروسة التي تستهدف تطوير البنية التحتية الصحية، وتحسين جودة الخدمات المقدمة، مما يضعف نظام الصحة بشكل عام.
الفساد في القطاع الصحي لا يقتصر فقط على التلاعب المالي، بل يمتد إلى أشكال مروعة مثل التجارة بالأعضاء البشرية، حيث يتم استغلال الفقر والجهل لتحقيق أرباح طائلة على حساب حياة الأبرياء. هذا بالإضافة إلى النقص الفادح في الرعاية المقدمة للأطفال وكبار السن والحوامل، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات الوفيات بين هذه الفئات الهشة. المستشفيات، بدلاً من أن تكون ملاذاً آمناً للعلاج، أصبحت مسرحاً للمعاناة وسوء المعاملة.
نحن نشهد أيضًا حالات مؤلمة من سوء التخدير، الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى مضاعفات خطيرة تصل إلى الوفاة، إلى جانب تجاهل حقوق المرضى في تلقي معاملة إنسانية داخل المستشفيات. ولعل من أكثر القضايا إيلاماً هي أزمة غسيل الكلى، حيث يعاني العديد من المرضى من نقص المعدات والإمكانيات، مما يهدد حياتهم بشكل يومي.
كل هذه المآسي هي نتيجة مباشرة لإهمال الدولة وانغماس المسؤولين في الفساد. من الضروري أن يكون هناك إصلاح جذري في النظام الصحي، يبدأ بمحاسبة المسؤولين المتورطين، وتوجيه الأموال العامة نحو تحسين الخدمات الصحية، وتطبيق برامج واضحة تضمن حق المواطن في الرعاية الصحية اللائقة.
في اليمن، تتجلى معاناة القطاع الصحي في صورة مأساوية، حيث يعاني المواطنون البسطاء من حرمانهم من حقهم الأساسي في الرعاية الصحية. هذه المأساة ليست نتيجة نقص في الموارد فقط، بل تعود بشكل رئيسي إلى فساد مستشرٍ يستغل حاجات الناس لأغراض شخصية ومادية.
1. إفراغ المرافق الصحية من محتواها
المراكز الصحية الحكومية التي كانت ملاذًا للعلاج المجاني أصبحت مهجورة وغير قادرة على تلبية احتياجات المواطنين. تم تفريغ هذه المراكز من أطبائها ومعداتها، وتحولت إلى منشآت عديمة الفائدة، تُستخدم لأغراض إدارية فقط دون أن تقدم أي خدمات طبية تُذكر. يُجبر المواطنون، خاصةً في المناطق الريفية، على البحث عن بدائل في القطاع الخاص، حيث تُفرض عليهم تكاليف باهظة تتجاوز قدرتهم.
2. استغلال القطاع الخاص وتضخيم التكاليف
المراكز الصحية الخاصة التي نشأت على أنقاض المرافق الحكومية أصبحت الخيار الوحيد للمرضى. في هذه المراكز، تُفرض رسوم مرتفعة جدًا على الخدمات التي كان من المفترض أن تكون مجانية أو بتكلفة معقولة. المواطن البسيط يجد نفسه بين مطرقة المرض وسندان التكاليف المرتفعة، مما يضطره إلى دفع مبالغ لا يمكنه تحملها، تاركًا له إما الديون أو الاستسلام للمرض.
3. تواطؤ الإدارات المحلية
المأساة الصحية في اليمن تتفاقم بسبب تواطؤ المسؤولين المحليين الذين يغضون الطرف عن هذه الانتهاكات. الفساد الإداري والمحسوبية أصبحت القاعدة، حيث يتم تعيين مسؤولين غير مؤهلين في مناصب حساسة، ليواصلوا نهب الموارد العامة دون أي رقابة أو محاسبة. هذه الإدارة الفاسدة أدت إلى وفاة العديد من المرضى نتيجة أخطاء طبية كارثية لا يتم التحقيق فيها أو معاقبة المسؤولين عنها.
قيادة المجلس الرئاسي: لا مبالاة أم عجز؟
السؤال المحوري هنا: هل تعي قيادة المجلس الرئاسي حجم الكارثة التي تعصف بالقطاع الصحي، أم أنها لا تبالي بما يحدث؟ إذا كانت تدرك ولا تتحرك، فهذا يدل على عدم وجود أي ذرة ضمير أو مسؤولية وطنية. وإذا كانت عاجزة عن التحرك، فهذا يطرح تساؤلات حول مدى جدوى بقائها في السلطة. يمتلك المجلس الرئاسي القدرة على التدخل واتخاذ إجراءات حاسمة لإصلاح هذا القطاع، في ظل غياب وعجز تام لحكومة بن مبارك. إلا أن تقاعسه عن القيام بذلك يعكس إما تجاهلاً متعمداً أو عجزاً في مواجهة قوى الفساد التي تفتك بالدولة
إن ما يحدث في اليمن من فساد في القطاع الصحي هو جريمة إنسانية بكل المقاييس. استغلال الفقراء لتحقيق مكاسب شخصية يعكس انعدام الضمير لدى بعض المسؤولين. من واجب المجتمع الدولي والمحلي التحرك بشكل عاجل لضمان استعادة النظام الصحي لخدمة المواطنين بكرامة واحترام حقوقهم الأساسية. أما القيادة السياسية، فإما أن تتحرك لإنقاذ الشعب اليمني أو أن تواجه الحقيقة القاسية بأن تاريخها سيُكتب بصفحات سوداء من التخاذل والتقصي
تزايد حالات السرطان في اليمن: مثال صارخ على انهيار النظام الصحي
في ظل غياب الرقابة الحكومية
يشهد اليمن تزايدًا ملحوظًا في حالات الإصابة بمرض السرطان خلال السنوات الأخيرة، حيث أصبح هذا المرض يشكل تهديدًا حقيقيًا لصحة السكان، خاصة في ظل تدهور الظروف الصحية والاقتصادية في البلاد. تعددت الأسباب التي أدت إلى هذا الانتشار الواسع للسرطان، من بينها استخدام المبيدات الزراعية وسموم القات بشكل مفرط وغير منظم، إلى جانب الأسمدة الكيماوية وغياب الرقابة على المنتجات الغذائية التي تحتوي على مواد حافظة ضارة تُستخدم بشكل غير قانوني.
القات المزروع في اليمن يتعرض لكميات هائلة من المبيدات والسموم التي تُستخدم من قبل المزارعين لزيادة الإنتاج ومكافحة الآفات. هذه المبيدات، وخاصة تلك التي تحتوي على مركبات كيميائية سامة مثل الفوسفات العضوي، تُعتبر من الأسباب الرئيسية وراء تزايد حالات السرطان في البلاد. العديد من الدراسات أثبتت أن التعرض الطويل لهذه المواد السامة يؤدي إلى تطور أمراض خطيرة، منها السرطان بأنواعه المختلفة مثل سرطان المعدة والدم.
إلى جانب المبيدات، يُستخدم في اليمن الأسمدة الكيماوية بشكل مفرط وعشوائي. هذه الأسمدة تحتوي على مواد مثل النترات والفوسفات، التي تشكل تهديداً خطيراً لصحة الإنسان. حيث تتسرب هذه المواد إلى المياه الجوفية والتربة، مما يؤدي إلى تلوث مصادر الغذاء والماء. وقد أشارت الدراسات إلى أن التعرض المزمن لهذه المواد قد يتسبب في ظهور أمراض سرطانية، خصوصاً في الجهاز الهضمي. وفي ظل غياب الرقابة الحكومية الفاعلة، لا يوجد أي إشراف على نوعية أو كميات الأسمدة المستخدمة في الزراعة، مما يؤدي إلى تفاقم انتشار الأمراض السرطاني.
في ظل الفوضى السياسية والانهيار الاقتصادي في اليمن، تراجعت الرقابة على مصانع المنتجات الغذائية بشكل كبير، مما أدى إلى استخدام غير قانوني للمواد الحافظة الضارة التي تُعد من الأسباب المسببة للسرطان. العديد من الشركات المصنعة للأطعمة تلجأ إلى إضافة هذه المواد بهدف إطالة فترة صلاحية المنتجات وزيادة الأرباح، دون مراعاة المخاطر الصحية التي قد تتسبب فيها للمستهلكين. هذا الاستخدام العشوائي وغير المنظم للمواد الحافظة أدى إلى تزايد حالات الإصابة بسرطان المعدة والكبد بين المواطنين.
إن تزايد مرض السرطان في اليمن يعد نتيجة طبيعية لغياب الرقابة الحكومية والانهيار التام للمؤسسات الصحية. الاعتماد على المبيدات السامة والأسمدة الكيماوية، بالإضافة إلى الاستخدام غير القانوني للمواد الحافظة في المنتجات الغذائية، كلها عوامل ساهمت بشكل مباشر في انتشار هذا المرض القاتل. ومع استمرار تدهور الأوضاع في البلاد، فإن الوضع الصحي لليمنيين مرشح للتفاقم، ما لم يتم اتخاذ إجراءات جادة لفرض الرقابة وحماية الصحة العامة.
على مر التاريخ، شهد العالم العديد من الأوبئة التي تم السيطرة عليها إلى حد كبير على المستوى العالمي بفضل التطور الطبي والتحصينات، لكنها لا تزال تُشكل تهديدًا في اليمن. من أبرز هذه الأوبئة:
1. الكوليرا:
– في معظم الدول، تم السيطرة على الكوليرا بفضل تحسينات في الصرف الصحي والمياه النظيفة. ومع ذلك، لا تزال اليمن تعاني من تفشي مستمر للكوليرا بسبب الصراع الدائر والافتقار إلى المياه النظيفة والبنية التحتية الصحية.
2. الملاريا:
– بالرغم من أن الملاريا قد انخفض انتشارها بشكل كبير عالميًا بفضل مبادرات مكافحة البعوض والعلاجات الوقائية، إلا أن اليمن لا تزال تواجه تحديات في السيطرة على هذا المرض بسبب ضعف النظام الصحي وتدني مستوى الرعاية الصحية في المناطق الريفية.
3. الدفتيريا (الخناق):
– في الكثير من الدول، أصبح الدفتيريا مرضًا نادرًا بفضل التطعيمات. لكن في اليمن، شهدت البلاد تفشيًا لهذا المرض في السنوات الأخيرة نتيجة لانخفاض معدلات التطعيم بسبب النزاعات.
4. شلل الأطفال:
– تم القضاء على شلل الأطفال في معظم أنحاء العالم بفضل حملات التطعيم، لكن اليمن لا تزال تعاني من حالات متفرقة بسبب صعوبة الوصول إلى الأطفال في مناطق النزاع وتدمير البنية التحتية الصحية.
5. الحصب:
– الحصبة تعتبر تحت السيطرة إلى حد كبير في معظم الدول بفضل اللقاحات. في اليمن، نقص اللقاحات وصعوبة تقديم الرعاية الصحية في بعض المناطق أدت إلى تفشي هذا المرض.
الأوضاع الصحية في اليمن تعقدت بسبب الحرب المستمرة، ضعف البنية التحتية، ونقص الموارد الأساسية مثل المياه النظيفة واللقاحات.
يتحمل انتشار الفساد في القطاع الصحي عدة جهات رئيسية، تبدأ بالحكومة التي تقع عليها مسؤولية وضع أطر قانونية ورقابية قوية لضمان شفافية وجودة الخدمات الصحية حيث نهم ليس فقط يعالجون أولادهم في الخارج، بل لديهم مستشفيات خاصة، بينما الفقراء من أبناء الشعب عاجزون عن الذهاب إلى أي مرفق حكومي أو الحصول على حبة دواء . كما تشارك مجالس الإدارة والتنفيذ في المستشفيات والمراكز الصحية في المسؤولية لعدم استثمارها في خلق بيئة طاردة للفساد عبر سياسات مكافحة الرشوة والمحسوبية. المواطن أيضاً له دور في محاربة الفساد من خلال المطالبة بحقوقه والإبلاغ عن حالات الفساد. وتلعب مؤسسات المجتمع المدني والنقابات المهنية دوراً هاماً في تعزيز الشفافية والتثقيف والتصدي للفساد عبر الندوات والرقابة الفعالة.