طارق أبو السعد
كاتب مصري
تبدو جماعة الإخوان المسلمين كصندوق أسود، يجب فكّ طلاسمه وأسراره لنفهمه، ومن ثم مواجهته، وأول طلاسم الإخوان: كيف يرون أنفسهم؟ كيف يفكّر قادتهم؟ ولماذا لا يراجعون أنفسهم؟ ولماذا لا يعترفون بأخطائهم من الأساس؟
يعرّف مؤسس الجماعة حسن البنّا الإخوان في رسالة “الإخوان تحت راية القرآن”، فيقول: “نحن، أيّها الناس، ولا فخر، أصحاب رسول الله وحملة رايته من بعده، ورافعو لوائه كما رفعوه، وناشرو لوائه كما نشروه، وحافظو قرآنه كما حفظوه، والمبشرون بدعوته كما بشروا بها”، ويخاطب الإخوان، في رسالة “بين الأمس واليوم”، بقوله: “أيّها الإخوان، أنتم لستم جمعية خيرية، ولا حزباً سياسياً، ولا هيئة موضوعية لأغراض محددة المقاصد”، وقبل أن يقول لهم من هم فعلاً، ينتقل بمستمعيه وتابعيه إلى منطقة عاطفية، فيقول: “أنتم روح جيدة تسري في قلب هذه الأمة”، وفي رسالة “الإخوان تحت راية القرآن” نفسها، يصف حسن البنا الإخوان بقوله: “نحن رحمة للعالمين”، وفي الرسالة نفسها يقول متحدثاً عن الإخوان: “إنّهم الجماعة التي وقع عليها اختيار القدر لإنقاذ العالمين”.
هذه الكلمات التي تصبّ في وجدان أفراد الإخوان ليل نهار، تجعلهم يؤمنون بأنّهم مختارون، وأنّ هذه الجماعة هي امتداد للرسول الكريم، إن لم تكن تحاكيه، ومع التأكيد المستمر على أنّهم مميزون بفهم صافٍ كفهم الرسول، عليه السلام، والصحابة الكرام، وغيرهم، مسلمون عاديون، اقتنعوا بأنّهم هم الأفضل، واختياراتهم هي الأصحّ، ومن لا تعجبه الجماعة فليغادرها، حتى عندما مارس الإخوان السياسة بما فيها من تناقضات، لم يعدّ الإخوان أنفسهم سياسيين تقليديين يخطئون ويصيبون كباقي السياسيين، وأنّ كلّ من ينتقدهم أو يخاصمهم سياسياً، هو في نظرهم عدوٌّ للإسلام؛ لأنّهم هم الإسلام، ولا أحد سواهم يمثّل الإسلام، هم يعدّون أنفسهم أدوات الله لتحقيق إرادته في الكون.
الإخوان المسلمون يرون أنفسهم أكبر من ذلك؛ فهم يؤمنون بأنّ الله أرسلهم لحمل رسالة الإسلام في الزمن الحالي، وجماعتهم هي التي تحمل الإسلام بصدق، أما باقي المسلمين؛ فهم يحملون الإسلام اسماً لا فعلاً، لهذا يتصرفون وكأنّهم ينفّذون إرادة الله وقدره، وهم الموعودون بنصر الله فيستخدمون الآيات التي تخصّ المؤمنين في معاركهم السياسية والفكرية، كأنّها أنزلت إليهم وعليهم، ولأنّهم يؤمنون بأنّ الله أرسلهم بقدره في هذا الزمان، هداية ورحمة للعالمين، فبالتالي لا يمكن محاسبتهم طبقاً لمعايير الناس العادية، الذين يتصرّفون بوحي من أفكارهم الذاتية التي تصيب أو تخطئ، كما لا يمكن أن يحاسبهم من ليس في مستواهم الإسلامي، وأنّ مظاهر الفشل التي في عرف الناس هي ابتلاء واختبار من الله، من المستحيل تفاديها؛ بل من نقص الإيمان الاعتراض عليها، وإليكم ما يقوله المرشد الخامس للجماعة، والرجل القوي فيها لعقود طويلة، الأستاذ مصطفى مشهور، الذي يقول في كتابه المعبّر عن فكره وفكر الجماعة “فقه الدعوة”، في الفصل الخاص بالمحن، تحت عنوان “المحن على الطريق”، وتساؤلات حولها، يقول: هل المحن نتيجة أخطاء أم هي سنّة من سنن الدعوات؟ هل من الممكن تفاديها أو تخفيف حدتها أم أنّ تفاديها انحراف عن الطريق؟ هل هي فترات ميتة من عمر الدعوة أم فترات حيّة لها أثرها؟ هل هي ضربات قاضية تقضي على الدعوة أم هي صقل وتطهير وتأصيل للدعوة؟ ما حقيقة آثارها على الجماعة والأفراد؟ هل أضرّت أم أفادت؟ هل هي حقاً منح في صورة محن؟
لا يترك مصطفى مشهور قارئه يفكر في الإجابة عن الأسئلة، ولا يعرض له نماذج لما تعرضت له الجماعة وصدق فيها قوله، إنّما يتحدث في المطلق، ويجعل خيال القارئ يسرح بعيداً، ويختار القارئ الحال، وينزل عليها أحكام مصطفى مشهور، الذي يقفز بالقارئ من الواقع الذي يعيشه أفراد الإخوان، أو المتعاطفون معهم، وهذا الواقع قد يكون أزمة سياسية، أو مأزقاً أمنياً، أو خلافاً بين قادة الإخوان، أو أيّة مشكلة تعرض لها الإخوان، وهذه المشكلات، بلا شكّ، قد تسبّب فيها أفراد بعينهم، فتأتي كلمات مشهور لتصرف أنظار وعقول الإخوان عن البحث عن أسباب هزائم في قرارات القادة، لينقلهم إلى صورة متخيلة مثالية من حياة الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، فيقول: إنّ هذه التساؤلات يدور بعضها، أو كلّها، بخلد البعض، وقد لا تجد الإجابة الصحيحة طريقها إليهم، قد يثيرها البعض بسوء نية، بقصد التشكيك والفتنة، أو بحسن نية لكن دون معرفة الإجابة الصحيحة فتحدث بلبلة ولبساً.
لاحظ معي أنّ مشهور هنا يغمز في نية المتسائل، ويخوف المستمع من نتيجة هذه الأسئلة، بأنّها تحدث فتنة وبلبلة!! ثم يحاول أن يجيب عن السؤال: هل المحن نتيجة أخطاء أم هي سنّة من سنن الدعوات؟ لقد تعرّض الرسل والدعاة إلى الله، على مرّ الزمان، للإيذاء والتعذيب والقتل من أعداء الله؛ بسبب قيامهم بواجب الدعوة إلى الله، ولو أراد الله، عزّ وجلّ، أن يحول بينهم وبين هذا الإيذاء لفعل، وهو بهم رؤوف رحيم، لكنّه، سبحانه، لم يفعل، وتركهم هكذا يتعرضون لصنوف الأذى والعذاب، حتى نرى رسولنا الحبيب، صلوات الله وسلامه عليه، بعد إيذاء المشركين له في الطائف، يدعو “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلّة حيلتي وهواني على الناس”، هل تركهم الله ولم يحمهم من أذى الكفار لأنّهم أخطؤوا، وعليهم أن يتحمّلوا نتيجة خطئهم؟! أرجو الانتباه! هنا مصطفى مشهور لا يجيب قارئه وتابعيه عن السؤال الرئيس الذي طرحه؛ بل يهرب إلى سيرة الحبيب محمد، صلى الله عليه وسلم، يحدّثهم وأمام عينيه تماثل وتطابق دعوة الرسول الكريم مع دعوة الإخوان المسلمين، وكأنّ ما حدث للرسول في الماضي، هو نفسه ما يحدث للإخوان في الحاضر! فإذا كان الرسول قد تعرّض لأذى كاختبار من الله فهم كذلك، وإذا كان من المستحيل أن يكون الرسول قد تعرّض للعقاب فهم كذلك، ثم يقول في محاولته للإجابة عن سؤال هل يمكن تفادي المحن؟ “ولا يمكن للمؤمنين كجماعة أن يتفادوا هذه المحن، إلّا إذا تخلّوا عن دعوتهم، أو عن بعض منها، أو بعض من جوانبها التي تؤرق أعداء الله؟”
ثم يصل إلى خلاصة القول، فيقول: وخلاصة القول: “إنّ المحن على طريق الدعوة سنّة من سنن الله في الدعوات، وليست نتيجة أخطاء؛ بل عدم تعرّض أصحاب الدعوات للمحن يشكّك في صحة الطريق الذي يسلكونه، وليس من الممكن لأصحاب الدعوات تفادي المحن أو تخفيف حدّتها، أو التقليل منها، أو من مدّتها، مع دوام تمسّكهم بها، وإصرارهم على العمل بها ولها، والفتنة ليست فترة ميتة في حياة الدعوة، لكنّها فترة حيّة لازمة وأساسية”، ومشهور هنا يجعل الآثار السلبية لأخطاء الجماعة دليلاً على صحة الطريق! ما يجعل الفرد الإخواني لا يقبل أبداً أن يراجع فكرته التي هي من عند الله، ولا يراجع الأحداث التي تسبّبت فيها القيادة؛ لأنّها تمّت بقدر الله، ولا يمكن تفاديها، كما أنّها هدية من الله، وليست فترة ميتة ساكنة في تاريخ الإخوان.
نقلا عن حفريات