غسان عبدالخالق
كاتب أردني
إذا قرأت أو سمعت أنّ (الحشّاشين) كانوا يستخدمون الحشيش لتجنيد أتباعهم، فلا تصدّق عينيك أو أذنيك؛ لأن هذه الإشاعة التي تحولت مع الزمن إلى أسطورة، أطلقها الرّحالة الإيطالي ماركو بولو لإشباع نهم المخيّلة الأوروبية التي أولعت بأخبار الحشاشين حتى بلغت بهم مبلغ الخوارق.
ولك أن ترفع حاجبيك تعجباً، إذا علمت بأنّ دافع هذا الإعجاب الشديد، هو إثخان الحشاشين في الفرنجة على صعيد الاغتيالات، حتى صاروا مضرب المثل في الاقتدار على التّخفي والتسلّل وتصفية الخصوم بأعصاب باردة.
وهي مفارقة تصلح لتكون مختبراً نموذجياً للكيفية التي تغدو الضحية وفقها أسيرة الافتتان بجلّادها؛ بل وتتطوع أيضاً لتضخيم صورته وسطوته.
وأيّاً كان الأمر، فالحشاشون الذين حفروا مسمّاهم في عمق اللغة الإنجليزية ( Assassians ) – وهو تحوير للعسّاسين أو الحسّاسين كما أزعم – فرقة شيعية اسماعيلية انشقّت عن الفاطميين في مصر وتوّجت هذا الانشقاق باغتيال الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله، وقد أسّسها الحسن بن الصباح ( 430 – 518 هـ) في أقصى الشمال الإيراني، بعد أن استولى بالمال والحيلة على (قلعة آلموت) العتيدة، التي كانت تتمتع بمواصفات جغرافية وعسكرية نادرة، إلى درجة أنّها صارت قاعدة آمنة وعصيّة ومنطلقاً للاستيلاء على العديد من القلاع التي أتاحت للحشاشين فرصة التمتع بوجود عقائدي وسياسي وعسكري غير مسبوق؛ فهم قد يكونون بناة أول دولة في العالم تتكون ولاياتها من قلاع مترامية ومتباعدة لكنها متواصلة ومتماسكة جداً.
وهم أول من استخدم استراتيجية فِرَق الاغتيالات (الكوماندوز) بدلاً من المواجهات العسكرية التقليدية التي طالما أنهكت أقوى الإمبراطوريات.
ولا أبالغ إذا قلت إنّ هذه الاستراتيجية قد مثّلت المسمار الأول في نعش الدولة السلجوقية التي استنزفتها اغتيالات الحشاشين النوعية لملوكها وأمرائها ووزرائها، فضلاً عما تكبّدته من خسائر مادية وبشرية جرّاء العديد من الحملات العسكرية التي شنّتها للإجهاز على قلاع الحشاشين دون جدوى.
على أنّ هذا الملمح العسكري الدموي في فرقة الحشاشين، لا ينبغي أن يحجب البعد العقائدي الذي شهد كثيراً من التقلّبات، وخاصة في عهد الزعيم الرابع (الحسن علي) الذي نصّب نفسه إماماً وأسقط عن أتباعه كل الفرائض والواجبات المرعية في الإسلام! حتى إذا دُمّرت قلاع الحشاشين في إيران، انتقلت زعامتهم الدينية والسياسية إلى مدينة حلب، حيث نجحوا في إقامة كيان عقائدي وسياسي جديد لهم في بلاد الشام، وبالمواصفات العسكرية نفسها التي شهدتها إيران.
ومن الملاحظ أنّ علاقات الحشاشين مع غيرهم من الدول والإمارات قد اتسمت بالتقلب الشديد؛ فقد ناصبوا السلاجقة العداء واغتالوا عدداً من رموزهم ثم هادنوهم ثم أعلنوا عليهم الحرب مجدداً، وكذا الحال مع العباسيين الذين راح اثنان من خلفائهم ضحية فِرَق الموت الضاربة.
وأما المغول فقد هادنوا الحشاشين مؤقتاً، ثم عادوا بقيادة هولاكو ودمّروا (قلعة آلموت) وغيرها من قلاع الحشاشين، وأعملوا السيف في رقابهم حتى أفنوا أكثرهم، ولو لم يتمكن (الإمام الجُويني) من إقناع المغول بالإبقاء على بعض كتبهم لما عرفنا شيئاً عن عقيدتهم، وخاصة لأن عامة الناس أسهموا في تعقّبهم واجتثاثهم، لما تسبّبوا به من ترويع شديد لهم.
علاقات الحشاشين مع الفرنجة ومع الأيوبيين في بلاد الشام، اتسمت أيضاً بالتقلب الشديد؛ فقد هادنوا الفرنجة تارة وتحالفوا معهم أحياناً ثم انقلبوا عليهم واغتالوا عدداً من ملوكهم وقادتهم حتى اضطروهم لدفع أتاوات مالية في مواعيد ثابتة.
ومن البديهي أنّ يصطدموا بصلاح الدين الأيوبي الذي لم يدخر وسعاً لمحاصرتهم والتضييق عليهم، إلى درجة أنّهم نفّذوا العديد من المحاولات الفاشلة لاغتياله، ما جعله بالغ الحذر منهم واتخذ العديد من الإجراءات والاحتياطات الأمنية الصارمة حتى لا يصلوا إليه! حتى إذا دالت دولة الأيوبيين وبزغ نجم دولة المماليك، جرّد لهم الظاهر بيبرس حملة عسكرية أجبرتهم على التسليم بالطاعة والولاء له، ولم يكتف بذلك، بل فرض عليهم دفع مبلغ مالي سنوي لخزينة الدولة، وأعطى نفسه الحق في تعيين من يراه مناسباً لتسيير أمورهم، فصاروا بذلك مجرّد أقليّة من أقليّات دولة المماليك !
نقلا عن حفريات