شجاع الصفدي
كاتب من غزة
كل يوم في النزوح، أنطلق صباحا للسوق، أتفحص الأسعار، أتفقد السلع المطلوبة، ثم أقرر المشتريات،أشتري عبوات الجبن،الشاي، بعض المعلبات، وأشياء أخرى، أجمع كل ذلك في كرتونة، وأنطلق نحو نقطة ينتظرني فيها ابني ، يضع طاولة في منتصف الشارع بهمجية، يأخذ الكرتونة ويبدأ بعرض البضاعة للبيع.
ينادي بلهجة سوقية” أريعة بعشرة الجبنة”، ويشيح بوجهه للجهة الأخرى كلما نظرت لعينيه.
في بقعة أخرى يذهب ابني الأوسط ويضع كرتونة مماثلة على طاولة ثانية، ويتنقل ابني الأصغر بينهما ليساعد هنا وهناك، وأتنقل ما بينهما خشية أن تحدث معهما أي مشكلات مع البلطجية واللصوص المنتشرين في الأسواق.
كان قد تبقت بضعة أشهر لينهي ابني الثانوية العامة، طموحه أن يصبح جراح أعصاب، ثم أتى السابع من أكتوبر المشؤوم، ليصبح الجراح الموعود بائعا للمعلبات، الشاب الطموح الذي يعشق الكتب ،ويحمل حقيبة ممتلئة بها دوما، أصبحت حقيبته مكتظة بالسلع ، ويحمل “كرتونة ” بها باقي البضاعة التي تنوء بحملها الحقيبة.
بات أبنائي يميلون للعدوانية، المحيط شرس،ولا مكان لرفاهية التهذيب، فالمهذب الهاديء يتعرض للتنمر، وعليه أن يتعايش؛ إما أن يختبيء من الواقع وينطوي، أو يجابه الحقيقة المريرة، ويندمج مع مجتمع قاس وسيء، لا يتيح مجالا للوداعة.
اكتسبوا ألفاظا سوقية، اكتسبوا عدوانية مفرطة، يدهم تسبق ألسنتهم، وكل ذلك يحدث أمامي، ولا أفعل شيئا، توقفت عن التنظير، توقفت عن التربية ،عن النصح ،عن الإرشاد، أنا صاحب الكرتونة الأكبر، أصبح أسلوبي سوقيا، لا أهتم بالذوق، لا أجامل وأبتسم، تلك أشياء تموت في الحرب، أخلاقنا تقتل في الحرب مثل الكثير من أنماط الضحايا.
كل ما نصارع من أجله هو البقاء، البقاء ليس صمودا يتحدث عنه سفهاء الفنادق والرخاء ،وإنما بقاء لنيل فرصة للرحيل ، الهروب من “الكرتونة “، الكرتونة التي جعلتنا نميل للخشونة والفظاظة في حديثنا وتعاملاتنا ، الكرتونة الفادحة التي قزمت طموحاتنا ، وأجهزت على كرامتنا ، وجعلتنا نتعامل مع أسوأ نماذج الخلق بطريقتهم ونتساوق مع سلوكهم، إنه التكيف الذي تذكره النظريات العلمية.
ماذا بعد؟ الإجابة في الكرتونة السحرية، الإجابة في دمعة من عين الشاب الطموح الذي كان يظن أنه سيصبح عالما، وفي العرق الذي يسيل على جبينه وأقرانه من الذين طحنهم بؤس الكرتونة البشع.
كلما استطعت التخلص من المحتويات ، أحرقت الكرتونة لعلها ترحل مرة وللأبد ، لكنها تتجدد مثل الخلايا النشطة في اليوم التالي، كلما نظرت في الأفق بحثا عن أمل، وجدت الكرتونة تطل مثل شاشة عملاقة.
ومحتوياتها لا تتغير ، إنها شاشة تعرض الخراب المتصاعد، خراب البيوت،خراب الأخلاق، خراب المجتمع، خراب النفوس، فالأفق في غزة قاتم، ولا أظن جيلنا سيعيش عمارا.
وأبناؤنا الذين عاشوا ما قبل السابع المشؤوم ليسوا أولئك الذين نراهم، وكل من يوهم نفسه بغير ذلك، يتعامى كيلا يرى الشمس من الغربال.
لقد حطمت هذه الحر.ب ثلاثة أجيال على الأقل، قضت على كل آمالهم وطموحاتهم ومستقبلهم وماضيهم، شوّهت فكرهم وسلوكهم ، وسوف تنعكس على حياة من يكتب له النجاة ، الناجون أيضا سوف تلاحقهم لعنة الكرتونة ومحتوياتها ، المرئية وغير المرئية.
ولا سبيل للخلاص في المدى القريب مطلقا، فللكرتونة أدواتها الكثيرة،ومعاولها المتجذرة، المستعدة دوما لحفر القبور، ودفن الأمل والطموح.
لم يبق لمن أصابتهم لعنة الكرتونة سوى معجزة إلهية ، تحملهم على أجنحتها وتأخذهم بعيدا عن هنا ، لبلاد تستطيع فك اللعنة وتطمس آثار السحر الأسود من قلوبهم.
رحل الذي أضنته الكرتونة، اصطفاه الله بمعجزة حملته من هنا للنجاة الأبدية، كنت أظن المعجزة المنتظرة ستحمله إلى بلادٍ آمنة ،لكنها أقدار مكتوبة.
نقلا عن حفريات