ماريا قبارة
كاتبة سورية
تواجه سوريا اليوم مرحلة حاسمة في تاريخها الحديث، إذ تقف عند مفترق طرق لا بدّ أن يحدّد مصيرها ومستقبلها. هذه المرحلة التاريخية تحمل بين طياتها آمال السوريين في إحداث تغيير جذري، يخرجهم من دائرة القمع والطغيان التي استمرت لعقود تحت حكم النظام الاستبدادي.
ورغم الجراح العميقة التي لا تظهر بوضوح، فإنّ آثار هذه الجراح محفورة في ذاكرة الشعب السوري، وهي نتيجة سياسات الظّلم والاضطهاد التي عانى منها الجميع، بمن فيهم المسيحيون. اليوم، يرتفع صوت الشعب السوري مطالباً بالعدالة والمحاسبة، ليس فقط للقتلة والمجرمين، ولكن أيضاً لأولئك الذين تعاونوا معهم أو غضّوا الطّرف عن ممارساتهم القمعيّة.
كمواطنة سوريّة مسيحيّة، أنتمي إلى الكنيسة الأنطاكيّة وأعمل في مجال اللّاهوت الأرثوذكسي، عشتُ مثل غيري من السوريين تحت وطأة النظام الاستبدادي. وعلى الرغم من انتمائي إلى هذه الكنيسة العريقة التي لها تاريخ طويل في سوريا، لم أقبل أبداً أن يكون وجود المسيحيين مرتبطاً بالتحالف مع الطغاة أو الوقوف في صفّ القهر.
كنت دائماً جزءاً من الحراك المدني الذي ينادي بالعدالة والمساواة لكلّ السوريين، بغضّ النظر عن دينهم أو طائفتهم.
لقد آمنت بشدّة أنّ سوريا المستقبل يجب أن تكون دولة تقوم على العدل والمساواة بين جميع مواطنيها، دون تفرقة طائفية أو مذهبية.
إنّ تاريخ المسيحيين في سوريا جزء لا يتجزأ من تاريخ هذا البلد العريق الذي يمتد لآلاف السنين.
لكن، مثل باقي السوريين، تعرّض المسيحيّون لعدّة انتهاكات واضطهادات على يدّ النظام الاستبدادي.
في الأعوام الأخيرة وجدَ المسيحيون أنفسهم في قلب المعاناة، إذ لم يكن مصيرهم يختلف عن مصير غيرهم من السوريين.
كانت سجون النظام السوري مثل “صيدنايا” و”عدرا” تشهد على عمليات قمع ممنهجة، حيث يُختطف مئات السوريين وغير السوريين من مختلف الجنسيات، بينهم المسيحيون، لمجرد معارضتهم للنظام أو مواقفهم السياسية.
ورغم أنّ هذه المعاناة كانت تشمل جميع السوريين، إلا أنّ ما أصاب المسيحيين كان أيضاً موجهاً ضدّ وجودهم التاريخي في سوريا.
ومع بداية الحراك الثوري، كان من المفترض أن تكون المؤسسات الدينية المسيحية جزءاً من هذا الخطاب الوطني الجامع الذي يدعو إلى التغيير والمحاسبة.
كان من المتوقع أن تكون هذه المؤسسات صوتاً مدافعاً عن حقوق السوريين جميعاً، بمن فيهم المسيحيون.
لكن، للأسف، اختار البعض من القيادات الدينية في المؤسسة الكنسية دعم النظام السابق، معتمدين على شعارات “حماية الوجود المسيحي” و”الدفاع عن وحدة البلاد”، وهي شعارات كانت تغطي على سياسات النظام القمعية.
وبينما كان الشعب السوري يعاني من القمع، استمر القادة المسيحيون وبعض الشخصيّات الدينية الأخرى في دعم النظام، مدّعين أنّه “حامي الوجود المسيحي”، دون أن يلتفتوا إلى حقيقة أنّ هذا النظام كان وراء الكثير من مآسي الشعب السوري.
اليوم، وفي ظلّ هذه الظروف التاريخية، سوريا بحاجة إلى خطاب جديد يعكس تطلعات جميع مواطنيها في بناء دولة مدنية حديثة قائمة على العدالة والمساواة.
هذا المستقبل يحتاج إلى شجاعة من جميع الأطراف، بما في ذلك المؤسسات الدينية، التي يجب أن تتبنى مواقف تحترم الحقيقة وتعمل على محاسبة كلّ من أساء إلى الشعب السوري.
يجب أن يتمّ بناء سوريا المستقبل على أساس الشفافية والعدالة التي تشمل جميع الطوائف والمكونات، ويجب أن يكون هناك مكان لجميع السوريين، من مسلمين ومسيحيين وأكراد وغيرهم.
إنّ بناء سوريا جديدة يتطلّب من الجميع أن يتّخذوا مواقف شجاعة، وأن يكون هناك تركيز على العدالة والمصالحة، وأن تعمل المؤسسات الدينية على تعزيز ثقافة التسامح والعدالة بدلاً من الاستمرار في دعم الأنظمة الظالمة.
إنّ الطريق إلى سوريا المستقبل سيكون مليئاً بالتحديات، لكن بإرادة الشعب السوري يمكننا بناء وطن جديد يعكس قيم الحرية والكرامة. يجب أن نعمل معاً من أجل سوريا التي نطمح إليها، سوريا التي لا تنحاز إلى طائفة أو فئة معينة، بل تحتضن جميع أبنائها في إطار من المحبة والتسامح.
سوريا المستقبل بحاجة إلى نهضة جديدة، نهضة تقوم على أساس من المحاسبة والمصالحة، حيث يتم احترام حقوق جميع المواطنين دون استثناء.
هذه النهضة تتطلب شجاعة من الجميع، خاصة المؤسسات الدينية، التي يجب أن تتحلّى بالقدرة على الاعتراف بالأخطاء والقيام بمسؤولياتها التاريخية.
نفلا عن حفريات