بابكر فيصل
لا يرتبط فشل تجربة جماعة الإخوان المسلمين في الحكم بالتطبيق العملي فقط كما يقول مناصروها، بل هو فشل كامن في أصول الأفكار وطرائق التنشئة التي يتربى عليها العضو المنتمي للجماعة، وبالتالي فإن أية حديث أو محاولة لمراجعة التجربة يجب ألا تقتصر على نقد الممارسة العملية، بل أن تبدأ من النظر والتنقيب في تلك الأصول النظرية وفي أساليب التربية المرتبطة بها.
يعتبر مفهوم البيعة من المفاهيم الأساسية التي لا يكتمل دونها إنتساب العضو للجماعة، أي أن يصبح عضوا عاملا، وهو المدخل الذي يتم من خلاله ضمان خضوع ذلك العضو لأفكار الجماعة وأهدافها وأساليب التربية الداخلية، وهي كذلك تمثل سبيل الإطمئنان إلى تأكيد ولائه لقيادتها.
وتنبني بيعة جماعة الأخوان المسلمين كما وردت في “رسالة التعاليم” للمرشد المؤسس حسن البنا على عشرة أركان هي: الفهم، الإخلاص، العمل، الجهاد، التضحية، الطاعة، الثبات، التجرد، الأخوة، والثقة، وترتبط بهذه الأركان “واجبات الأخ العامل” التي تتضمن ثمانية وثلاثين واجبا.
وسأتناول في هذا المقال ركن العمل، لتبيان تعارضه الجذري مع أساليب العمل داخل الأحزاب السياسية التي تتبنى المناهج الحديثة المستندة على الإختيار الحر والتداول الديموقراطي للآراء من أجل اتخاذ القرارات، وكذلك مخالفتها للرؤى التي تقوم عليها الأحزاب المدنية التي تنشأ في الأساس لتحقيق المصلحة الوطنية كغاية أخيرة وهدف نهائي.
وقبل الخوض في ذلك النقاش أود بداية أن أتناول تعريف الجماعة لنفسها، وهل هي جماعة دينية أم حزب سياسي؟ وإذا لم تكن حزبا سياسيا فهل يمكن أن ينشأ من داخلها حزب يتميز عنها ولكنه يتنبى أفكارها ومناهجها التربوية لخوض غمار العملية السياسية وفقا لقواعدها الشائعة والمعروفة؟
يقول حسن البنا في رسالة المؤتمر الخامس إن دعوة الإخوان المسلمين “دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة إقتصادية، وفكرة إجتماعية”، وهذا تعريف مبهم وفضفاض لا يمكن ربطه بالمفهوم المعروف للحزب السياسي.
ومن ناحية أخرى فإن البنا ينفي أن تكون الجماعة حزبا يسعى لخوض غمار العملية السياسية، فتجده يقول في رسالة المؤتمر السادس “أما أننا سياسيون حزبيون نناصر حزبا ونناهض آخر فلسنا كذلك ولن نكونه، ولا يستطيع أحد أن يأتي على هذا بدليل أو شبه دليل”.
هذا الغموض الذي اكتنف تعريف طبيعة الجماعة خلق منذ البداية تداخلا ضارا بين المفاهيم الدينية والأخرى السياسية التي تقوم عليها الأحزاب وتستقطب بها عضويتها وتبني عليها أسس التنشئة والتربية الداخلية. وعندما جاءت التجربة العملية في مصر، وقررت الجماعة خوض العملية السياسية من أجل الوصول للسلطة لم تجد مناصا من إنشاء حزب يحتفظ بمسافة من الجماعة ويسعى لتحقيق أهدافها، وهنا برزت المعضلة.
فشل الحزب الذي خرج من عباءة الجماعة في ممارسة دوره كحزب سياسي له هياكل معروفة وبرنامج وقيادة، حيث ظلت قيادة الجماعة ممثلة في مكتب الإرشاد تسير عمل الحزب بصورة مبطنة، وأضحى مرشد الجماعة هو الرئيس الفعلي للحزب ذلك لأن رئيس الحزب المعلن محكوم ببيعة أداها للمرشد ولا يستطيع الخروج عليها، ولم يك لديه أية صلاحيات سوى تلك المستمدة من وجوده كعضو في مكتب الإرشاد مع آخرين.
وفي تجربة السودان كذلك ظلت “الحركة الإسلامية”، والتي هي بمثابة الجماعة في مصر، تحكم مسيرة مختلف التشكيلات السياسية التي تسمت بها التنظيمات المنبثقة عنها وآخرها الجبهة الإسلامية القومية. واستمر ذلك الوضع إلى أن تم حل مجلس شورى الحركة الإسلامية والذي تبعه حل كل أجهزة الحركة في أعقاب نجاح إنقلاب حزيران/يونيو 1989 واستلام السلطة.
هذه المقدمة عن طبيعة تكوين الجماعة ضرورية لأنها تفسر وجه الخلل الرئيسي والفساد الذي ينشأ عن إستقطاب العضو وتربيته وتنشئته وتدريبه على أساس مفاهيم دينية لا تتماشى، بل وتتعارض بصورة أساسية، مع المنطلقات التي يتم عبرها الإنتماء للحزب السياسي ويتم من خلالها تعريف كيفية إتخاذ القرار وتداول المناصب وطبيعة العلاقة مع القيادة وإلى آخر ذلك من الأمور.
وهذا الوجه من أوجه الفساد لا يلغيه قيام الجماعة بإنشاء حزب منفصل عنها، ذلك لأن الكادر الأساسي الذي سيقوم على أمر هذا الحزب هو نفسه الذي نشأ وتربى في حضن المفاهيم والأفكار التي تحملها الجماعة، وبالتالي فإنه سيعجز عن إدارة شؤون الحزب وفقا للأسس التي تدار بها الأحزاب المدنية، وهذا أمر حتمي.
البيعة مفهوم إسلامي ليس له صلة بعملية الإختيار الحر والانتخاب في الأحزاب والنظم الديموقراطية الحديثة. والبيعة بحسب التجربة التاريخية الإسلامية تظل في عنق المسلم حتى وفاة المبايع، خليفة أو إماما وهي لا تحتمل التغيير، ولا تُنتقض إلا بشروط معينة، وإذا تم نقضها بغير تلك الشروط فإن ذلك يعتبر خروجا على الحاكم يستوجب القتال.
الركن الأول من أركان بيعة الأخوان المسلمين هو “العمل” الذي يُعرفه البنا بأنه “ثمرة العلم والإخلاص”، ويقول إن “مراتب العمل المطلوبة من الأخ الصادق” هى سبع مراتب تشمل: إصلاح نفسه، وتكوين بيت مسلم، وإرشاد المجتمع، وتحرير الوطن، وإصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق، وإعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، وأخيرا أستاذية العالم.
وعلى الرغم من الغموض والضبابية التي تعتري الكيفية التي ستصبح بها الحكومة “إسلامية بحق”، خصوصا بعد التجربة الفاشلة في السودان، إلا أن الخطورة تكمن في الحديث عن إعادة الكيان الدولي للمسلمين، حيث تقول البيعة: “إعادة الكیان الدولي للأمة الإسلامیة بتحریر أوطانها وإحیاء مجدها وتقریب ثقافتها وجمع كلمتها، حتى یؤدى ذلك كله إلى إعادة الخلافة المفقودة والوحدة المنشودة”.
ويوضح البنا في رسالة “إلى الشباب” أن إعادة ذلك الكيان الدولي للمسلمين لن تتم إلا باستعادة المستعمرات الإسلامية السابقة في أوروبا: “ونريد بعد ذلك أن تعود راية الله خافقة عالية على تلك البقاع التي سعدت بالإسلام حينا من الدهر ودوى فيها صوت المؤذن بالتكبير والتهليل، ثم أراد لها نكد الطالع أن ينحسر عنها ضياؤه فتعود إلى الكفر بعد الإسلام. فالأندلس وصقلية والبلقان وجنوب إيطاليا وجزائر بحر الروم، كلها مستعمرات إسلامية يجب أن تعود إلى أحضان الإسلام، ويجب أن يعود البحر الأبيض والبحر الأحمر بحيرتين إسلاميتين كما كانتا من قبل”.
وأما أستاذية العالم فتشرحها البيعة بالقول: “وأستاذیة العالم بنشر دعوة الإسلام في ربوعه “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ویكون الدین كله لله” الأنفال: 39، “ویأْبى الله إِلا أَن یُتِمَّ نوره ولو كَره الكَافرون” التوبة: 32″.
نحن هنا بإزاء دعوة كونية لا ترتبط بالحدود الوطنية التي تلتزم بها الأحزاب، وهي دعوة تنادي بعودة الخلافة الإسلامية، بل أكثر من ذلك هى لا تتورع عن إستخدام آية قرآنية تدعو لقتال الآخر غير المسلم من أجل إكمال السيطرة على العالم.
نقلا عن الحرة نت