بابكر فيصل
أشرت في المقال السابق إلى أن الهدف النهائي لجماعة الإخوان المسلمين كما جاء في ركن “العمل”، وهو أحد أركان البيعة، هو تحقيق ما أسماه المرشد المؤسس حسن البنا بأستاذية العالم، وهو حلم يتجاوز حدود الأوطان الحالية للمسلمين، ويحقق السيطرة الكونية للجماعة.
هذه الفكرة الأممية العابرة للحدود كان قد شرحها البنا في رسالة “الإخوان تحت راية القرآن” بالقول: “ولكننا أيها الناس: فكرة وعقيدة، ونظام ومنهاج، لا يحدده موضع، ولا يقيده جنس، ولا يقف دونه حاجز جغرافي، ولا ينتهي بأمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ذلك لأنه نظام رب العالمين، ومنهاج رسوله الأمين”.
وكذلك يوضح البنا في رسالة “إلى الشباب” الهدف النهائي من أستاذية العالم بقوله: “نريد بعد ذلك ومعه أن نعلن دعوتنا على العالم وأن نبلغ الناس جميعا، وأن نعم بها آفاق الأرض، وأن نُخضع لها كل جبار، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم”.
ولا تتحقق هذه الأستاذية إلا عبر مفهوم “الجهاد” الذي يشكل أحد أركان البيعة الإخوانية، والذي يقول عنه البنا في نص البيعة “وأريد بالجهاد.. الفریضة الماضیة إلى یوم القیامة والمقصود بقول رسول الله صلى الله علیه وسلم: “من مات ولم یغز ولم ینو الغزو مات میتة جاهلية”، وأول مراتبه إنكار القلب، وأعلاها القتال في سبيل الله”.
من المؤكد أن استعادة الخلافة وتحرير المستعمرات الإسلامية السابقة وإخضاع كل جبار لن يتم إلا عن طريق تطبيق المرتبة الأعلى للجهاد والمتمثلة في “القتال في سبيل الله” إذ ليس من المُتصور أن تتحقق عبر إنكار القلب.
والواقع أن مفهوم الجهاد في ممارسة الإخوان المسلمين يتحول عمليا إلى وسيلة المجابهة العنيفة للآخر المختلف حتى وإن كان مسلما.
وهذا الأمر يتبين من خلال الركن الثالث في البيعة والمتمثل في “التجرد”، والذي يشرحه البنا بالقول: “أريد بالتجرد: أن تخلص لفكرتك مما سواھا من المبادئ والأشخاص، لأنها أسمى الفكر وأجمعها وأعلى (صبغةَ لله ومن أَحسن من الله صبغة) البقرة: 138”.
إن خطورة وصف أفكار الجماعة بأنها “أعلى صبغة لله” تتمثل في تنشئة كادر يعتقد في أنه يمتلك الحق المطلق وأن من سواه من المسلمين أو غيرهم ليسوا سوى منحرفين عن ذلك الحق، وهو الأمر الذي أعلنه البنا صراحة في خطابه أمام “اجتماع رؤساء المناطق ومراكز الجهاد” حيث قال “إن لنا سلاحا لا يفل ولا تنال منه الليالي والأيام هو “الحق” والحق باق خالد والله يقول: (بل نقذف بالحق على الْباطل فيدمغه فإِذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون) الأنبياء: 18).
امتلاك الإخوان للحق يمنحهم سلطة تمثيل الإسلام، وبالتالي تصنيف المسلمين وغيرهم من خلال بعدهم أو قربهم من فكرة الإخوان بإعتبار أنها هي المعيار الذي يقاس عليه الإسلام الحق وما عداها هو الباطل. وهكذا يصنف البنا الناس بالقول “والناس عند الأخ “المسلم” الصادق واحد من ستة أصناف: مسلم مجاھد، أو مسلم قاعد، أو مسلم آثم، أو ذمي معاھد، أو محايد، أو محارب، ولكل حكمه في میزان الإسلام”.
هذا التصنيف هو المدعاة الأكبر لاستخدام العنف من قبل أعضاء الجماعة ضد الآخر المختلف. وهو كذلك المسؤول عن تكوين النفسية الحربية لدى الكادر، وهي نفسية لا تتماشى مع أبسط القواعد التي ينشأ عليها الحزب السياسي ومع الديموقراطية التي تنبني في الأساس على فكرة إدارة الاختلاف بالطرق السلمية.
ومما يفاقم من الأثر السلبي لظاهرة العنف وتكوين الكادر الحربي هو الركن الرابع من أركان البيعة المتمثل في “الطاعة”، والتي يعرفها البنا بالقول: “وأريد بالطاعة: امتثال الأمر وإنفاذه توا في العسر واليسر والمنشط والمكره”.
ويقسم البنا الطاعة الواجبة بحسب مراحل في الدعوة الثلاث والمتمثلة في: التعريف والتكوين والتنفيذ. ويقول إن الطاعة التامة في المرحلة الأولى (مرحلة التعريف) والتي تعنى بالدعوة عن طريق نشر الفكرة العامة بين الناس لیست لازمة بقدر ما یلزم فیها احترام النظم والمبادئ العامة للجماعة، أما (مرحلة التكوين) فيقول إنها تُعنى: “باستخلاص العناصر الصالحة لحمل أعباء الجهاد وضم بعضها إلى بعض، ونظام الدعوة ـ في هذه المرحلة ـ صوفي بحت من الناحیة الروحیة، وعسكري بحت من الناحیة العملیة، وشعار هاتین الناحیتین “أمر وطاعة” من غیر تردد ولا مراجعة ولا شك ولا حرج، وتمثل الكتائب الإخوانیة هذه المرحلة من حياة الدعوة. والدعوة فیها خاصة لا یتصل بها إلا من استعد استعدادا تاما حقیقیا لتحمل أعباء جهاد طویل المدى كثیر التبعات، وأول بوادر هذا الاستعداد كمال الطاعة” كما جاء في “رسالة التعاليم” للبنا.
أما مرحلة التنفيذ، بحسب “رسالة التعاليم”، فهي: “مرحلة جهاد لا هوادة فیه، وعمل متواصل في سبیل الوصول إلى الغایة، وامتحان وابتلاء لا یصبر علیهما إلا الصادقون، ولا يكفل النجاح في هذه المرحلة إلا كمال الطاعة كذلك وعلى هذا بایع الصف الأول من الإخوان المسلمین في یوم 5 ربیع الأول سنة 1359 هجري (نيسان/أبريل 1940)، وأنت بانضمامك إلى هذه الكتیبة، وتقبلك لهذه الرسالة، وتعهدك بهذه البیعة، تكون في الدور الثاني، وبالقرب من الدور الثالث، فقدِّر التبعة التي التزمتها وأعد نفسك للوفاء بها”.
نحن هنا بصدد تربية عسكرية وتقسيمات حربية “كتائب”، ولسنا إزاء تنشئة حزبية وتشكيلات مدنية. وأهم ما يميز هذا البناء المقاتل هو الطاعة المطلقة للقيادة، وهذا نقيض ما يحدث في التنظيم السياسي الحديث الذي لا ينهض ويقوى إلا بتوفر حرية النقد والاختلاف، ولا ينمو ويتطور إلا بالحيوية المدفوعة بالمسائلة التي تطال القيادة وتضعها تحت المراقبة الدائمة لضمان عدم الانحراف.
نقلا عن الحرة نت