جوناثان سباير
في أواخر فبراير/ شباط 2012، كنت مسافراً عبر محافظة إدلب السورية، ومكثت بضعة أيام في بلدة تدعى بنش، ليست بعيدة عن عاصمة المحافظة.
وكانت البلدة آنذاك تحت السيطرة المؤقتة للتمرد الذي بدأ حديثاً ضد نظام بشار الأسد.
كان المضيف الشاب للمكان الذي كنت أقيم فيه ـ وسأطلق عليه اسم “د” ـ مرتبطاً بالهياكل الناشئة لما كان يُعرف في ذلك الوقت على نطاق واسع باسم “الجيش السوري الحر”، ولكن من خلال أحد أبناء عمومته، كان له أيضاً صلات بمجموعة أخرى من المقاتلين الذين كانوا في طور التنظيم في البلدة.
وكان هؤلاء الرجال أكبر سنّاً قليلاً من أعضاء الجيش السوري الحر، وكانوا إسلاميين سُنَّة في مظهرهم وتوجهاتهم. أخبرني “د” أن “هذا الشيء [الحرب الأهلية] بدأ في إدلب، وسوف ينتهي في إدلب أيضاً”.
بدا هذا تصريحاً مبالغاً فيه في ذلك الوقت.
كان جيش الأسد لا يزال يسيطر على الجزء الأعظم من المحافظة، ولم يكن لدى المتمردين سوى عدد قليل من البنادق لاستخدامها في مواجهة الآلة العسكرية للدكتاتور.
ولكن كما اتضح، كان “د” محقّاً، ليس فقط في مشاعره العامة بأن التمرد سوف ينتصر، بل وأيضاً في تنبئه الدقيق بأن الدوائر الإسلامية المنظمة في بنش في ذلك الوقت، والتي كانت بمثابة نسخة مبكرة لما سيصبح في النهاية هيئة تحرير الشام، هي من سيجلب النصر. فعلى عكس كل التوقعات، اندلعت الثورة الإسلامية السُنية السورية في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني من محافظة إدلب، التي نسيها العالم منذ فترة طويلة، لتخوض رحلتها المظفرة الأخيرة عبر المدن السورية إلى دمشق.
ونتيجة لهذه الخطوة الجريئة، أصبح زعيم هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع / أبو محمد الجولاني، الآن الحاكم الفعلي للعاصمة السورية.
وتدرس وسائل الإعلام والحكومات الغربية كل ما يقوله في محاولة لفهم ما قد يخبئه المستقبل في سوريا. هل تراجع عن موقفه؟ هل لا يزال جهاديّاً؟ هل هناك آمال في حكومة أكثر تمثيلاً في سوريا؟
ولكن هناك طريقة أفضل من تحليل كل عبارة يتفوه بها الجولاني لمحاولة فهم ما قد ينتظرنا في المستقبل.
ففي الفترة ما بين 2017 و2024، كان الجولاني وحركته الحكام الفعليين لمحافظة إدلب.
لذا، فإن المراقبة الدقيقة لكيفية حكمهم هناك من المرجح أن تسفر عن المزيد من الدلالات على اتجاه الأحداث الآن مقارنة بتحليل تصريحات الجولاني البارع في العلاقات العامة.
ولكن ماذا يخبرنا سجل الجولاني وهيئة تحرير الشام في الحكم؟ قبل أن نتعمق في هذا الموضوع، ربما يكون من المهم أن نشيد بالرجل الذي جعل حكم هيئة تحرير الشام في إدلب ممكناً في المقام الأول، والذي اتضح من خلال قيامه بذلك أنه حقق ضربة استراتيجية عبقرية.
والشخص الذي يستحق الثناء على هذا ليس الجولاني، بل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
كان رفض أردوغان العنيد لسحب البساط من تحت أقدام التمرد المهزوم على ما يبدو، وتصميمه على الاحتفاظ بركن صغير له في شمال غرب سوريا، هو الحاضنة الأولى لكل ما يحدث الآن.
لقد رأت الحكومات الغربية أن قرار الزعيم التركي يمثل رفضاً غريباً لقبول حقيقة واضحة. وفي الوقت نفسه، كانت روسيا ونظام الأسد سعداء باستغلال ذلك.
وتم نقل المتمردين في أجزاء أخرى من البلاد الذين رفضوا “المصالحة” مع النظام بالحافلات إلى الجيب التركي الصغير في الشمال الغربي، الذي كان في نظرهم مكاناً مناسباً لإلقاء جثث المتمردين الذين لا يمكن التصالح معهم.
وافترضت موسكو والأسد أن هؤلاء الرجال لا أهمية لهم وسرعان ما سيطويهم النسيان.
ولكن بدلاً من ذلك، كانت هذه الحاضنة هي المركز الذي انطلقت منه هيئة تحرير الشام في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني لإسقاط حكم الأسد.
إذن، ما الذي يمكن تعلمه من تجربة هيئة تحرير الشام التي استمرت سبع سنوات في الحكم في إدلب؟ أجرى الباحث أليكس جرينبيرج دراسة دقيقة لسجل الهيئة في عمل من المقرر أن ينشره قريباً. فماذا وجد؟
أولاً، لم ترتكب هيئة تحرير الشام في إدلب تجاوزات جنونية مثل تلك التي ارتكبها منافسوها الجهاديون في تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
لم يكن هناك استعباد للنساء غير المسلمات (هذا ليس صحيحاً تماماً.
فقد عُثر على عدد قليل من سبايا داعش كنّ محتجزات لدى عائلات من التنظيم شقت طريقها إلى إدلب بعد سقوط الدولة الإسلامية، ولكن مؤسسة العبودية لم توافق عليها هيئة تحرير الشام رسميّاً).
ولم تكن هناك محاولات قتل جماعي لمن يُنظر إليهم على أنهم عبدة الشيطان، ولا أي من الجنون المروع الذي ارتبط باسم تنظيم داعش خلال فترة حكمه.
ولكن، من ناحية أخرى، كانت الدولة التي تأسست في إدلب دولة قمعية استبدادية تحكم وفقاً للشريعة الإسلامية.
وكان لزاماً على النساء ارتداء الحجاب، كما كانت الكحول والموسيقى وغيرها من أنشطة الترفيه العادية محظورة.
ولم يكن يُسمح بأي معارضة لأوامر قادة هيئة تحرير الشام.
كذلك لم يكن يُسمح لغير المسلمين والنساء بالتواجد في الهيئات التمثيلية [الرسمية] التي أنشئت.
وكان الجولاني، زعيم الجماعة، بمثابة الديكتاتور الفعلي للمحافظة.
وفي سجونه، كان الحبس دون محاكمة وممارسة التعذيب أمراً روتينياً.
والآن، من الواضح أن النظام الذي طورته “حكومة الإنقاذ السورية” التي أنشأها الجولاني في إدلب سيتم نسخه وتثبيته في جميع أنحاء البلاد، أو على الأقل في تلك الأجزاء التي يسيطر عليها (30٪ من سوريا لا تزال في أيدي القوات الكردية السورية)، حتى إنه عين هذا الأسبوع “رئيس وزرائه” من تلك الأيام، محمد البشير، رئيساً مؤقتاً للحكومة في دمشق.
وعلى صعيد الأفكار التي ترتكز عليها إدارة هيئة تحرير الشام في إدلب، فإن أعلى سلطة دينية في الجماعة هي عبد الرحيم عطون.
ويمكن استخلاص مواقف عطون من الحكم وإدارة الدولة من محاضرة ألقاها في سبتمبر/ أيلول 2021 في إدلب بعنوان “الجهاد والمقاومة في العالم الإسلامي: طالبان نموذجاً”.
في موضع آخر، وفي إشارة إلى هجمات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، قال عطون إن “ما يقوم به المجاهدون في سبيل الله تعالى في معركة طوفان الأقصى هو أعظم عمل للإسلام في هذا العصر، وهو جهاد مبارك لردّ العدوان والدفاع عن الدين”.
ويقارن عطون بين زحف هيئة تحرير الشام من إدلب إلى دمشق وهجمات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ويطلب من “الله أن يفضح اليهود ويكبتهم ويلعنهم مع من يساندهم ويدعمهم ضد المجاهدين”.
إن عطون هو أعلى سلطة دينية في هيئة تحرير الشام، وبالتالي يمكن عدّه مرشد الجولاني في هذه الأمور.
إن هذه الجماعة، وهذه الرؤية، هي ما أشار إليه مضيفي “د” بوصفها القوة التي ستبدأ وتنهي الحرب الأهلية السورية في إدلب، وهو ما حدث بالفعل.
هذه هي القوة التي احتضنتها المحافظة على مدى سبع سنوات، والتي يجري توسيع نطاقها الآن في سوريا كلها بفضل الرؤية الاستراتيجية المثيرة للإعجاب لأردوغان.
االمصدر : المركز العربي لدراسات التطرف