سامح إسماعيل
كاتب مصري
ربما يتشابه الوصول المفاجئ لهيئة تحرير الشام إلى الحكم في سوريا مع عودة حركة طالبان إلى السلطة في أفغانستان في آب (أغسطس) 2021 بشكل أو بآخر.
وكذا فإنّ التصريحات التي أدلى بها أحمد الشرع عشية السيطرة على العاصمة دمشق تتشابه هي الأخرى مع تلك التي أدلى بها الملا عبد الغني برادار، نائب رئيس وزراء طالبان، في أيلول (سبتمبر) 2021، والتي قال فيها: “نحن نعمل على إنشاء حكومة شاملة تمثل جميع سكان أفغانستان”.
وبالمثل كان سقف التوقعات عالياً، حيث راهن كثيرون على التطور السياسي للحركة، وزعم آخرون أنّها أصبحت أكثر اعتدالاً عن ذي قبل.
على أرض الواقع كشفت الممارسة العملية عن فشل كل هذه التوقعات، فقد أعلنت طالبان التزامها بمفهوم الجهاد، وأعطت الأولوية للمُثُل الأصولية على حساب المُثُل الديمقراطية، ورفضت المشاركة في أيّ حوار وطني. ومؤخراً بدأت في العودة إلى تشددها فيما يتعلق بحقوق المرأة والأقليات.
ويمكن القول إنّ هيئة تحرير الشام ذهبت إلى المناورة ذاتها باستخدام الخطاب نفسه؛ من أجل تسهيل عملية الانتقال الآمن للسلطة، ولتحقيق جملة من الأهداف السياسية والاقتصادية، وتعزيز الجهود الرامية إلى حشد الدعم والاعتراف الدوليين بالنظام الجديد.
وعلى الرغم من أنّ السياق الجيوسياسي لسوريا وبنيتها الاجتماعية الداخلية يختلفان عن تلك الموجودة في أفغانستان، لكنّ هيئة تحرير الشام تبدو مقيدة بتطلعات قواعدها، والبنية الأصولية لحواضنها الاجتماعية، ممّا يجعل حركتها تجاه إدارة التنوع في سوريا ثقيلة للغاية، الأمر الذي يضعف باستمرار من قدرتها على التكيف مع القيم الديمقراطية.
طالبان تغازل حكام سوريا الجدد
في الثامن من كانون الأول (ديسمبر) الجاري هنأت الحكومة الأفغانية بقيادة حركة طالبان الشعب السوري على الإطاحة بنظام الرئيس بشار الأسد، وقالت وزارة الخارجية التابعة لطالبان في بيان لها: “إنّ انهيار الحكومة السورية أدّى إلى إزالة عامل الصراع وعدم الاستقرار”.
وأعربت عن أملها في أن تؤدي عملية انتقال السلطة في سوريا إلى إنشاء حكومة تقوم على “تحقيق تطلعات الشعب، وإعلاء القيم الإسلامية”.
وفي 28 كانون الأول (ديسمبر) الجاري أعرب القائم بأعمال وزير الخارجية الأفغانية أمير خان متقي، خلال محادثة هاتفية مع وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، عن أمله في أن تتمكن الإمارة الإسلامية وسوريا من إقامة علاقات دبلوماسية دائمة.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأفغانية حافظ ضياء أحمد تاكال: إنّ متقي هنأ سوريا على انتصارها، وأشاد بسياسات الحكومة السورية الجديدة، بشأن العفو العام والحكم الرشيد. وأضاف تاكال أنّ وزير الخارجية السوري أعرب خلال الاتصال الهاتفي أيضاً عن أمله في توسيع العلاقات بين البلدين، وأن تعقد وفود الجانبين لقاءات ومناقشات متواصلة.
وربما يمثل انفتاح طالبان على الحكومة الجديدة في دمشق خطوة نحو فك العزلة الدولية من جهة، وشد الخط على استقامته تجاه تكوين حزام إسلاموي، يمتد من دكا إلى دمشق، ومركزه في كابول، من جهة أخرى.
طوق سنّي برعاية واشنطن
تأتي تحركات طالبان نحو دمشق بالتزامن مع التحولات السياسية الحادة التي يشهدها المحيط الآسيوي.
ففي بنغلاديش، ومنذ آب (أغسطس) الفائت، وفي أعقاب سقوط نظام حسينة واجد، يبدو الصعود السياسي المدوي للحركات الإسلامية، وعلى رأسها الجماعة الإسلامية، في ازدياد، وتسعى الجماعة الإسلامية حالياً نحو تكوين تحالف كبير من التيارات الإسلامية، بما في ذلك حركة حفظة الإسلام الراديكالية.
وفي هذا السياق، فتحت الجماعة حواراً مع الغرب، وزار أمينها العام ميا غلام باروار العاصمة البريطانية لندن، والتقى عدة مسؤولين أمنيين، وأعرب عن التزام الجماعة الإسلامية تجاه المرأة والأقليات الدينية.
كما ظهر باروار في العاصمة اليابانية طوكيو، وقدم نفسه في صورة عصرية لحاكم مسلم محتمل يتماهى وقيم الحداثة.
كما عقد أمير الجماعة الإسلامية شفيق الرحمن لقاءات متعددة مع سفراء السويد والدنمارك والنرويج، ومارس الخطاب نفسه الذي يبدو معتدلاً، من أجل الحصول على الدعم الغربي للمسار السياسي للجماعة، والتي قررت التوافق مع الحكومة الانتقالية، ودعم قائد الجيش واكر الرحمن الذي أطاح بالشيخة حسينة.
ويبدو المعادل السياسي الأكثر خطورة في بنغلاديش هو التنسيق التركي المتواصل مع الجماعة الإسلامية، الذي يتم بوساطة رامز شين، السفير التركي في دكا، والذي سهل مهمة سفر الأمين العام للجماعة الإسلامية ميا غلام إلى إسطنبول، للمشاركة في مؤتمر الاتحاد الإسلامي الدولي للطلاب في تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، والتقى باروار مع قيادات تركية، سياسية وأمنية، على هامش المؤتمر، لبحث خطط الجماعة المستقبلية للهيمنة على الحكم في بنغلاديش، في ظل تراجع الدعم الشعبي للحزب الوطني البنغالي.
كما قام وفد من اتحاد الحقوقيين الدولي، ومقره تركيا، بزيارة المكتب المركزي للجماعة الإسلامية البنغالية يوم 10 كانون الأول (ديسمبر) الجاري، والتقى أمير الجماعة شفيق الرحمن، وبحث معه الأطر القانونية التي تعتزم الجماعة الالتزام بها، في حال وصولها إلى الحكم.
وفي الوقت نفسه تقوم الجماعة الإسلامية في باكستان، والتي باتت تمتلك الحركة في الشارع، في ظل القيادة الجديدة للأمير حافظ نعيم الرحمن، بحراك سياسي غير مسبوق، وقد نجحت في توظيف الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، ونظمت مليونيات شعبية، فتحت بالتزامن معها الباب أمام تسجيل عضويات جديدة بالجماعة.
الجماعة الإسلامية، المعروفة بقوة علاقتها مع تركيا، سعت إلى بناء تحالف قوي مع حركة الإنصاف بغية تضييق الخناق على الحكومة، ونجحت في شل اقتصاد البلاد من خلال إضراب واسع دفع الحكومة إلى الرضوخ في نهاية الأمر لمطالبها، والإذعان بشأن إلغاء عقود منتجي الطاقة المستقلين.
ومنذ أيام طالب علي أمين غاندابور، رئيس وزراء إقليم خيبر بختونخوا الباكستاني، معقل الجماعة الإسلامية، بعقد محادثات سلام مع حركة طالبان الأفغانية بداعي ضمان الأمن الإقليمي.
وانتقد تقاعس الحكومة الفيدرالية في هذا السياق؛ الأمر الذي يشي بتشكل مشروع إسلاموي إقليمي في قلب آسيا، يدور حول المركز في أفغانستان، ويشمل في دائرته الجيوسياسية باكستان وبنغلاديش، وسوريا في دائرته الأكبر.
وربما لا تجد واشنطن حرجاً من دعم هذا المشروع، بهدف إحداث توازن مع المشروع الإيراني المعادي الذي لم يعد له ظهير خلفي سوى الدائرة الآسيوية، بعد قطع أذرع إيران في سوريا ولبنان؛ ومن ثمّ فإنّ الطوق السنّي يستطيع التمدد على حساب طهران، وضمّ أراضٍ جديدة، ممّا يعني أننا بصدد موجة إسلاموية سنّية قابلة للتمدد بدعم من واشنطن وأنقرة.
روسيا تستبق الأحداث
وتحسباً لذلك، أقرّ البرلمان الروسي مؤخراً مشروع قانون من شأنه أن يؤدي إلى تطبيع العلاقات مع الجماعات المصنفة حالياً كمنظمات إرهابية، بما في ذلك حركة طالبان الأفغانية وهيئة تحرير الشام.
وتدرك روسيا خطورة وجود طوق سنّي معادٍ لها على تخومها الجنوبية، وفي ظل تورطها في المستنقع الأوكراني تسعى موسكو إلى احتواء الأمر، وهو ما دفع رمضان قديروف، زعيم الشيشان وصديق بوتن المقرب، للدعوة إلى إزالة هيئة تحرير الشام السورية من قائمة الإرهاب الروسية.
ويمكن القول إنّ قديروف، الذي يحكم دولة إسلامية موالية لروسيا، هو أداة موسكو المثالية لاحتواء هذا الطوق وعدم الدخول في صدام مع أطرافه، وربما تحاول موسكو في الأيام القادمة تطبيع العلاقات مع حكومة طالبان، ومواصلة سياسة التهدئة مع هيئة تحرير الشام، ممّا يعني أنّ إيران سوف تكون في كل الأحوال الخاسر الأكبر في لعبة التوازنات الجديدة.
المصدر : حفريات