سهير السمان
كاتبة يمنية
لا يقتصر اليوم دور السينما، أو كما تُسمّى الفن السابع، على الترفيه والمتعة، بل تعدى ذلك ليصبح اليوم من أهم وأقوى الوسائل لنشر الأفكار التنويرية، ووسيلة لتحريك العقل والانطلاق بالخيال البشري نحو عالم آخر موازٍ، فظهرت أفلام الخيال العلمي، والفنتازيا، وحققت الكثير من الأفلام نجاحاً في طرح أهم جدليات الكون والرؤى الفلسفية وقضايا الأديان بقوالب فنية مختلفة.
في دور مختلف وغير معتاد يقوم به الفنان هيو جرانت في فيلم (مهرطق)، الذي لا يناقش فيه قضية الدين والإيمان فحسب، بل يطرح بُعداً نفسياً لتأثير مبدأ العدمية في سلوك بعض البشر.
الفيلم من بطولة هيو جرانت، وصوفي ثاتشر، وكلوي إيست، وإخراج سكوت بيكو بريان وودز. يُفتتح الفيلم بنقاش فتاتين مراهقتين في مواضيع محرم عليهما التفكير فيها، فهما من المبشرات لكنيسة إحدى طوائف المسيحية التي أنشئت في أوائل القرن التاسع عشر، وهي طائفة المورمونية.
ويتحول النقاش إلى صراع بين شخصية ريد (هيو جرانت) الملحد والفتاتين حول كيفية معرفة الدين الحقيقي، عند التقائهما به.
تقف الفتاتان أمام منزل مستر ريد (هيو جرانت) وسط جو عاصف وممطر متسلحتين بإيمانهما للحديث عن أفكار وتعاليم كنيستهما، ولم يكن اختيار ذلك الطقس القاسي فنياً في طريقهما لتأدية مهمة الإبلاغ والتبشير لرسم فضاء العمل فقط، بل لإضفاء بُعدٍ لشخصية الفتاتين الإيمانية في تحمل المشاق من أجل القيام بالمهمة الموكلة إليهما.
هنا نقف معهما أمام رجل لطيف بابتسامته الجذابة، يتقبل منهما كُتيباً صغيراً عن عقيدتهما، ويدعوهما للدخول.
لم يكن الدخول من عتبة المنزل سوى ذلك الدخول إلى تجربة يعيشها المشاهد أوّلاً قبل المبشرتين.
ومن حوار فلسفي وطرح فكري يأخذنا العمل في بدايته في رحلة تاريخية لمنشأ الأديان، وكيف يتحول مع الوقت إلى سلعة ترويجية يقوم بها حاملو المعتقد أو الدين لنشره.
وفي سياق مشحون بالترقب، ورتم متصاعد من خلال تعابير وجه السيد ريد تتغير الأجواء القلقة أثناء الحوار بين الفتاتين والرجل إلى رعب، فما يحسبه المشاهد أثناء وجودهم في صالة الاستقبال يتغير تماماً بعد أن تلج الفتاتان البُعد الثاني من المنزل.
هذا الانتقال المرحلي في التصوير من مكان إلى آخر داخل البيت نفسه هو انتقال نفسي يعكس مراحل انتقال الذهن البشري، تخفت الإضاءة في الوقت الذي تتكشف فيه عناصر مختلفة للسيد ريد، تجد الفتاتان ديكوراً مصغراً للكنيسة، وتصبح المواجهة أكثر مباشرة بين الخارج والداخل، ويقدّم السيد ريد أمامهما نسخ الدين المتعددة، ويضع في موازاتها نماذج للعبة مشهورة تناسخت عبر الزمن، وهي لعبة (المونوبولي)، والتي كانت في نسختها الأصلية من تصميم إليزابيث ماغي، لشرح مفهوم الاحتكار، وفي قواعدها الأصلية كان بإمكان اللاعبين المشاركين تأجير الأراضي أو امتلاكها، وبالتالي يمكن للجميع تحقيق الفوز، وحين انتشرت اللعبة، استنسخ منها أكثر من نسخة لتصبح أكثر إثارة.
وضع السيد ريد نسخاً من تلك اللعبة إلى جانب نسخ الأديان السماوية الثلاثة، لشرح فكرته عن مفهوم الاستنساخ، والتناسل من الأصل، فأيّ الأديان منها حقيقي؟ ولماذا هناك أديان أكثر انتشاراً وأخرى غير منتشرة؟ وحين تكتشف الفتاتان أنّهما عالقتان في المنزل حين أحكم المضيف قفله، ولم يعد لهما مخرج سوى المواجهة، يخيرهما مستر ريد بين بابين خلفيين للخروج؛ أحدهما قبو، والآخر مطل على التلة العالية المشرفة على المنحدر. وهنا تخوض الأختان تجربة الدخول المرعبة لعالم سوداوي لمريض نفسي.
وهنا نقف للتساؤل لماذا جعلت السينما هذه المرة، في هذا الفيلم الملحد، مريضاً نفسياً يقود المبشرتين إلى حتفهما، هل كان انتصاراً للدين، وعودة إليه بعد أن نالت الكثير من الأعمال السينمائية من الدين وخرافاته، أم أنّها تريد أن تُحذّر من أنّ التعصب للإلحاد وإنكار الإيمان يقود إلى العنف وانتشار الأمراض النفسية للبعض؟
ما عملته السينما حول العالم من تحريك الراكد وإثارة التفكير حول الأديان، في اعتقادي، ليس محاولات لهدمه، بل فتحت نافذة التفكير عن ماهية الدين وجوهره. ففي الفيلم الهندي الشهير (بي كي) الذي كان من بطولة عامر خان، ومن إخراج راجكومار هيراني، عام 2014، هو رحلة أيضاً وتجربة لكائن قادم من الفضاء إلى الأرض، تُسرق قلادته التي كانت بمثابة جهاز يوصله بكوكبه، وحين يبدأ رحلة بحثه عن القلادة، كان الجميع ينصحه أن يسأل الإله أو الرب ليعيد له قلادته.
ويظل (بي كي) يبحث عن ذلك الإله متنقلاً بين كل الديانات الموجودة في الهند، ليصل إلى حقيقة أنّ تلك الأديان كانت سبباً في فرقة بني البشر وحروبهم، وأنّ جوهر الدين هو الاتصال الفطري بينهم. في حين أوصلنا فيلم مهرطق إلى أنّ الأديان مهمتها السيطرة.
وخلافاً لما تقدم من عملين، يطالعنا فيلم (لايف أوف باي) “حياة باي”، بطولة عرفان خان وآيوش تاندن، وإخراج آنج لي، والذي يحمل سردية حوارية في المقام الأول، يحكي فيه البطل رحلته وهو طفل بين الأديان ويصل إلى أنّ التشكيك هو حياة للإيمان، ولا تُعرف قيمة الإيمان إلا من خلال الاختبار، وهذا ما وقع للمبشرتين في فيلم مهرطق.
فالإيمان متعدد الغرف، كما يقول بطل فيلم (لايف أوف باي)، فقد كانت تجربته القاسية بعد غرق السفينة في المحيط وفقدان أسرته ومواجهة الموت وحيداً على قارب مع حيوانات مفترسة، لم يبقَ منها سوى النمر في مواجهته ليخوض تجربته الخاصة.
كانت مواجهة النمر الشرس هي ما أبقته على قيد الحياة، ليصل إلى أنّ الإله موجود يراقبنا، ولكنّه يمنحنا القوة للمواجهة.
يسرد (باي) بعد سنين حكايته لأحد الكُتاب في كندا، كان يبحث عن حكاية يكتبها، وخيّره بين قصتين سردهما للصحفيين حين أرادوا أن يكتبوا تقريراً عن غرق السفينة، فلم تقنعهم قصته الحقيقية التي اجتازها عرض البحر مع النمر، موقف لخص إشكالية المجتمع الحديث في الصراع بين التصور الديني والتصور العقلي في معالجة قضايا الكون وما يجري فيه من ظواهر وأحداث، فالتجربة التي مر بها (باي) تجربة روحية خاصة تخضع لمقاييس تختلف عن مقاييس الحياة المادية، خاضها في ترويض النمر، والتي كانت رمزاً لترويض النفس الإنسانية.
نقلا عن حفريات