د. هيثم الزبيدي
كاتب من العراق مقيم في لندن
تقول بعض الأرقام التي تسربها هيئات رسمية مصرية عن كلفة حرب البحر الأحمر على واردات قناة السويس بأنها ستتجاوز 7 مليارات دولار بحلول نهاية العام الجاري (2024).
وتتصرف مصر بأن أيّ محاولة لمنع الحوثيين من الاستمرار بفرض حرب تدور نظريا بينهم وبين الإسرائيليين، إنما ستؤدي إلى كلفة أكبر مادية أو بشرية، وأن من الأفضل ترك حرب الحوثيين على جنوب البحر الأحمر تتآكل ذاتيا بدلا من الدخول بمواجهة معهم.
والمسألة بهذا الشكل هي لعبة أرقام، يفوز بها من لديه القدرة على الصبر أكثر في مواجهة الآخر.
من الوارد طبعا أن يحقق الغربيون -الأميركيون والبريطانيون بشكل أساسي- الغاية من الحرب وإنزال الأذى بالقدرات العسكرية الحوثية، وخصوصا منها الصواريخ البالستية والمسيّرات، وترك الحرب موجودة اسميا على مسرح العمليات، ولكن من دون تحقيق نتيجة ملموسة. تحولت الحرب إلى رقعة أكثر شمولا للتراشق بالمسيّرات والصواريخ على مساحة جغرافية أوسع.
تم هذا بإرسال الحوثيين صواريخ أبعد مديات وأسرع (البعض يؤكد أنها فرط صوتية). تكون المنطقة هكذا قد سمحت بدخول العامل الإسرائيلي بالرد بغارات لمقاتلات إسرائيلية على أهداف يمنية منتخبة -وخصوصا الاقتصادية منها- وإيذاء الحوثي أكثر وأكثر، لعله يفهم أن الاستعراض بقطع الطرق البحرية شيء مختلف عن استهداف مواقع مدنية وعسكرية إسرائيلية. سيستمر الإسرائيليون بالرد الموجع على حساب اليمنيين دون أخذ الاعتبار بالأثر الإنساني على الشعب اليمني، لعل الحوثي سيتوقف في نقطة ما عن الاستمرار بلعبته الخطرة. في كل الأحوال، فإن عامل الزمن ليس في صالح المصريين، وهم بأحسن الأحوال يجدون أنفسهم متفرجين مجانيين على مشهد الحرب التي تمسهم وتشكل مقدراتهم الاقتصادية يوميا.
ثمة تصعيد يومي، يستفيد منه الإيرانيون في إثبات أنهم لا يزالون يمسكون بجانب من أوراق اللعبة، وأنهم لا يكتفون بمجرد الكلام، بل يطلبون (أو يأمرون – لا فرق) من حليفهم الحوثي بالاستمرار بالضرب مهما كانت العواقب.
ولا نعرف على وجه الدقة كم تكلف الصواريخ والمسيّرات الحوثية، لكنها بالتأكيد لن تزيد عن بضعة عشرات من الملايين في أحسن الأحوال (من عتاد يطلق أو منشآت يتم تدميرها على الأرض)، مقابل مليارات من الدولارات ضائعة من الواردات التي كان بوسع المالية المصرية أن تحققها من رسوم عبور السفن والناقلات عبر مورد قناة السويس الحيوي.
◄ لا بد من رسالة مصرية لإيران وللحوثي بأن قناة السويس عصب حيوي لا يمكن الاستغناء عنه، وما تتسبب إيران في قطعه جنوب البحر الأحمر يمكن لمصر أن تقطعه على إيران أو الحوثي
علينا أن نستذكر أن المصريين دخلوا حروبا طاحنة مع الغرب أولا ومع إسرائيل ثانيا، من أجل واردات قناة السويس، مرة بسبب تأميم القناة -أي فرض حصول مصر على واردات القناة- ومرة بسبب المضايقة الإستراتيجية والتخويف اللذين فرضتهما إسرائيل على مصر في زمن جمال عبدالناصر. كان المصريون يتعاملون مع قناة السويس كبطة تبيض ذهبا لا يمكن التفريط فيها، وتستحق القناة أن تدخل مصر الحروب من أجل حماية أهم مصدر من مصادر الدخل لديها.
اليوم، تقول القراءة الإستراتيجية المصرية إن الأفضل ترك الإسرائيلي يقصف في اليمن لعل الحوثي يرعوي أو ترك الأميركي والبريطاني يستهدفان الصواريخ والمسيّرات الحوثية التي تستهدف السفن العابرة في القناة أو مضيق باب المندب أو خليج عدن لعل الصواريخ والمسيّرات تستنزف.
بل إن البعض يجادل أن الإهمال هو إستراتيجية تستحق أن تخضع للتجريب بعض الوقت، لعل الحوثي يملّ أو أن تغير إيران رأيها أو أن يتفق الغزيون مع الإسرائيليين.
هذا النوع من القراءات، بأحسن الأحوال، هو نوع من تأكيد العجز عن الإتيان بحل يليق بدول إقليمية كبرى مثل مصر تمتلك واحدا من أكبر جيوش العالم وأفضلها تسليحا. هذا لا يعني الدعوة إلى أن ينتقي المصريون الحوثيين كأعداء ينبغي ضربهم بأسرع وقت، ولكن فعل لا شيء أيضا لا يمكن القبول به.
لدينا الكثير من التجارب الحديثة في امتناع مصر عن فعل شيء. ثمة طوق من التهديدات من حول مصر يمتد من ليبيا وينزل إلى السودان ويتمدد مع حوض النيل جنوبا وصولا إلى سد النهضة في إثيوبيا ويلامس كل الأطراف في القرن الأفريقي.
في كل مرة، يتطور المشهد الإستراتيجي المصري نحو الأسوأ ويجد طرف أو أطراف إضافية الفرصة في الضغط على مصر، بل وحتى ابتزازها، طالما مارست لعبة السكوت عن الطرف المعني.
توسع الطامعين بمصر يمس وضع البلد إقليميا بشكل خطر وقد يضع القاهرة في امتحانات صعبة ربما لا تعرف الدولة المصرية نفسها إن كان بوسعها النجاح فيها.
◄ في كل الأحوال عامل الزمن ليس في صالح المصريين وهم بأحسن الأحوال قد يجدون أنفسهم متفرجين مجّانيين على مشهد الحرب التي تمسهم وتشكل مقدراتهم الاقتصادية يوميا
كل هذا والجيش المصري العرمرم والإمكانيات لم تدخل امتحانات منذ عقود. ها هو بلد مثل إيران بكل ما كان يوحي بأن لديه الكثير من العضلات والقدرات، يفشل في أول اختبارات حقيقية مع قوة عسكرية معاصرة مثل إسرائيل.
حيدت إسرائيل الإيرانيين خلال أيام، وانهار سياجهم من الحلفاء من دول وميليشيات وقدرات بشكل يعجز معه المحللون على الإتيان بتفسيرات مناسبة.
ولعل الأدهى من كل هذا هو عدم قدرة المحلل الإستراتيجي الإيراني على إجراء الربط الاستباقي بين تلك القنابل التي بدأت تتساقط في غزة منتصف أكتوبر 2023 وانهيار نظام بشار الأسد مطلع ديسمبر 2024، قد يكون بنفس انعدام قدرة المحلل الإستراتيجي المصري على القول لقادة بلده إن أيّا من تلك الهزات التي تحدث جنوب البحر الأحمر يمكن أن تطلق شرارة الأزمة في مصر، وهي أزمة تعرف القيادة المصرية قبل غيرها أن هناك من يحيكها منذ سنوات طويلة وينتظر التوقيت المناسب لتحريكها. التخويف من سيناريو في القاهرة يشبه سيناريو دمشق لم يعد حديث الخبير الإيراني أو الخبير المصري، بل حديث ابن القاهرة البسيط الذي يردده وهو يحتسي الشاي في مقهى في القلعة.
وكما شهدنا كم راكمت قطر وتركيا من حطب في بقع عديدة من سوريا، وقررتا إشعاله في لحظة واحدة، لحظة محصورة بين ساعات دخول حلب وساعات دخول دمشق، فإننا لسنا بصدد وضع ورقة وقلم نحصي بهما كم أنفقت الدوحة وأنقرة من أموال وصرفتا من جهود، لتتشابه اللحظة المصرية من سابقتها السورية.
هذا الضعف -أو الاستضعاف الحقيقي أو الشكلي- سيغري كل مستطرق وليس القطري والتركي وحسب. إنه دعوة لأن يزج المستطرق حظوظه في المراهنة المصرية لعله يخرج منها بشيء.
هذا خطر ماثل يحتاج إلى رد نفسي وإستراتيجي يبدأ من مصر وبأسرع وقت. ومرة أخرى هذا ليس دعوة حرب، ولكن تنبيه للحوثي ومثله إيران بأن لا فرق بين قطع أرزاق المصريين ومحاولة قطع أعناقهم لا سمح الله.
الجوع الذي يقرص البطون في صنعاء مؤلم، ولكن هل لدى الجوع قرصة مختلفة في أحياء أحزمة الفقر والحرمان حول المدن المصرية الكبرى؟
لا بد من رسالة مصرية عاجلة لإيران وللحوثي بأن قناة السويس عصب حيوي لا يمكن الاستغناء عنه وتركه للنزوات.
ما تتسبب إيران في قطعه جنوب البحر الأحمر، يمكن لمصر أن تقطعه على إيران أو الحوثي شماله. أنتم تخنقون مصر بدعوى الضغط على إسرائيل. نحن نخنق مساراتكم البحرية بممارسة حقنا في ألاّ تخنقونا.
مصر في حاجة إلى أن ترد، وأن يأتي الرد واضحا وسريعا.
نقلا عن العرب