كريتر نت – متابعات
لطالما ترك الرؤساء الأميركيون وراءهم إرثا مليئا بالنجاحات والإخفاقات وأيضا الفضائح. بيد أن جيمي كارتر يعد رئيسا أميركيا من نوع فريد؛ إذ ظلت سمعته وإرثه مقترنين بالسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان سواء عندما كان رئيسا أو بعد مغادرته البيت الأبيض رغم بعض الأزمات.
وتبقى أزمة احتجاز الرهائن الأميركيين في طهران وصمة على حصيلة جيمي كارتر في البيت الأبيض، لكن الرئيس الأميركي السابق الذي توفي الأحد عن مئة عام كان عراب أول اتفاق سلام بين إسرائيل ودولة عربية، أحد أبرز إنجازات سياسته الخارجية التي لطالما انتقدت باعتبارها ضعيفة.
وأقر مستشاره للأمن القومي زبيغنيو بريجنسكي الذي توفي عام 2017، بأن “نكسته الجيوسياسية الرئيسية” كانت سقوط شاه إيران عام 1979 وقيام الجمهورية الإسلامية التي لا تزال واشنطن تعتبرها من المخاطر الرئيسية لأمنها.
وهزّت الثورة الإسلامية رئاسة كارتر، لاسيما بعدما قام طلاب مؤيدون للإمام الخميني بمهاجمة السفارة الأميركية في طهران في الرابع من نوفمبر 1979 واحتجاز حوالي خمسين أميركيا من دبلوماسيين وموظفين رهائن.
وقام كارتر بقطع العلاقات مع إيران وفرض حظر تجاري عليها، لكن عملية عسكرية نفذتها الولايات المتحدة لتحرير الرهائن آلت إلى الفشل.
واستمرت أزمة احتجاز الرهائن 444 يوما، فشكلت عاملا رئيسيا في هزيمة الرئيس الديمقراطي في 1980 وخروجه من البيت الأبيض بعد ولاية وحيدة، كما كانت خلف الصورة السلبية التي لحقت به لفترة طويلة، في صفوف اليمين كما اليسار.
ضعف وتردد
قدم الأستاذ الجامعي الأميركي والتر راسل ميد وصفا لاذعا للرئيس السابق، إذ لخص “متلازمة كارتر” عام 2010 بـ”الضعف والتردد”، و”عدم التماسك وتغيير المواقف.”
وأضاف الخبير في مقالة في مجلة “فورين بوليسي” أن نهج كارتر القائم على عدم التدخل في الخارج كان ينطلق من “نية حسنة لكنها عرجاء” موضحا أنه بمواجهة الواقع الحتمي، عمد الرئيس السابق في نهاية المطاف إلى “دعم المقاومة ضد الاحتلال السوفييتي في أفغانستان، وزيادة موازنة الدفاع، وإرساء القواعد لوجود أميركي متزايد في الشرق الأوسط.”
وأثارت المقالة ردا نادرا من الرئيس الديمقراطي السابق الذي كتب في المجلة نفسها “كل أفعالي جرت برمجتها وإعلانها حتى قبل تولي مهامي.”
وأكد “إن كان صحيحا أننا لم نتورط في نزاعات عسكرية خلال رئاستي، فأنا لا أعتبر ذلك مؤشر ضعف أو مدعاة للاعتذار،” معتبرا أنه تمكن من “الحفاظ على السلام” مع تعزيز “النفوذ العالمي” للولايات المتحدة.
وعلى ضوء التقلبات والاضطرابات التي هزت العالم منذ ذلك الحين، باتت النظرة إلى ولايته أكثر إيجابية.
ولفت روبرت سترونغ الأستاذ في جامعة واشنطن أند لي إلى أنه بعد نكستي التدخل الأميركي في أفغانستان والعراق، “نعرف الآن ما يحصل حين نرسل قوات أميركية إلى هذا الجزء من العالم”، مضيفا “بات من الأصعب بكثير القول إنه كان يجدر بنا التصرف على هذا النحو أو ذاك عام 1979 في إيران.”
وشدد سترونغ الذي صدر له كتاب حول سياسة كارتر الخارجية، على أنه “تبين مع الزمن أن أمورا أخرى قام بها كانت أهمّ بكثير” مما اعتبرت أساسا.
حقوق الإنسان
لا يزال اسم كارتر في الشرق الأوسط يقترن بأحد الإنجازات الدبلوماسية النادرة خلال العقود الماضية، وهو توقيع اتفاقيتي كامب ديفيد بين الدولة العبرية ومصر، والتي أدت في مارس 1979 إلى توقيع أول معاهدة سلام بين إسرائيل ودولة عربية.
وشكل ذلك نجاحا شخصيا لجيمي كارتر الذي دفع بنفسه الرئيس المصري آنذاك أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن إلى إبرام الاتفاق، خلافا لرأي مستشاريه الذين اعتبروا أن هذه البادرة تنطوي على مجازفة وفرص نجاحها ضئيلة.
وقال بعد سنوات “لم تتم مخالفة أي من التزامات معاهدة السلام” معتبرا أنه لم يتم “منذ ذلك الحين” إحراز “أي تقدم أو قدر ضئيل فقط من التقدم.”
وفي مقال نشرته مجلة “التايم” الأميركية، قال بنيامين أليسون، الباحث في التاريخ بجامعة تكساس والمتخصص في دراسة تاريخ السياسة الخارجية منذ منتصف أربعينيات القرن الماضي، إن اتفاقية كامب ديفيد “قللت بشكل كبير من فرص حدوث حرب عربية – إسرائيلية واسعة النطاق أخرى مثل تلك التي وقعت في عامي 1967 و 1973.”
وأضاف “قللت الاتفاقية من احتمال نشوب حرب نووية بين القوى العظمى – وهو أمر كان يبدو ممكنًا خلال حرب 1973 عندما كانت هناك مواجهة نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.”
لكن الباحث المخضرم في التاريخ الأميركي، قال إن مساعي كارتر لإحلال السلام في الشرق الأوسط تخللتها بعض الإخفاقات.
وفي ذلك، قال: “رفض كارتر محاولات السوفييت المشاركة في محادثات السلام، مما أزال إمكانية تحقيق سلام شامل بين دول عربية أخرى وإسرائيل.. بدون مشاركة السوفييت، لم تكن هناك طريقة لجلب الدول العربية الأخرى إلى طاولة المفاوضات، مما جعل التوصل إلى اتفاق أوسع والسلام الإقليمي مستحيلاً.”
وأضاف بأن “اعتبارات الحرب الباردة كانت لها الأولوية بالنسبة لكارتر، وبدلا من العمل على اتفاق سلام، انضم السوفييت إلى الدول العربية الأخرى التي عارضت اتفاق السلام المصري- الإسرائيلي.”
والنجاح الدبلوماسي الثاني الذي حققه كارتر كان توقيع معاهدة عام 1977 أعادت لبنما الإدارة الكاملة للقناة التي تربط المحيطين الهادئ والأطلسي، ما سمح بتسوية خلاف خطير كان يهدد علاقات الولايات المتحدة مع أميركا اللاتينية.
كما يشير مؤيدو كارتر الساعون لتلميع صورته، إلى تطبيع العلاقات مع الصين الشيوعية، وتحديث القوات الإستراتيجية الأميركية والتقدم في مساعي الحد من الأسلحة الإستراتيجية مع الاتحاد السوفييتي.
وبعيدا عن الجدل بشأن رئاسته، لم يتوقف كارتر عن دعم السلام والديمقراطية بعد مغادرته البيت الأبيض.
فقد أسس كارتر مؤسسة حملت اسمه بهدف تعزيز الديمقراطية عبر مراقبة العمليات الانتخابية في دول العالم فضلا عن دعم السلام وتخفيف المعاناة الإنسانية في أنحاء العالم وضمان احترام حقوق الإنسان وعلى وقع ذلك، حصل كارتر عام 2002 على جائزة نوبل للسلام تقديرا لجهوده في حل النزاعات الدولية ومكافحة الفقر.
وراقبت مؤسسة كارتر الكثير من الانتخابات التي جرت في الشرق الأوسط ومنها انتخابات عام 2010 في السودان التي حكمت عليها بأنها كانت “دون المعايير الدولية، لكنها قبلت نتائجها.” وراقبت المؤسسة الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006.
ويعرف كارتر بأنه الرئيس الذي جعل من الدفاع عن حقوق الإنسان إحدى أولويات الدبلوماسية الأميركية، ولاسيما مع الأنظمة العسكرية في أميركا اللاتينية، وهي معركة واصلها بعد خروجه من البيت الأبيض، وكافأتها جائزة نوبل للسلام عام 2002.
وأكد المؤرخ الفرنسي جوستان فايس عام 2018 في مجلة “فورين بوليسي” أنه “بعيدا عن صورة ذاك القائد العاجز الذي لا يزال البعض يتحدث عنه إلى الآن أحيانا، حقق كارتر خلال أربع سنوات فقط نجاحات ملموسة تفوق ما حققه معظم الرؤساء الآخرين على مدى ثماني سنوات.”
غزو العراق
في عام 2004، وصف كارتر حرب العراق التي شنها بوش الابن في عام 2003 بأنها “واحدة من أكثر الأخطاء فظاعة وتدميرًا التي ارتكبتها أمتنا على الإطلاق.”
ولم يتوقف الأمر على ذلك، بل وصف إدارة جورج دبليو بوش بأنها “الأسوأ في التاريخ”، وقال إن نائب الرئيس ديك تشيني “كارثة لبلادنا.”
ورغم ذلك، يرى بنيامين أليسون، الباحث الذي كرس وقته لدراسة تاريخ السياسة الخارجية منذ الأربعينات، إن “مبدأ كارتر” كان بمثابة ركيزة سياسة أميركية أكثر عدوانية تجاه الشرق الأوسط وخلقت مبررا سياسيا سمح بمحاولة تحرير الرهائن في إيران في أبريل 1980 الذي كان أول عمل عسكري هجومي أميركي في المنطقة منذ عام 1958.”
وأضاف أن “مبدأ كارتر” مهد الطريق أمام “تدخل أميركي كارثي في لبنان بين عامي 1982 و1984، وحرب الخليج عام 1991، وغزو العراق عام 2003.”
ويعود “مبدأ كارتر” إلى خطابه عن حالة الاتحاد في 23 يناير عام 1980 عندما أعلن بشكل صريح أن “أي محاولة من أي قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج ستعتبر هجوما على المصالح الحيوية للولايات المتحدة ، وسيتم صد ذلك بأي وسيلة ضرورية، بما في ذلك القوة العسكرية.”