كريتر نت – متابعات
يلوح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب الذي يستعد لدخول البيت الأبيض في العشرين من يناير الجاري بأنه سينهي سريعا الفوضى في الشرق الأوسط لصالح التركيز على التهديد الصيني الأكبر للمصالح الأميركية.
واشنطن – رغم تعدد النقاط الساخنة في العالم من أوكرانيا إلى مضيق تايوان تظل منطقة الشرق الأوسط واحدة من أكثر مناطق العالم سخونة واهمية بالنسبة للسياسة الخارجية الأميركية. وفي ديسمبر 2023 وصف ضابط استخبارات إسرائيلي متقاعد الوضع في الشرق الأوسط بالقول إن هجوم 7 أكتوبر 2023 الذي نفذته الفصائل الفلسطينية المسلحة بقيادة حركة حماس على المستوطنات والقواعد العسكرية الإسرائيلية فيما يعرف بغلاف قطاع غزة بمثابة زلزال قوي في الشرق الأوسط، وسيكون على المنطقة بأكملها التعامل مع الاهتزازات الارتدادية الناجمة عن هذا الزلزال لبعض الوقت.
وفي تحليل نشره موقع مؤسسة البحث والتطويرالأميركية( راند) قال رافائيل كوهين مدير برنامج الاستراتيجية والعقيدة في مشروع راند للقوات الجوية التابع للمؤسسة إن الضابط الإسرائيلي لم يتبنأ في ذلك الوقت بمكان وقوع هذه الهزات الارتدادية، لكن تطورات الأحداث أثبتت أنه كان ثاقب النظر.
وقبل مرور عام على توقعاته نجحت إسرائيل في القضاء على القدرات القتالية لحركة حماس واغتالت كبار قادتها، وتلقى حزب الله اللبناني ضربات مؤلمة وتم اغتيال أمينه العام حسن نصر الله وأغلب أفراد القيادة العليا. كما انهار نظام حكم بشار الأسد في سوريا. والحقيقة أن المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط شهد تحولات هائلة نتيجة هذه الارتدادات.
ومع التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله اللبناني واقتراب التوصل إلى اتفاق مماثل في قطاع غزة، وانشغال القيادة الجديدة في سوريا بضبط أوضاع بلادها، يصبح السؤال الآن: هل انتهت الهزات الارتدادية الناتجة عن هجوم 7 أكتوبر؟
وتعهد الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب “بالتخلص من الحروب” بسرعة حتى قبل أن يدخل المكتب البيضاوي. كما أن كبار مسؤولي ملف الدفاع في إدارته المنتظرة أشاروا إلى الرغبة في توجيه الاهتمام الأميركي نحو منطقة آسيا والمحيط الهادئ. لكن الواقع قد يكشف أن الانسحاب من الشرق الأوسط أصعب مما يتوقع هؤلاء.
والمؤكد أن الهزات الارتدادية ستتواصل في المنطقة خلال 2025 بما يهدد المصالح الأميركية لبعض الوقت ومن المحتمل أن تكون الهزة الارتدادية الأولى في اليمن. فعلى مدى أكثر من عام تهدد جماعة الحوثيين اليمنية حركة الملاحة الدولية في البحر الأحمر دعما للفلسطينيين في مواجهة الحرب الإسرائيلية ضدهم في قطاع غزة.
ولم تنجح كل محاولات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في وقف هجمات الحوثيين على السفن الإسرائيلية والغربية في البحر الأحمر. كما أن الأسابيع الماضية شهدت تصعيدا حوثيا في استهداف إسرائيل بإطلاق أكثر من200 صاروخ و170 طائرة مسيرة.
وفي حين نجحت إسرائيل والولايات المتحدة في صد معظم هذه الهجمات، فإن وتيرتها تتزايد، الأمر الذي يزيد الضغوط على الحكومة الإسرائيلية للقيام برد أكثر قوة على الأراضي اليمنية. ولذلك من المتوقع قصف الطائرات الحربية الإسرائيلية الموانئ اليمنية وغيرها من البنية الأساسية في محاولة لردع هجمات الصواريخ الحوثية.
وفي المقابل يبدو الحوثيون غير خائفين من الرد الإسرائيلي، كما أن القادة الإسرائيليين لا يتراجعون. فقد هدد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مؤخرا بأن “الحوثيين سيتعلمون أيضا الدرس الذي تعلمته حماس وحزب الله ونظام الأسد وآخرون – وحتى لو استغرق الأمر وقتا، فسيتم تعلم هذا الدرس في جميع أنحاء الشرق الأوسط.”
ويرى كوهين أن هذه التهديدات الإسرائيلية سرعان ما ستتحول إلى عمل عسكري. لكن في المقابل لا يمكن لإسرائيل توجيه ضربات عسكرية فعالة ضد الحوثيين كما فعلت مع حزب الله في لبنان وحماس في قطاع غزة. فاليمن تبعد عن إسرائيل بأكثر من 1300 ميل وهو ما يجعل قيام إسرائيل بشن حملة قوية مستمرة عليها أصعب وأشد تعقيدا مما كان عليه الحال في غزة ولبنان.
ولذلك فمن غير المنتظر أن تؤدي أي حملة إسرائيلية إلى القضاء على تهديد الحوثيين بنفس السرعة التي حدثت مع حزب الله. وفي الوقت نفسه فإن استهداف إسرائيل المتوقع للموانئ اليمنية الخاضعة لسيطرة الحوثيين ومطار صنعاء الدولي بهدف حرمان الجماعة من إمدادات الأسلحة القادمة من إيران، وكذلك احتمال استهداف قادة الحوثيين يمكن أن يقلص قدرات هذه الجماعة لكنه لن يقضي على خطرها نهائيا.
وعلى المدى القصير ستظل إسرائيل في حاجة إلى المساعدة الأميركية للتصدي لهجمات الحوثيين. كما أن حركة الملاحة الدولية ستحتاج إلى استمرار الوجود العسكري الأميركي في البحر الأحمر لحمايتها، وهو ما يعني صعوبة تنفيذ رؤية ترامب ومساعديه بشأن الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط لصالح التركيز على التهديد الصيني الأكبر للمصالح الأميركية. وفي الوقت نفسه فإن أي هجوم واسع على منشآت البنية التحتية اليمنية وبخاصة الموانئ والمطارات يمكن أن تكون له آثار ارتدادية على شبه الجزيرة العربية ككل.
وفي عام 2020 كانت تقديرات الأمم المتحدة تقول إن70في المئة من واردات اليمن و80في المئة من المساعدات الإنسانية بما في ذلك المساعدات الغذائية الملحة تدخل إلى البلاد عبر نفس الموانئ التي تدخل منها الأسلحة الإيرانية. كما أن حوالي 21 مليون يمني يشكلون ثلثي إجمالي عدد السكان يعتمدون على هذه المساعدات.
ولذلك فإن توقف هذه الإمدادات نتيجة تدمير الموانئ سيؤدي إلى كارثة إنسانية. وحتى إذا لم يكن ترامب ممن يأبهون بالجانب الإنساني فسيكون عليه التفكير في تداعيات حدوث مثل هذه المجاعة على الاستقرار في الدول المجاورة وبالتالي على استقرار إمدادات الطاقة العالمية. وإذا كان الحوثيون في اليمن يمثلون واحدة من هذه الهزات الارتدادية فإن إيران تمثل هزة ارتدادية أخرى وربما أكبر.
ورغم أن العام الماضي كان كارثيا بالنسبة لإيران بعد أن فقدت تقريبا وكلائها الحيويين في المنطقة سواء حزب الله أو حركة حماس أو حكم الأسد في سوريا، فإن إيران الأضعف لا يعني أنها أصبحت أقل خطرا. فقد ردت إيران على هذه الضربات بمضاعفة نشاط برنامجها النووي، وهذا يضع إيران ليس فقط في مواجهة مع إسرائيل وإنما مع الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى أيضا.
وفي حين ألمحت إدارة ترامب إلى العودة لممارسة أقصى ضغوط على إيران عبر العقوبات، فإن التقديرات تقول إن الأخيرة على بعد أسابيع قليلة من امتلاك قنبلة نووية وهو ما يثير الشكوك بشأن ما إذا كانت العقوبات ستحقق نتائج بالسرعة الكافية لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي.
وكما لو كان الحوثيون وإيران غير كافيين لاستمرار الاضطراب في الشرق الأوسط، فهناك عدد آخر من مصادر القلق في المنطقة. فالأوضاع في سوريا لم تستقر بعد ومن المحتمل تجدد الحرب الطائفية فيها. فالطائفة العلوية التي سيطرت على الحكم في عهد الأسد، والمتمركزة على ساحل البحر المتوسط وفي العاصمة دمشق بدأت الاحتجاجات ضد الحكام السنة الجدد.
وفي شمال سوريا يدور القتال بين قوات ما يسمى الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا وما تعرف باسم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردية. والحقيقة أن رغبة فريق ترامب القادم في الخروج من منطقة الشرق الأوسط ليست جديدة. فقد كانت قائمة في إدارته الأولى وكذلك كانت قائمة لدى الرئيس الأسبق باراك أوباما والرئيس الحالي جو بايدن. لكن السؤال الأهم هو بأي ثمن يمكن أن يتم هذا الخروج.
ويقول كوهين إن ترك مشكلة الحوثيين دون علاج يعني ترك أحد أهم ممرات التجارة العالمية تحت رحمة هذه الجماعة. كما أن عدم التعامل مع الملف الإيراني يعني السماح لنظام حكم يهتف رئيسه “الموت لإسرائيل” بامتلاك السلاح النووي الذي لن يكون تهديدا لإسرائيل فقط وإنما يهدد بإشعال سباق تسلح نووي في منطقة الشرق الأوسط المضطربة بالفعل. ثم إن ترك سوريا في الوقت الحالي يفتح الباب أمام عودة تنظيم داعش وغيره من المنظمات الإرهابية إليها بقوة.
وهذه الأوضاع هي أفضل تصوير لمشكلة الزلازل وهزاتها الارتدادية. ففي أفضل الأحوال يمكن الاستفادة من الدمار الذي سببه الزلزال ببناء واقع أفضل بعد الكارثة، أو محاولة تخفيف أضراره. وفي الوقت نفسه يمكن تجاهل آثار الزلزال والقبول بعواقبه. لكن في نهاية اليوم لن تستطيع وقف الهزات الارتدادية من الحدوث.
وأخيرا فالأمر نفسه ينطبق على سياسة إدارة ترامب الجديدة في الشرق الأوسط. فهذه الإدارة مثل سابقاتها تستطيع اختيار طريقة التعامل مع الفوضى القائمة بطريقة أكبر أو أقل فعالية، لكنها في كل الأحوال لن تستطيع إنهاء الفوضى بمرسوم رئاسي، تماما كما لا يمكن لأي تعويذة منع حدوث الزلزال أو هزاته الارتدادية.