إبراهيم الزبيدي
بالبحث والتدقيق تبين أن ما شهده العراق في نصف قرن من الزمان، من مشاكسات ومنازعات وحروب داخلية وخارجية، في ظل حكومات غير ديمقراطية ومفروضة بقوة السلاح، هو الذي بنى رويدا رويدا جدرانا من عدم الثقة بين مواطن ومواطن، مدينة ومدينة، طائفة وطائفة، دين ودين، قومية وقومية أخرى في العراق.
ثم حلت الكارثة الأكثر مرارة حين جاء البعثيون إلى السلطة في 1968 فأنعشوا العنجهية القومية العربية، وعَمّـقوا الخوفَ من الوطن في نفوس العراقيين غير العرب من سكانه، وحَببوا لهم الانفصال.
ثم تعمق التباعد بين أبناء الوطن الواحد، في أعقاب غزو صدام للكويت وظهور المعارضة العراقية التي تقاسم قيادتَها سياسيون راودتهم أحلام السلطة والقوة والمال ووراثة نظام صدام الموشك على الانهيار، وعاونتهم على ذلك إيران الخارجة لتوها من حرب دامية استمرت ثماني سنوات مع جيش عراقي أجبرها على الانكسار والخذلان، فاستحق بغضها وحقدها وطلب ثأرها من ضباطه وجنوده، حتى وإن كانوا من طائفتها نفسها.
وقبل أن يتسلم المعارضون القادمون من المنافي الخارجية السلطة من الحاكم الأميركي المتفاهم والمتخادم مع إيران والمرجعية الدينية في النجف وجدوا في شعار الفيدرالية خاتم سليمان الذي يوفر لهم ولأولادهم وأولاد أولادهم، بعد سقوط النظام، حياة الترف الباذخ، وحرية التصرف المطلق بالعراق، أرضا وشعبا وثروات.
ولتبرير جنوحهم إلى الفيدرالية روجوا فكرة أن الأقليات لن تنال حقوقها وتملك حريتها إلا بالخروج من عباءة الدولة الواحدة، والتقوقع في أقاليم مغلقة، لا لدولة المركز عليها سلطان، إلا في أقل القليل.
ورغم ما في هذا المنطق من بعض الصواب إلا أن حرمان أي شريحة من الشعب العراقي من حريتها وحقوقها ورزقها كان بوجود حكومات مركزية دكتاتورية ظالمة متجبرة مفروضة بقوة السلاح وزعت ظلمها على العراقيين بعدالة.
ولكن بعد أن سقط آخر تلك الحكومات وأصبح في إمكان الشعب العراقي أن يقيم دولة العدل والديمقراطية الحقيقية تنكر الحكام الجدد لوعودهم السابقة، وأضاعوا ذلك الأمل الجميل. فقد تعمدوا خلط الطين بالعجين، واستخدموا كلمة الحق التي كانوا يريدون بها الباطل.
والمحزن اليوم أننا، وبعد أن ثبت لكل عراقي أن نظام المحاصصة المتستر بالفيدرالية المغشوشة هو سبب فشل الدولة وهزالها السياسي والمالي والأمني والسيادي، نجد سياسيين سنة يروجون لفكرة إقامة إقليم سني في المحافظات السنية، بزعم حماية أهلها من ظلم الحكومة المركزية، وبذريعة أن الدستور الذي فصله الحاكم المدني الأميركي بول بريمر وحلفاؤه العراقيون على مقاس مصالحهم الخاصة، قد نص على أن العراق دولة فيدرالية.
يعني أن السياسيين المستفيدين من نظام المحاصصة الشيعة والكرد والسنة قلبوا فكرة النظام الفيدرالي رأسا على عقب.
فالفيدرالية في الدول المحظوظة والمرزوقة بشعوب لا تخدعها الخرافة ولا العصبية الطائفية والعنصرية، جمعت كيانات أو ولايات أو جمهوريات كانت مستقلة، أو شبه مستقلة، وجعلتها تنضوي تحت مظلة دولة موحدة، مركزية القرار فيما يخص العلاقات الخارجية وشؤون الدفاع والمال والاقتصاد والتعليم، مع منح الأقاليم حرية إدارة شؤونها المحلية، فقط، وفقا لما يقرره سكانها في انتخابات حرة ونزيهة بلا تزوير ولا تدوير.
فهناك نحو أربع وعشرين دولة تضم 40 في المئة من سكان العالم قامت على أساس النظام الفيدرالي، منها الولايات المتحدة وألمانيا وسويسرا وكندا وأستراليا والنمسا والهند وماليزيا وبلجيكا وإسبانيا وغيرها، كانت وما زالت تعيش بسلام.
ففي أميركا، مثلا، لا يمكن لأي إقليم (ولاية) أن يخالف قوانين الدولة الفيدرالية. ويمكن أن يأتي أي واحد من أبناء الأقاليم (الولايات) رئيس الجمهورية والوزراء وقادة الجيوش والقضاة، بحرية كاملة ودون أية عوائق من أي نوع.
فولاية تكساس التي كانت ولا تزال تحلم بالانفصال، وترفع علمها الخاص إلى جانب علم الدولة المركزية، لا تجرؤ، بل لا تريد، ولا تبيح لنفسها أن تخالف أحكام الدستور الفيدرالي فتستقل عن المركز، وتسطو على موارد المنافذ الحدودية الفيدرالية، وتحتكر ثروات الإقليم، وتقيم سفارات لها، أو ممثليات في دول أجنبية، بعيدا ورغما عن سلطة الدولة الفيدرالية المركزية، علنا وعلى رؤوس الأشهاد.
أما سياسيونا العراقيون فقد فعلوا، ومصرون على أن يفعلوا العكس. فهم جزأوا الدولة الموحدة، ويريدون اليوم أن يجزأوا المجزأ، بدوافع طائفية وعنصرية وحزبية، فيُفقدوها ما تبقى من قوتها ووحدتها وهيبتها وسيادتها الوطنية.
وأغلب الظن أن عشم المتاجرين بحقوق الطائفة السنية المغتصبة، الداعين إلى إقليم سني طائفي، عشمُ إبليس بالجنة، وذلك لأن جماهير المحافظات السنية اليوم غيرُها بالأمس.
فلن يستطيع أحد، بعد عشرين سنة من الخراب والفشل والاحتراب، أن يقنعها بسلامة نوايا هؤلاء المزوّرين والغشّاشين والمهرّبين الذين خبرت ورأت وسمعت ولمست وتأكدت من أنهم سرقوا حصّتها من مقاعد البرلمان والوزارة، وحولوها إلى قصور ومزارع وشركات وعمارات في دبي وعمان ولندن وطهران وأنقرة.
ولو كان للعراق قضاء يحترم نفسه وأهله لما استحق هؤلاء غير أن يكونوا سجناء، أو هاربين من وجه العدالة عائدين إلى مقاهي العواصم العربية والأجنبية التي جاءوا منها.
فإن كانت جماهير المحافظات السنية الست تشكو من فساد الحكومات المركزية المتعاقبة في بغداد، فإنها تشكو أضعافا مضاعفة من فساد سياسييها المحسوبين عليها والمتسلطين على مجالس محافظاتها ومؤسساتها بقوة المال والسلاح.
إن أي مشروع تقسيمي انفصالي من هذا النوع، وفي هذا الوقت بالذات، هو عمل غير وطني وغير شريف يراد به التشويش على اليقظة الشبابية الوطنية الشجاعة الداعية إلى حكم ديمقراطي وطني حقيقي غير مغشوش لا يتحكم به صاحب خنجر وسكين، ولا وصي أجنبي، أيّا كان، ومن أيّة ملة كان. خصوصا وأن التبدلات الرأسية الحاصلة في المنطقة، والمرشحة للوصول إلى العراق، تنبئ بأن زمن حكم الطوائف والعنصريات القومية يقترب من آخر أيامه التي أدمت وأنهكت البلاد والعباد وآن لها أن تودع في صناديق المهملات.
والوقائع والقرائن تؤكد أن جماهير المحافظات السنّية، بالخصوص، قد استفاقت وصحّحت مقاييسها، وصارت أقرب إلى يقين بأن الوطن لا يمكن أن يصبح وطنا يليق بالبشر إلا بالعودة إلى وحدة الدولة وعودة هويتها الوطنية الموحدة الأعز والأهم والأكرم والأكثر ضمانا للسيادة والحياة الحرة الكريمة والأمن والأمان. إنها إرادة الطوفان الحضاري العصري المتدفق الذي لا يعود إلى الوراء.
نقلا عن صحفية العرب