ماريا قبارة
كاتبة سورية
ألقى غبطة البطريرك يوحنّا العاشر اليازجي عظة خلال قداس الأحد الماضي في كنيسة الصليب المقدّس بدمشق، تضمنت رسائل متعددة؛ مزجت بين الدين والسياسة، حاول فيها تقديم رؤية متجددة حول التعايش والوحدة الوطنية، لكنّها لم تكن بمنأى عن الجدل، خاصّة في ضوء مواقفه السابقة الداعمة للنظام السوري، والمعادية للثورة الشعبية التي انطلقت طلباً للحرية والكرامة.
افتتحَ البطريرك كلمته بالحديث عن النور الإلهي الذي أشرق بولادة السيد المسيح، مستشهداً بنصوص من الإنجيل والقرآن الكريم معاً. وعلى الرغم من أنّ هذا التوجه بدا كدعوة للحوار بين الأديان، إلّا أنّه أثار حيرة واستياء بعض المؤمنين. فاستدعاء نصوص غير مسيحية في عظة كنسيّة يُعدّ خروجاً عن السياق اللاهوتي التقليدي، وقد يُفهم على أنّه محاولة للتّقرب من شريحة معينة، بدلاً من تعزيز الهوية الإيمانية الواضحة للمسيحيين، الذين يعانون أصلاً من ضغوط اجتماعية وسياسية هائلة.
أمّا حديثه عن الثورة، فقد بدا مشوباً بالتناقض والافتقار إلى المصداقية. إذ وصفَ البطريرك الثورة بأنّها “انبلاج النور وسقوط الظّلم”، متجاهلاً تماماً حقيقة أنّه كان طوال أعوام الصراع السوري في صفّ النظام الذي قمع الثورة الشعبية ووصفها بالإرهاب. فالكنيسة تحت قيادته لم تكن محايدة، بل لعبت دوراً سياسياً داعماً للنظام، وبررتْ ممارساته ضدّ الشعب السوري، ممّا ساهم في تعميق الانقسام وإضفاء بُعدٍ دينيّ على الأزمة.
إنّ محاولة البطريرك الآن الحديث عن “الثورة الحقيقية” تأتي متأخرة ومجردة من أيّ مصداقية، خاصة في ظلّ غياب أيّ اعتراف بمواقف الكنيسة، التي أسهمت في تمكين النظام من قمع الأصوات المطالبة بالحرية.
أكثر ما أثار الاستغراب في كلمته هو استحضاره لمفهوم “سوريا الأمّة”، مستخدماً لغة تحمل أصداء شعارات الحزب القومي السوري الاجتماعي. هذا التوجه يعكس استلهاماً لفكر إيديولوجيّ تجاوزته الأحداث، وفشلَ في تحقيق مشروع وطني جامع. استدعاء هذا المفهوم اليوم، في ظلّ مشهد سوريّ مليء بالدمار والانقسام، يبدو كأنّه محاولة لإعادة تدوير شعارات فارغة بدلاً من تقديم رؤية حقيقية وعملية تنبع من معاناة السوريين وتطلعاتهم لبناء دولة تحترم حقوقهم.
ورغم إشارته إلى بناء سوريا جديدة تقوم على أسس المواطنة والمساواة، فإنّ هذه الدعوة تفقد قيمتها عندما تصدر عن شخصية كنسية لعبت دوراً واضحاً في إضفاء الشرعية على نظام مارس القمع وكرّس الطائفية والانقسام. الحديث عن “سوريا جديدة” يتطلّب خطوات جادّة، تبدأ بالاعتراف بمسؤولية الكنيسة ومراجعة مواقفها، لا الاكتفاء بالكلمات التي تبدو أقرب إلى محاولة تجميل الصورة من مواجهة الواقع بصدق.
إنّ الشعب السوري، الذي عانى القتل والتهجير وفقدان الكرامة طوال أعوام الحرب، لا ينتظر خُطباً تحمل شعارات فضفاضة أو محاولات لتلميع دور الكنيسة في المشهد السياسي. السوريون بحاجة إلى مواقف صادقة تعترف بالأخطاء وتدعو إلى إصلاح حقيقي يتجاوز المصالح الضيقة ويصبُّ في بناء وطن يضمن الحرية والكرامة لجميع أبنائه.
في الختام، بدتْ كلمة البطريرك يوحنا العاشر محاولة لتجميل دور الكنيسة وإعادة تعريف موقفها في ظلّ التحولات الراهنة. لكنّ الخطاب، بكلّ ما حمله من دعوات ظاهرها الوحدة والتعايش، افتقر إلى الصدق والجرأة اللازمة لمواجهة الحقائق. وإذا أرادت الكنيسة أن تكون شريكاً في بناء سوريا المستقبل، فإنّ عليها أن تبدأ من الاعتراف بمواقفها السابقة، والتخلي عن الخطابات المجردة لصالح أفعال تعكس التزاماً حقيقياً بمطالب الشعب السوري وتطلعاته المشروعة.
نقلا عن حفريات