كتب .. احمد عبد اللاه
الوعود التي أطلقها ترامب للشعب الأمريكي خلال خطاب القسم كثيرة وكبيرة قياسا بتلك المألوفة ممّن سبقه. وربما نفخ من خلالها أبخرة ساخنة في مزاج من يعيش موجة الصقيع الشتوي التي حلت على الأجواء خارج الكابيتول وافقدته نشوة الذروة بعد أن تسببت بغياب الحشود الكبيرة المحتفية بعودته التاريخية من أقفاص المحاكم إلى عرش البيت الأبيض. مما اضطره ان يلقي خطابا في صالة مغلقة أمام رموز الأوليغارشية من رجال المال والسياسة .
امريكا بلد الفرص الكبرى والإمكانات اللامحدودة كما توصف، صارت، في خطابات ترامب، بحاجة إلى (مُخَلِّص) يعيد لها عظمتها، وإلى قائد ملهم، ليس بالضرورة من سلالة اباطرة الرومان وإنما من طبقة المال والأعمال، يدشن مرة اخرى حكماً بلوتوقراطياً بمفهوم (لا تاريخي) و بادوات جديدة ومعانٍ ليبرالية أمريكية. لم يأت من مؤسسة سياسية ولم تؤلفه جماعات الضغط أياً كانت هويتها، لكنه، كما يزعم، أتى بعد أن راودته الأضواء تدريجياً ودفعه فضول المريدين، حتى فعلها في عصر الإعلام النووي و الخطابات المنفلتة.
لم يعهد العالم الحديث زعيم دولة عظمى بهذه الطاقة المتحفزة للحكم، وبقبضة اليانكي المتمرد على دولة العم سام العميقة، كما هو عليه الرئيس ٤٧ للولايات المتحدة حين يقدم نفسه مرة ثانية منقذاً لأمريكا من الانحدار الذي تسببت به “سياسات الزعماء على مدى الأربعين عاماً الأخيرة”. بل ظهر أيضاً وكأنه رئيس الكوكب الذي انتظرته شعوب وحكام بتوقعات متباينة ومشاعر مختلطة، بين أن يكون عدواً مبيناً أو حليفاً مُهيناً، يصبح الصديق بعد طاعته عبدا. و الاخير شأن الصغار في عالم القرن ٢١ حتى وإن كبروا بين أترابهم وتسيّدوا في أقاليمهم.
شملت وعود الرجل، الذي لم يضع يده (أثناء القسم) على أناجيل العائلة أو النسخة التي أقسم عليها جورج واشنطن أو أبراهام لينكولن، طيفاً واسعاً من القرارات والإجراءات بدءاً من إعلان طوارئ في الحدود الجنوبية إلى مواجهة التضخم، و إصلاح المنظومة التجارية، وإلغاء القيود التنظيمية، والتخفيضات الضرائبية وطوارئ الطاقة، إلى الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ ومن بعض المنظمات.. الخ. لكن الأكثر ضراوة هي “استعادة قناة بنما” وتغيير اسم “خليج المكسيك” وابتزاز اقتصادي على كندا والمكسيك و القارة (الأُم) العجوز والصين. إضافة إلى الضغط بالانسحاب من الناتو لتحفيز أوروبا للإنفاق العسكري.
الايفاء الحقيقي بكل وعوده كما حصل في مشواره الأول أصبح أمراً وارداً دون حاجة إلى دالة جاوس أو تقييم الانحرافات المعيارية المحتملة. لأنه سوف ينفذها بالوفاء والتمام كما هي، ما لم يقف الدستور في وجهه. وتلك ميزته التي جعلت منه غولاً جمهورياً و نموذجاً مثالياً لليمين المتطرف الذي قد يعيش أزهى عصوره منذ الحرب العالمية الثانية.
أوروبا العجوز المتصابية تخشى ان يرتد انتصار ترامب على أقدارها في إنتاج موجةً عالية من اليمين في قارة عاشت حروب هي الأكبر في العصر البشري. وتمر اليوم بمرحلة غياب القادة التاريخيين العظام كما كانت نخبها تراهم. حتى تعملقت نماذج صغيرة : ماكرون، بوريس، سوناك، جورجيا… وكذلك المستشار شولتز خليفة ميركل التي قدمت تجربة حكم طويل جعلت منها العقل الألماني الأخير الذي تحرر بعد انهيار جدار برلين دون الحاجة إلى فيزياء (جامعة لايبزيج) لتعززها بقدر من الرطانة السياسية.
ومن هنا يأتي الحديث عن وريثة (دويتشه رايخ) ليعرف العالم ماذا أنتج شعار “ألمانيا فوق الجميع”، وكيف تعلمت أوروبا درسا نهائيا بان لا عودة للتاريخ إلى الوراء والى تلك الخطابات النارية ل(الفوهرر). لهذا تخشى أن تتصاعد صرخات حركة (ماغا) الأمريكية من التيار القومي المحافظ، وتوقظ فكرة (أولاً) في العقل الباطني للشعوب البيضاء على خلفية الإحساس بالقوة والتفوق، بدلا من العلاقات المتكافئة، وتدفع موجات اليمين المتطرف الذي قد يتجاوز المدرسة الترامبية.
خطاب ترامب وإيحاءاته التوسعية، ليس على الصعيد الاقتصادي وإنما جغرافياً لتشمل كندا وجرينلاند و قناة بنما، قد لا يذكّر ب(الرايخ الألماني الثالث) لأن أمريكا ليست وريثة ما يشبه (جمهورية فايمار). ولكن الخطاب سوف يعزز التيقظ الحسّي في أوروبا وفي العالم الآخر لمواجهة ارتداداته.