أمينة خيري
على مدار العقد ونصف الماضيين، وفى مثل هذا الوقت من كل عام، يتذكر المصريون مجريات يناير 2011 بمشاعر متباينة.
هى مزيج من محاولة الفهم وجهود التحليل والتأرجح بين ما كان ينبغى أن يكون، وما كان بالفعل.
المصريون ليسوا صورة طبق الأصل من بعضهم البعض، شأنهم شأن كل شعوب الأرض.
وغير مطلوب أن يكونوا صوراً مستنسخة، وإلا تحولنا إلى مسخ.
بيننا من يعتبر أحداث يناير 2011 مؤامرة كبرى، أو غضبة شعبية حقيقية، أو مخططاً للمنطقة تم استخدام البعض فيه كعرائس الماريونيت، أو حدثاً مصرياً خالصاً، أو نتيجة طبيعية لضغوط طال تجاهلها وفساد بالغ مقترفوه فى ارتكابه، وقائمة الآراء طويلة.
ورغم اختلاف الآراء والاعتبارات، لكن ما تتفق عليه الغالبية هو أن تيار الإسلام السياسى، ممثلاً فى جماعة «الإخوان المسلمين» أبدعوا فى اقتناص الفرصة التى انتظروها منذ تأسيس كيانهم فى عام 1928، ولم يكتفوا بالانضمام إلى التيار الغاضب أو الثائر، بل نحوا التيار جانباً، وسرقوا كل ما يمكن سرقته من البلاد والعباد، ولولا غضبة القاعدة العريضة من المصريين بعد عام كارثى مأساوى من انفرادهم بالحكم، لكنا اليوم دولة إخوانية بامتياز.
اليوم، وبينما يخوض بعضنا فى رحلة استعادة الذكريات، وبينما تتّضح الرؤية أكثر مع متابعة «تأثير الدومينو» الدرامى فى المنطقة، يتبنى أغلبنا موقفاً واحداً فى شأن الدولة المصرية.
الدولة المصرية دولة مدنية، ليست دينية، أو طائفية، أو «نُص نُص»، أى تتأرجح بين الدينية والمدنية، أو هكذا يُفترض ونتمنى.
اليوم يتضح لنا بالعين المجرّدة أن الدولة الدينية، أى القائمة على مرجعية بعيدة عن دولة القانون، والتى يحل مواطنوها مشكلاتهم وخلافاتهم عند شيخ الجامعة أو قس الكنيسة، التى يختلط فيها التعليم الدينى بغير الدينى، والتى يحاول فيها رجل الدين التدخّل فى السلطة المدنية، التى يتم فيها ترهيب المعترض على مزج الدين بالدولة باتهامه بالكفر، هى خراب مستعجل.
نظرة سريعة إلى الدول من حولنا، وكيف وقعت هذه، وكيف تصارع تلك من أجل البقاء، يتضح أن الوجه البرىء للدولة الدينية يكشف عن وجهه دون رتوش.
تحية كبيرة إلى شعب مصر وجيشه الوطنى غير الطائفى المكون أفراده من أبناء كل بيت مصرى.. وتحية إلى الشرطة أيضاً فى عيدها.
حتى وقت قريب، كان البعض يُطلق النكات على أعيادنا التى لا تخرج عن إطار أيام عطلة، نُمعن فيها فى تجهيز الولائم وأطايب الطعام، أو نسعد بيوم الإجازة فقط.
اليوم تأتينا عطلة «25 يناير» لتكون مناسبة سنوية للتفكير وإعادة الحسابات وتطبيق القول المأثور «عقلك فى راسك، تعرف خلاصك».
العقول فى الرؤوس مهمتها إخضاع قراراتنا وأفكارنا لحسابات المكسب والخسارة، المادية والسياسية، والاجتماعية، والنفسية والثقافية.
وهنا أدعو إلى إخضاع قرارات أو أفكار مثل عودة الكتاتيب وتعريب علوم الطب والصيدلة والتوسّع فى مؤسسات التعليم الديني لحسابات المكسب والخسارة الهادئة.
«الهدوء» صار نعتاً عزيزاً نادراً فى هذا الكوكب، الحروب والصراعات وتغيّر المناخ والحرائق وتأرجح المصالح من أقصى اليسار إلى آخر نقطة فى اليمين وتوازنات المصالح المتغيرة المذهلة التي يجرى قلبها رأساً على عقب بين ليلة وضحاها وهيمنة الذكاء الاصطناعي والرقمنة لدرجة ترشّحهما ليكونا «القوة العظمى» الجديدة فى العالم والتحولات الديموغرافية الرهيبة، سواء الناجمة عن تنقلات السكان عبر الهجرة واللجوء والنزوح أو القنبلة السكانية الجديدة المتمثلة فى شيخوخة السكان وغيرها جعلت كلمة «الهدوء» تبدو غريبة ومدهشة.
فى هذا السياق، تُعد الولاية الجديدة للرئيس دونالد ترامب العالم بمزيد من الغرابة والدهشة، بعيداً عما إذا كانتا إيجابيتين أو سلبيتين.
كيف سيمضى الرئيس الأمريكي الجديد (القديم) قدماً فى ملفات حرب روسيا فى أوكرانيا، وحلف «الناتو» الذى تربطه بترامب علاقة أبعد ما تكون عن التواؤم أو حتى التصالح، وملف إيران ووكلائها الملغوم، وعلاقة بلاده بالصين والرسوم الجمركية وقناة بنما، وموقفه من كوريا الشمالية، وملف المهاجرين، وبالطبع، سياسات أمريكا تجاه الشرق الأوسط، كلها أسئلة تشغل بال الثمانية مليارات شخص من أهل الأرض.
وما دُمنا تطرّقنا إلى الشرق الأوسط، ورغم أن سياسات الحزبين الديمقراطي والجمهوري فى هذا الشأن لا تختلف كثيراً، عكس ما يعتقد، أو ما يُحب أن يعتقد البعض من أبناء منطقتنا، إلا أن الشرق الأوسط سيكون جديداً حقاً.
مرة أخرى «الجديد» لا يعنى بالضرورة الجميل أو العادل أو المبهج، هو فقط جديد، بمقاييس جديدة، ومعايير جديدة، وتوازن قوى جديد، وأعداء الأمس سيكونون أصدقاء اليوم وغداً، ومصائر قضايا عالقة، على رأسها القضية الفلسطينية سيُحدد لها مصير جديد ومكونات المشهد الجديد كثيرة.
وبعيداً عن حنجوريات «عدم تدخل أمريكا» فى شئون هذه الدولة أو تلك، واستقلالية القرار فى هذا الملف أو ذاك، فقط، نذكر أن القادم يختلف عن الحاضر والماضي، وطوبى للدولة الوطنية التي ستظل قادرة على الصمود، بعيداً عن خراب الإسلام السياسي من جهة، وتدخّلات الخارج من جهة أخرى.
المصدر : الوطن