احمد عبد اللاه
كنا نعدّ الأيام كي نلتقيهم ثانية ونسترجع معهم حكاية ما ذهب من أعمارنا ومافاتنا في زمن البُعد. ذهب الذين نحبهم.. واسُتردُّوا إلى عالم الغيب تاركين مساحة كبيرة من الحزن في قلوبنا.
في غيابٍ اختياري ذهبنا ولم نتّفق كيف نغيبُ، و عشنا على وعدنا وقلنا رُبَّ يوم سياتي ونرى معاً وطن الكواكب، ونستعيد خيامنا وقوافلنا وجبالنا وسهولنا. لكنك اخترت الرحيل الأبدي يا عبداللطيف وما كان لنا أن نتفق كيف ترحل ومن سيخلف ذاك البريق الطبيعي وتلك الروح النقية. فعلتها دون قرارك و رضاك. تلك مشيئة السماء واقدار الخالق العظيم.
أيها الطبيب الجميل ياصاحبي، كان لنا أن نراك يوما تسير على ظهر تلك المدينة.. كما قلتَ ذات عام، لديك امنية ان نطوف بأنحاء البقاع في جغرافيا الطفولة، من المنحدرات إلى الأودية ومن التلال إلى الأزقة ومن الملاعب إلى دواوين الرفاق ومن الأقمار، تتراقص على سطح ماء المزن فوق سقوف المنازل في ليلة صيف، إلى شرفة معلقة على تبّة (العَرَشي) ومن “عرائش الكروم إلى صمت العصافير”.. وحتى من “نشيج المزاريب” إلى هدير السيول الزاحفة. كأنا نستذكر أنشودة السيَّاب التي شربنا مطرها لاول مرة خارج (صفوف المدرسة). مطر.. مطر.. مطر أخي عبد اللطيف والضالع تغرق في حزنها وتسيل ما تسيل من “دموعٍها الثقال” حين تعلم أنك قد نمت هناك “نومةَ اللحود” بعيدا عن تلك التلال.. وأنك لن تعود.
اعطيت كل ما لديك من خلال مهنتك ومكانتك العلمية والأكاديمية ومثابرتك والتزاماتك وعلاقاتك وعشت حياة نافعة للآخرين ومطْمئنّة بضمير ابيض وكنت مثالاً نادراً. ثم تركتنا عالقين بين الحلم والخوف. لم تُكمل يا صاحبي مشوار الصبر الإجباري ولم تطاوع استراتيجيا الانتظار حتى عودة البلد.
نصفنا هناك عالق في حاضره و نصفنا الآخر هناك ايظاً غارق في ماضيه، يهيم في أطياف الشتاء وأندائه ويتلاشى في سحائب الصيف ودواماته و دفقاته التي تحمل ما احتواه المدى نحو انحدارات متخيلة، ينمو في سنابل القمح ويمتد على الطرق المؤدية إلى المدارس والمساجد والملاعب والأندية… فلماذا يا صاحبي، كلما تقدم بنا العمر تكاثف الماضي فينا كالسحاب ولماذا تكمن نجوانا في صقيع الصبر، حتى يوقظنا رحيلك؟
في الحارات القديمة وفي الملاعب وعلى المساحات الخالية وفي السهول والمزارع… ترك رفاقك الصغار ضحكاتهم وأوقات الصفاء والفرح خلفهم، ثم تركوا ضجيجهم للشمس و للمساءات المقمرة، تركوا أقدامهم الصغيرة مزروعة في تلك الأرض. لا تأتي الحياة والتواريخ بنبت مورق يشبه ذلك الجيل الذهبي الذي أشرقت حياته بطريقة مختلفة على عالم من المثاليات والأحلام الكريستالية ووشائج الألفة والمحبة. لم تفرقهم طبقات أو تنمو بداخلهم شرائح فاسدة ولا تقتلهم رصاصات طائشة ولا يؤرّق ضمائرهم اضطرار تأييد مَنْ لا بدّ من تأييده. ذهبوا تباعا وتباعدت أصواتهم حتى تلاشى صداها. ومن تبقى منهم بات شموعاً لساحات الانتظار.
لم يأت موسم الحصاد ياصاحبي، وليس هناك موعد نهائي منذ أن وقف الناس في نهار (أسود) على أرصفة الطيش يراقبون حبل السارية ينزلق نحو مهاوي الضياع. بعده أصبح كل شيء يساوي صفر من المعاني الخالدات وحياتنا تمضي في أعنّتها، و منذئذ صار كل شيء مؤقت. انكسر التسلسل والتتابع في رحلة العمر وتشققت الأرواح وتوزعت على مفترق المراحل بعد أن خاب من قاد.
وها نحن رفاق الصبا يمتصنا الشتات و ترعبنا الأخبار في كل مرة، لا سيما حين نصحو على فقدان من نحب. رحلت يا اخي الحبيب بعد أن طويت عمراً مترعاً بمحبة الناس واحترامهم.
وداعاً يا صاحبي ولكل الاهل والاصدقاء والمحبين خالص التعازي والمواساة. تقبلك الله بواسع رحمته.