كريتر نت / اليوم الثامن
المملكة العربية السعودية وتركيا، و اللتا تميزت علاقتهما بالتعقيد الشديد، هما قوتان لهما دورهما الاقليمي المؤثر في منطقة الشرق الأوسط ، ولهما من المكونات الصلبة التي تؤهلهم لذلك، من قوة اقتصادية وجغرافية وعسكرية، وتاريخية ودينية كما أنهما يقومان حاليا بأدوار إقليمية فاعلة في مناطق الصراعات المختلفة في المنطقة العربية، فالسعودية لاعب لإقليمي من العيار الثقيل، وفاعل أساسي على المستوى الدولي ولها علاقتها القوية والراسخة بالوطن العربي والعالمين الإسلامي والغربي، فقوة السعودية من مكانتها الروحية كدولة راعية للحرمين الشرفين رمز مهم لدى المسلمين،وقوة اقتصادية كبيرة في مقدمتها النفط فهي احدي الدول التي تتحكم في اسعار النفط عالميا، أما تركيا فهي لاعب رئيسي في عدة ملفات إقليمية ودولية، وأيضا قوة أنقرة من خلال الارث العثماني وجماعة الإخوان، هذه المعطيات تجعل من ملف العلاقات التركية السعودية شديد الأهمية ، لما يرتبه من تداعيات على منطقة الشرق الأوسط ككل، وعلى كل القضايا العالقة والمتأزمة فيه.
شهدت العلاقات السعودية –التركية سلسلة من المد والجزر، منذ وصول حزب العدالة والتنمية “الاخواني” بر ئاسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الحكم في2001 وحتي اليوم، وتميزت بالتباعد خلال عهد الملك الراحل “عبد الله بن عبد العزيز، نظراً لاختلاف الرؤى الاستراتيجية اتجاه الثورات العربية ، والموقف اتجاهها ، نحو التأييد أو الحياد ، خصوصاً الثورة المصرية والتونسية، إلى أن جاء الملك ” سلمان بن عبدالعزيز” فى العام 2015 ، ليبدأ مع ذلك مساراً جديداً فى تاريخ العلاقات السعودية-التركية ، ودفعها نحو الأفضل، وذلك لم يأت من فراغ ، اذا بات واضحاً أن ظروف التى صاحبت مرحلة توليه للعرش فى السعودية،ربما تكون قد فرضت عليه واقعاً جديداً أيضاً على مستوى تلك العلاقات ، فى ظل التغلغل الايراني الذي بدأ بشكل عميق فى تلك الأونة ، بالتحديد فى ظل سيطرة الحوثيين على صنعاء اليمن فى سبتمبر 2014 ،حيث تزامن ذلك مع تراجع خطر الثورات العربية ، والضعف الذي خيم على جماعة ” الاخوان المسلمين” ، ما دفع السعودية لاعطاء الأولوية للخطر الايراني المتعلق بالثورات والاسلام السياسي.
لكن ونتيجةً للموقف السعودي المتأخر الداعم للحكومة التركية، والرافض لمحاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها تركيا في 15 يوليو 2016، والحديث عن دعم خليجي لهذه المحاولة، بدا وكأن حالة الجفاء والتباعد بدأت تعود من جديد لتطغى على العلاقات السعودية التركية . لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل ومع إعلان دول: السعودية والإمارات والبحرين ومصر قطع علاقاتهم مع قطر في 5 يونيو 2017، وما تبعه من تطورات خطيرة. كان أهمها تبني البرلمان التركي في7 يونيو من نفس العام، اتفاقيتان تسمحان بنشر قوات عسكرية في قاعدة تركية في قطر، تطبيقاً لاتفاقية الدفاع المشترك، التي وقعها البلدان في 2014، وهو ما اعتبر آنذاك اصطفافاً تركياً مع قطر، وكذلك مساعيها لاقامة قاعدة عسكرية في السودان على ساحل البحر الأحمر، فضلاً عن توجس المملكة من تواجد قوات دولة، تعتبرها السعودية منافس إقليمي لها في عمقها الاستراتيجي.
ومع بدء الأزمة الخليجية ، و تولى الامير محمد بن سلمان، منصب ولى العهد فى 21 يونيو، والذي يعد ذو نفوذ وتأثير في السياسية السعودية الداخلية والخارجية، والذي جاء توليه بعد اندلاع الأزمة الخليجية مباشرة، للتباعد وتتعمق الأزمة العلاقات بين المملكة وتركيا.
وفي الوقت الذي كان التخوف كبيراً من خطر الاسلام السياسي وعلى رأسه جماعة الاخوان المسلمين ، تبعه قدوم ” سلمان الابن” ، واعطاؤه أولوية لخطر ثاني أيضاً، هو الخطر الايراني ، وهكذا كان يرى أنه يجب التعامل باستراتيجية مختلفة تجمع المواجهة بين خطر الاسلاميين والخطر الايراني فى آن واحد ، وهو ما يرتكز عليه التصريح الذى أدلى به فى مارس 2018، بأن تركيا جزء من مثلث الشر إلى جانب إيران والجماعات الإسلامية المتشددة.
ومن المخطات التي وسعت الهوية بين المملكة وتركيا، تشكل أزمة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية المملكة باسطنبول، أبرز مراحل الأزمة وتطورها ،ومنذ تلك الحادثة وتركيا آخذة في التصعيد؛ وعملت حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان على المتاجرة بالقضية من أجل الضغط على المملكة ،واستخدام قضية مقتل خاشقجي كورقة للمساومة والضغط على المملكة ،بل والتدخل في من يحكم السعودية في تدخل سافر ومستفز لقوة المملكة الاستراتجية والتي استطاع تعرية الأهداف التركية من وراء قضية المملكة اقليمياً ودولياً.
وبالمجمل عند استعراض مسارات العلاقات السعودية –التركية، لابد من ابراز ثلاث قضايا مهمة كان لها الأثر الكبير جعلت هذه العلاقات مابين مد وجزر كما سبق أن أشرنا :
أولاً : الأزمة السورية
إن الدعم السعودي للأكراد في منطقة شرق سوريا ، من أسباب الجفاء الذي يخيم على العلاقات التركية السعودية حالياً، أما المستوى العسكري ، فقد ذكرت صحيفة “يني شفق” التركية في 9 نوفمبر2018، أن كلّ من السعودية والإمارات، أرسلتا قوات عسكرية نحو مناطق سيطرة الأكراد في شمالي شرق سوريا.
ومن ثم ، جاء قرار الانسحاب الأمريكي من سوريا ، ليجعل من الموقفين السعودي والتركي متناقضان اتجاهه ، فبينما ترغب تركيا في انسحاب أمريكي بطئ ومنسق معها، فإن السعودية لا ترغب في حدوث أي انسحاب أمريكي؛ لرغبتها في احتواء النفوذ الإيراني وقطع ممرها البري، والذي يفترض تواجد عسكري في الشرق السوري.
إن حدوث انسحاب أمريكي كامل، يمكن أن ينهي أي توتر سعودي تركي مصدره الساحة السورية؛ لأن الدعم السعودي للأكراد مرهون بوجود مظلة أمريكية لهم، ولكن هذا السيناريو ليس مرجحاً حدوثه، أما الخيار الثاني وهو، عدم الانسحاب من الأساس وبقاء الوضع على ما هو عليه، يعني استمرار الملف السوري كدافع لتباعد تركي سعودي نتيجة لاستمرار الدعم الأمريكي السعودي للأكراد.
ثانياً: أزمة خاشقجي
تعد أزمة مقتل الصحفي السعودي “جمال خاشقجي” في القنصلية السعودية باسطنبول في أكتوبر 2018، من أهم وأخطر الأزمات التي تهدد العلاقات التركية السعودية حالياً. بل يمكن القول، أن هذه الأزمة قد تؤدي في نهاية المطاف لتغييرات كبيرة في المنظومة الإقليمية الشرق الأوسطية، ولكن أبقت السياسية السعودية كما هي بل وتوسعت العلاقات السعودية وتشبعت في خط متقاطع مع الأهداف الخارجية التركية، والتي كشفت عن وجهها بدعم الجماعات الارهابية والميليشيات المسلحة في الوطن العربي.
أما بالنسبة لتركيا، تعتبرها فرصة كبيرة من أجل التخلص من الشخص الأكثر عداءً لها في الأسرة الحاكمة، وخاصة الأمير محمد بن سلمان، كحد أقصى، أو تحجيم دوره في صناعة القرار، وتحجيم الرؤية التي يتبناها تجاه المنطقة كحد أدنى، وكذلك الحصول على تنازلات سعودية في ملفات بالمنطقة ،ومكاسب اقتصادية لانقاذ اقتصاد تركيا المتراجع، وهي ما كشفته أنقرة التي خسرت المواجهة مع الرياض في استخدام مقتل خاشقجي كورقة للمساومة.
في بداية الأزمة، تركت تركيا الأمر للسعودية للكشف عن الجريمة وملابساتها والتحقيق فيها، ولكن الأداء السعودي لم يكن على المستوى المطلوب، فطلبت تركيا تسلم المتهمين بارتكاب الجريمة للتحقيق معهم، ومع رفض السعودية، لجأت تركيا لتدويل الأزمة.
وحتى الآن، لا يبدو لهذه الأزمة تأثيراً سلبياً كبيراً على ولي العهد السعودي فلازال في منصبه متحكماً لديه حضوره وتأثير في صناعة القرار السعودي، ولم تطرأ تغييرات جذرية على السياسات الإقليمية السعودية ، فالأزمة الخليجية مستمرة، والحرب في اليمن لازالت قائمة، وموقفها الداعم للأكراد في الشرق السوري لم يتغير.
لكن تركيا والتي ستستمر في تصعيدها لأبعد مدى، وسيستغرق ذلك وقتاً طويلاً، وهو ما سيؤثر على العلاقات التركية السعودية بمزيد من التباعد والجفاء .
ثالثاً: الأزمة الخليجية
نتيجةً لأزمة “خاشقجي” ، ذهبت بعض التقديرات إلى إمكانية قيام السعودية بمراجعة سياستها الخارجية، على رأسها الأزمة الخليجية ، لكن باصطفاف تركيا مع قطر في هذه الأزمة، فإن استمرارها يعد سبباً رئيسياً لاستمرار الجفاء والتباعد في العلاقات السعودية التركية، فمن شأن حل الأزمة الخليجية، أن تدفع الأجواء الإيجابية المصاحبة لها لتحسن العلاقات التركية السعودية. وما يرجح ذلك، هجوم وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” في 16 ديسمبر الماضي، في منتدى 2018 بالعاصمة القطرية الدوحة، على السعودية والإمارات ومصر، مؤكداً على دعم بلاده لقطر، فاستمرار هذه الأزمة واستمرار معها مثل هذه التصريحات، سيكون عامل معوق لتحسن العلاقات التركية السعودية خلال عام 2019.
رابعاً: المشكلة الإيرانية
إن استمرار الأزمة الخليجية ومعها أزمة خاشقجي، تساعد على ديمومة التقارب التركي الإيراني القطري، وهو ما يضعف من الموقف السعودي الإقليمي في مواجهة إيران ، فكما أن هناك خشية تركية دائمة من الدعم السعودي للأكراد، كذلك فإن استمرار التقارب التركي -الإيراني في مجموعة من القضايا من شأنه زيادة الفجوة في العلاقات التركية السعودية، وهو مايؤشر على اتساع هوية الخلافات بين المملكة وتركيا في ظل سياسية أردوغان الخارجية.
مستقبل العلاقات التركية- السعودية
في ظل هذه المسارات المتذبذة فى العلاقات التركية-السعودية ، والتى ستستمر إن صح التعبير على نفس الوتيرة مستقبلاً ، فإننا سنبقى أمام ثلاث سيناريوهات :
السيناريو الأول
تصحيح مسار هذه العلاقات نحو المصالحة واحتواء الأزمات التى ذكرت ، وهو سيناريو مستبعد في الوقت الحالي في ظل استمرار سياسية أردوغان الخارجية والتي تتركز على الهجوم الدائم ضد المملكة ،وكذلك سيطرة الإخوان على السياسية الخارجية التركية في التعامل مع الدول العربية في أكثر من دولة وملف مشتعل في المنطقة في مقدمتها اليمن والسودان وقطر وليبيا وسوريا.
السيناريو الثاني
استمرار التوتر، وهذا يقضي بإستمرار الوضع القائم بينهما، و الذي يشوبه توتر وفتور سياسي ، أو يحافظ على الحد الأدني من العلاقات بين البلدين، وهو ما يمكن أن نطلق عليه علاقة “الضرورة ” ببقاء “شعرة معاوية” بين أنقرة والمملكة ، في انتظار أي تغير في سياسية أنقرة الخارجية ،أو تغير نظام أردوغان في ظل تصاعد الغضب الشعبي من سياسية حزب العدالة والتنمية الداخلية والخارجية.
السيناريو الثالث
قطع العلاقات نهائياً، وهذا أيضاً يتوقف على سياسية “أردوغان” ومواقفه من ملفات متعددة في مقدمتها قضية “خاشقجي”، حيث من الممكن أن تلجأ الرياض للرد على هذا التصعيد لإعلان قطع العلاقات السياسية ، وتقوم بسحب سفيرها ، وهذا سيؤدي إلي إستمرار الأزمة وإتساعها ، كما سيؤدي لإستمرار الإنقسام الاقليمي بين محورين متناقضين إيديولوجيًا وسياسيًا ، الأول يضم كل من ” قطر،تركيا ،إيران ” ، بمقابل المحور الثاني الذي يضم كل من ” السعودية ،الامارات ،مصر” ، هذا الانقسام الذي من شأنه أن يؤثر بالتأكيد علي مجمل قضايا المنطقة وآليات التسوية نحوها.