كريتر نت / وكالات
ملابس من قشور الموز وأوراق الشجر، وأخرى من النباتات وحتى من القنب الهندي والخشب والخيزران، هل هي العودة إلى عالم طرزان وفتى الأدغال، أم صرعات مصممي الأزياء الباحثين عن الإثارة الإعلامية ولفت أنظار المستهلكين المغرمين بالاختلاف والمختلف؟
مصممون آخرون يقدمون ملابس من ثياب قديمة أعيد تدويرها ورتقها، وكأنهم يريدون إحياء مهمات الجدات بعد أن صارت من الماضي في حضور ما يسمى بالموضة السريعة في عالم يعيش حياة متسارعة؟ أسئلة كثيرة تتلخص في سؤال رئيسي، هل أصيب فنانو الموضة بالجنون أم عادوا إلى رشدهم؟
قد يتهم مصممي الأزياء بالجنون دون مغالاة، لأنهم يكسرون كل ما هو سائد في عالم الملابس وأناقة الجسد وإطلالته وكسر ثقافات الشعوب في ما يتعلق بالكساء، جنونهم هو إبداعهم الذي يترجم بالحرير والجلد والفرو والقطن، ملابس غالية الثمن طويلة العمر يتفاخر بها أصحاب الجاه والمال، ويتمناها الفقراء وينتظرونها في أسواق الملابس القديمة التي تعني في ما تعنيه مكبا للنفايات، سوق ما يلقيه المجتمع المخملي من ثياب بعد أن تجاوزتها الموضة التي تتجدد مع كل فصل من فصول السنة، ثم انتقلت دور التصميم وشركات الملابس الجاهزة بعد ذلك إلى الأقمشة المصنوعة من المواد الكيميائية مثل البوليستر في موضة جديدة وسريعة قوامها ربح قليل وترويج كثير لبضاعة قصيرة العمر تصل إلى شرائح المجتمع وتجعل من فصول السنة الأربعة المتعارف عليها عشرات الفصول.
عالم الموضة الذي يبدو نظيفا جدا ليس نظيفا كما نعتقد، فالموضة من أكثر العناصر تلويثا للأرض، والملابس الجلدية ومعاطف الفرو والإكسسورات المصنوعة من أنياب الفيلة كانت تستأثر بها حيوانات لا ذنب لها تعيش في البراري لتحافظ على التوازن البيئي في أرض يعيش عليها الإنسان ولا يحافظ عليها.
وعارضت جمعيات الرفق بالحيوان صناعة الموضة من مكونات أجساد الحيوانات للأغنياء.
وخلال هذا العام، تم في أسبوع الموضة بلندن منع المصممين الذين يستخدمون فرو الحيوانات من المشاركة، وقوبل هذا الحظر بالتزام بعض العلامات التجارية مثل بيبري وغوتشي وفيرزاتشي بالتخلص من الفراء، لكن هل يعني ذلك أن أقمشة المواد الطبيعية هي الحل على اعتبار أنها صديقة للبيئة؟
أطنان من النفايات
منذ ستينات القرن الماضي ارتفع عدد استهلاك الملابس بارتفاع عدد السكان المتزايد، وارتفع عدد الأطنان من الملابس في مكبات النفايات بارتفاع الاستهلاك العشوائي الذي يغذيه الإيقاع السريع الذي نعيشه اليوم. هناك حوالي 100 مليار قطعة من الملابس تباع كل عام في العالم أجمع، وقد تضاعف إنتاجها بين عامي 2000 و2014، حيث صارت الملابس هي المرآة التي تعكس شخصية الشخص وأسلوبه في عالم أصبح فيه كل شيء سريع الزوال.
منذ سنة 2014 ظهر ما يسمى بالموضة السريعة، وهو مصطلح حديث لوصف التصاميم غير المكلفة التي تتحرك بسرعة من المنصة إلى المتجر، ويشتري المستهلكون منها أكبر عددٍ من الملابس في أسرع وقتٍ ممكن، وذلك بعد الأخذ بعين الاعتبار موضوع خفض الأسعار مما يشجع على زيادة الطلب عليها.
في العصر الذي نعيشه اليوم، بات عامل “السرعة” يتحكم بمفاصل حياتنا ويسيّرنا ويتدخل في خياراتنا، ففي الوقت الذي ازداد فيه استهلاكنا للوجبات السريعة نظرا للضغوط اليومية وضيق الوقت، فإن كبرى دور الأزياء العالمية قررت بدورها الانخراط في لعبة السرعة من خلال إطلاق أزياء “معلّبة”، سرعان ما ينتهي مشوارها إلى الخزانة حيث تقبع فترة طويلة قبل قرار التخلص منها.
وتم تصميم هذه الملابس لتجعل المرء يشعر بأنه خرج عن الموضة بعد أسبوع واحد فقط من ارتدائها، ففي الماضي كان هناك فصلان للأزياء، ربيع/ صيف وخريف/ شتاء، أما الآن بتنا نشهد مواسم صغيرة في السنة قد تصل إلى 52 موسما، لأن متوسط عمر كل قطعة نشتريها لا يتجاوز الـ35 يوما بحسب خبراء الموضة.
وصارت دور الأزياء تنتج مئات الملايين من الملابس سنويا، وتضع هامش ربح صغيرا على الملابس ليكسبوا أرباحهم من خلال بيعها، أما المشكلة الكبرى، فتكمن في ذهاب الملابس مباشرة إلى مكبّ النفايات. ولكونها مصنوعة من الألياف الاصطناعية والبترولية، فسوف يستغرق الأمر عقودا حتى تتحلل.
ويُعتَبَر القطن مَلك الألياف الطبيعية من دون مُنازع، حيث يشكل القطن وحده نسبة 30 بالمئة من مُجمل الحصة السوقية للمنسوجات التي تحتلها الألياف الطبيعية والبالغة 40 بالمئة، لكن زراعته تتطلب الكثير من الماء إذ يتطلب تصنيع قميص قطني واحد حوالي 3 آلاف لتر من المياه.
ويعتبر هدر المياه قضية مهمة بشكل خاص، كما يتطلب إنتاج القطن استخدام كميات ضخمة من مبيدات الآفات والمياه، ما يجعله من أكثر المحاصيل تلوثا في العالم إذ يستخدم 16 بالمئة من مبيدات الآفات في العالم. أما تأثير صبغ الملابس على الهواء، والمياه، والتربة “فحدث ولا حرج”. وفي حال استمر الاستهلاك على هذا النحو، فمن المرجح أن يصل انبعاث النفايات النسيجية عام 2050 إلى نسبة 26 بالمئة.
ويقوم العديد من الأشخاص بالتخلص من ملابسهم برميها في القمامة، غير مدركين أن هذه الملابس بحد ذاتها أكبر مصدر للتلوث، مثلا تم التخلص من أكثر من 300 ألف طن من الملابس في المملكة المتحدة وحدها في عام 2016.
وعندما ينتهي الأمر بالملابس في مكبات النفايات، يمكن للمواد الكيميائية الموجودة فيها، مثل الصبغة، أن تتسبب في أضرار بيئية من خلال رشح المواد الكيميائية في الأرض.
ورغم أن الموضة خلقت العديد من الوظائف (مليون وظيفة في العالم) فإن الموضة هي واحدة من الصناعات الأكثر تلويثا للبيئة على هذا الكوكب، إذ ينبعث منها في كل عام حوالي 1.2 مليار طن من الغازات المتسببة في الاحتباس الحراري، وهذا يضاهي الرحلات الدولية وحركة النقل البحري مجتمعة.
الموضة المستدامة
أمام هذا الكم الهائل من النفايات التي تخلفها الملابس اتجه صناع القرار والناشطون في مجال البيئة وبعض دور الأزياء إلى التفكير في تطوير إنتاج واستهلاك الملابس والأحذية والإكسسوارات الأكثر استدامة والتي تحافظ على البيئة.
يمكن تعريف الأزياء الأكثر استدامة على أنها الملابس والأحذية والإكسسوارات التي يتم تصنيعها وتسويقها واستخدامها مع مراعاة الجوانب البيئية والاجتماعية والاقتصادية. إذن يبدو أن مصممي الأزياء وصناع الملابس عادوا إلى رشدهم بعد أن أغرقوا الأرض بالنفايات.
وأصبحت بعض الشركات تركز على تصميم أزياء ذات جودة عالية من مواد لا تتلف بسرعة، كما بدأت أخرى في تدوير الملابس المستعملة، فبعض شركات الأزياء السويدية بدأت تعتمد أنظمة لتأجير الملابس والإكسسوارات، فربما لا يتعين علينا امتلاك كل قطع الملابس التي نرتديها، ولكن يمكننا استئجارها أو استبدالها.
وهناك عمليات إنتاج مواد أولية نظيفة يجري اختبارها، حيث يمكن إعادة تحليل الألياف إلى مكوناتها الكيميائية الأصلية ثم إعادة تدويرها إلى ألياف مختلفة لصنع الملابس مرة أخرى بنفس الجودة، مما يعني أنه لا يتعين علينا الاستمرار في الاعتماد على الألياف الخام.
وتقوم بعض الشركات أيضا بتطوير مواد خام جديدة، مثل الجلود المصنوعة من العنب والبرتقال، ما يعني أن تلك الجلود يمكن أن تنمو في المختبر بدلا من أن نعتمد على الحيوانات التي تتعرض غالبا لظروف مروعة.
وتعمل بعض المخابر على الاستفادة من مخلفات الموز لصنع ألياف يمكن غزلها إلى خيوط واستخدامها لصنع السجاد وأقمشة فاخرة لصناعة الملابس.
بعض المخابر تستفيد من مخلفات الموز لصنع ألياف يمكن غزلها إلى خيوط واستخدامها لصنع أقمشة فاخرة لصناعة الملابس
هناك الكثير من بدائل القطن والبوليستر والنايلون التي تنمو دون مواد كيميائية أو مبيدات، وتعمل شركة سيوفكول السويسرية على إنتاج أقمشة من الألياف ومنتوجات الغزل المصنوعة من القنب، والخيزران والشيتوزان (وهي القشور والأصداف التي تُسْتَخلَص من الهيكل الخارجي للأصداف والمحار وسرطان البحر)، لكن رغم كل المحاولات الآنفة الذكر، لم يتم دمج سوى القليل من بدائل القطن التي تم تطويرها في خطوط الملابس الكبيرة.
وفي هذا المجال، تعتبر ألياف “لايوسل” (وهي ألياف مُصَنَّعة من سيليلوز لب الشجر وقد تم تطويرها في النمسا)، من أكثر الألياف نجاحا.
يقول متحدث باسم شركة “كاليدا” السويسرية التي أدمجت هذه المادة في مجموعتها، “إن لايوسل كمادة مستدامة للغاية، وهذا هو السبب الرئيسي الذي دعانا إلى بدء العمل به. بالإضافة إلى ذلك، فإنه يتميز بملمس لطيف جدا، مما يجعل الملابس المصنوعة منه مريحة”.
وما زالت التجارب تتطور في البحث عن بدائل، لكن وعي المستهلكين بجدوى هذه الحلول ما زال محدودا، لذلك أصبح من الضروري القيام بحملات توعية واسعة النطاق وخاصة في صفوف الشباب.
وتؤمن المصممات العربيات، بأن التغيير قريب ويتفقن على ضرورة تضافر جهود المصممين سواء كانوا رجالا أو نساء وعلى اعتماد الحكومات لسياسات وقوانين محفّزة، إضافة توعية المستهلكين بالانتباه إلى الضرر البيئي في عاداتهم الاستهلاكية.
تقول مصممة الأزياء البحرينية روان مكي (28 عاما)، “إذا اجتمعت كل القوى العالمية، بما فيها العالم العربي، لحلّ المسائل البيئية بطريقة عادلة، فكل المشاكل الأخرى ستُحل أيضا”.