كريتر نت / محمد فائد البكري
ملصقاتٌ في كل مكان تتباهى بالموت وتمجده وكأنه بطولة، وقنوات فضائية وإذاعات تبث يومياً لقاءات ومقابلات وتصريحات تمجد الموت! وآباء ضحايا يظهرون على الشاشات منتفخين ادعاء، يزبدون ويرعدون ويتوعدون بتقديم المزيد من أبنائهم للموت والهلاك!
في الحروب عموما تغدو فكرة الموت ملتبسة ولاسيما تحت ركام الشعارات وضوضاء الدعاية الحربية، وكثيراً ما يتم تمجيد الموت وكأنه قيمة في ذاته، و لو كان الأمر كذلك لكان من يتسبب بالموت لغيره مُستحقاً للشكر والتقدير، ولكان صُنَاع الموت وتجار الحروب والقتلة أجدر الناس بالثناء والامتنان، ولكان قاذف القنبلتين على هيروشيما ونجازاكي بطلا عالميا خالدا.
أنْ تفخرَ جماعةٌ أو شعب بالذين ضحوا بأنفسهم من أجل غيرهم ذلك أمرٌ يُحمد عليه الأحياء أما الموتى فلا يعودُ عليهم بشيء، وهذا الفعل من قبيل الوفاء الذي يريد الأحياء أن يوصفوا به. على أن إحياء ذكر الموتى لايكون إلا بإحياء القيم التي دافعوا من أجلها، فإن كانت قيماً إيجابية كان إحياوها من جنسها والعكس صحيح!
ولذلك ينبغي أن نفرّق بين من يُمجّد قيم الحياة وبين من يسوّق الموت،و الفرق دقيق وهام لأنه يفرّق بين صنفين من الناس، صنفٌ يموت عن وعيٍ بما مات من أجله، وهو يُقْدِم على الموت اضطرارا دفاعا عن الحياة أو رغبةً في تحسين الحياة، وليس تحسين الآخرة.
وصنفٌ يموت عن غير وعي، وهو لايعرف ما معنى الحياة حتى يعرف ما معنى الموت! والصنف الأول يموتُ جسدا ويبقى معنىً ورؤيةً وموقفا، والثاني يموتُ جسداً وهو من قبل ميتٌ معنىً ورؤيةً وموقفا، وهو لذلك لايُعتبر ميتاً !بل إن موت جسده خيرٌ له ولغيره، ولصحة البيئة. وقديماً قال المتنبي لهذا الصنف من الناس: “أماتكم من قبل موتكم الجهلُ ” .
ومن هؤلاء الذين يموتون في الجبهات من يذهب إلى الموت في المكان الخطأ والزمن الخطأ وكان بإمكانه لو فهم معنى الحياة أن يؤدي دورا في الحياة لنفسه ولغيره، وربما كان يمكنه أن يستبقي حياته وحياة غيره ويعملان معا من أجل حياتهم وحياة غيرهم، بدلا من أن يكون قاتلا أو مقتولا!
ومن هؤلاء مَنْ ذهب إلى الموت انتحاراً وهروبا من استحقاقات حياة لا يقدر عليها في الواقع، أو هروبا من سأم الحياة، أو من إحساس داخلي بانعدام جدوى استمرار حياة جسده، أو بحثاً عن قيمة مجتمعية لم يستطع حياً تحقيقها في مجتمعه. أو حباً في المغامرة وتوهم لذةٍ في حديث الناس عنه وعن شجاعته وإقدامه. أي أن مخياله النرجسي دفعه إلى الموت!
وقلةٌ قليلةٌ لم تُرد كسر إرادة أحد، ولم ترفع السلاح في وجه أحد ووجدت نفسها مضطرة للدفاع عن الحياة أمام آخر يستقوي بالسلاح عليها، ودون أن تنوي قتل أحد، وفي غمرة الاضطرار للدفاع عن النفس واجهت الموت بشجاعة.
يحرص الحوثيون على إخفاء عدد قتلاهم ومن جهةٍ ثانية يحرصون على إبداء الرغبة في الموت وتمجيد الموت وإشهاره كقيمة لذاته وإعلانه وتعميمه كثقافة، وهم بذلك يسوّقون ويحشدون للموت، وملصقاتهم المحرضة على الموت تملأ الجدران واللافتات في الشوارع، وكلها تجعل من الموت هدفاً وغاية.
وهذه الملصقات من جنس مقولة:” الموت في سبيل الله أسمى أمانينا” وتعالى الله سبحانه عن الحاجة لموت أحدٍ من أجله! وصيغة النصر أو الشهادة صيغة تحريضية استعدائية قاتلة، وتُستخدم استخداما حدياً مخالفاً للوعي بأهمية الحياة. وهي تُقسَم العالم إلى منتصرٍ ومهزوم وتنظر إلى الحياة على أنها معركة أبدية بين حقٍ وباطل!
ويلتقط الحوثيون لمقاتليهم صوراً قبل أن يسوقوهم إلى الجبهات، ويتخذون لهم ألقابا وكنى تضخيمية، وتلك هي الخطوة الأولى لتهيئتهم للموت، والاستفادة من صورهم بعد ذلك في تسويق فكرة الشهادة بحسب أدبياتهم، ولإشاعة ثقافة بطولية زائفة ولاستجلاب واجتذاب المزيد من المقاتلين معهم الذين يستحقون بجدارة وصف الضحايا. وهو ما يفسر ذلك الحرص على ملأ الجدران والشوارع بملصقات من صور القتلى الموصوفين بالمجاهدين والشهداء.
وهذا التحشيد والتمجيد للموت يتسقُ مع ثقافة مضمرة تُسمي الإغارةَ والسطو جهادا،ً ولا تسأل نفسها: ما معنى الجهاد؟، ولماذا الجهاد؟، ولماذا لا يكون الجهاد، إلا بقتل آخر؟ وماذا يكسب القاتل الموصوف بالمجاهد من ذلك؟ وما الذي كان سيضره لو تعايش مع مع المختلف معه بعيدا عن ثنائية القاتل أو المقتول؟!
وبالمقابل هناك من يجعل القتل عقيدةً ومبدأ ويرى أن استئصال الحوثيين مبررٌ و هو الحل الوحيد والهدف الأسمى، ويصفهم بعدد من الصفات التي تخرجهم من الشراكة في الوطن، ويطلق الشعارات القاتلة والخطابات المحرضة ويدق طبول الحرب!
والطرفان لا ينظران للعالقين بين نيرانهما ممن لاخيار لهم في هذه الحرب، والطرفان يتجاهلان ما يحدث للمجتمع من إختلال ديموغرافي، وما يتراكم من تبعات الضحايا والجرحى والمفقودين والمعاقين، وما يتراكم في النفوس من الأحقاد والضغائن التي تدفع ثمنها الأجيال، ويجعلان الحرب اتجاها إجباريا ولا يبذلان أي جهدٍ لإيقاف الدمار بالرغم من أن وسائل مدنية كثيرة يمكن تفعيلها لإيقاف نزيف الدم!