كتب : محمد فائد البكري
غالبا ما تكون كتاباتنا مدحاً فائضاً لمن نحبه أو نظن أنه يشبهنا ويطابق رؤانا، أو تكون شتماً وسباباً فائضاً للآخر المختلف معنا أو المختلف عنا. ولاسيما معظم الكتابات المتداولة باسم السياسة فغالباً ما تكون بغرض التحريض والتعريض والاستعداء والتجني!
وفي سياق القضايا أيضا إما نبالغ في الانحياز لقضيةٍ ما للمزايدة بها على آخر دون فهم القضية ودون درستها. أو نبالغ في شتم القضية نتيجةً للجهل بها أو لارتباطها بطرفٍ نكرهه – بدوافع وذرائع متوهمة -حتى ولو كانت قضيةً عادلة، وفي الحالتين تُغَيَّب المُساءلة ويُقصى الوعي ويحضر القدح وتنشط الشتيمة، ويُنفى التفكير النقدي وينعدم التقييم ويُهدر الإنصاف.
بمعنى أننا نعيشُ بمخيال متربصٍ ورغبة إقصاء وإلغاء، ونميل لصيد الأخطاء وتعميمها على حياة الناس وتاريخهم، وفي أعماق كلٍ منا محتسبٌ وصيٌ يدّعي العصمة من الخطأ، ويمنحُ نفسه الحق في الإفتاء والحكم والإدانة، وما أكثر ما نمارس الشتيمة لا النقد؛ فنحن نشتم القضية ولا ننقدها، ونشتم الشخص ولا ننقده. وفي أحايين كثيرة لفرط الإدمان على الشتيمة نواجه أو نعالج الظواهر الطبيعية بالشتيمة والدعاء عليها لا بالتأمل والدرس والتحليل.
لاتنتهي خطابات تغييب العقول وإذكاء الغرائز و تهيئة الجماهير الغفيرة للعمل وفق غريزة القطيع. وهذه الخطابات لا تصدر من الطغاة والسياسيين فقط، فقد تصدر من الكتاب والمثقفين أيضا، و تأخذ شكل المديح والإطراء دائما لتيار بعينه، أو شكل الشتيمة دائماً للخصم أو المختلف!
ومن الكُتَّاب مَنْ يكتب ما يرضي جمهوره- وهو غالبا جمهور تيار سياسي أو سلالي ينتسب له-وسرعان ما يغدو من زبانية هذا التيار أو ذاك، ولديه جمهور يتلقف دون نقاش كل ما يكتبه، ويردد كالببغاء، فيملؤونه بالغرور والشعور بالتقدير الإجتماعي.
وينشط في ممالأة الجمهور وتنميته بالبحث عما يرضيهم، والكتابة وفق قناعاتهم تحيزاتهم. وبسبب ذلك يقع في فخ الجمهور، ويفقد استقلاليته ومسؤوليته ويكاد أو يصير فعلا عبد الجمهور، وبوقه ومزماره. ويظل خائفاً من إغضاب الجمهور أو مخالفته لما لذلك من احتمال خسارة محبة جمهوره، ولذلك يدأب في أن يظل عبدا مطيعاً خانعاً لكل ما يحبه جمهوره، حريصا على رضا الجمهور. مهما كلفه تحصيل ذلك الرضا من إهدار للذاتٍ أو للقانون أو امتهان للكلمة!
وكما كان للقبيلة في الجاهلية شاعرها الذي يشيد بمآثرها و يمدح ساداتها ويهجو خصومها ويتوعدهم ويحط من قدرهم، صار للتيارات السياسية كُتَّابها و إعلاميوها وقارعو طبولها، ولا ينظر في ذلك إلى أنَّ الوطن واحد، والجميع شركاء فيه، وأنَّ قروناً من الزمن جمعتنا على هذه الجغرافيا وجعلت مصيرنا مشتركا وتاريخنا مشتركا، ولابد أن يكون ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، وأن الاختلاف ينبغي ألا يؤدي لعدم الإنصاف.
فمثلا، هناك من يتوجه بكتاباته أو تصريحاته لجانب الحوثي ويقول لهم كل ما يحبونه وكل ما يعرفونه سلفا عن أنفسهم، ويتحاشى أن يسمعهم ما لايعرفونه عن أنفسهم مما قد يسوؤهم أو مما يقوله الآخرون عنهم؛ ليراجعوا تصرفاتهم أو ليتفهموا السلوك الخاطئ ويعملون على إزالة أسبابه ودوافعه.
وهذا المتملق في الواقع يقول لهم كلاماً مقولا في أدبياتهم ووفق رغباتهم البدائية ومنطوقاتهم التمييزية ويستجدي رضاهم ويحابي تطلعاتهم المشروعة وغير المشرووعة، ويمارس تدليساً وغشاً لهم وللوطن والمواطن وللتاريخ والمستقبل.
وبالمثل هناك مَنْ يتوجه للشرعية بما يرضيها أو ما يعتقد أنه سيشتري به رضاها عنه، و يتملق رموزها وقياداتها وينافح عنهم في حق وفي باطل، ويهاجم كل من ينقدها أو يستدرك عليها في تصرفات مخالفة للقانون أو ممارسات تضر بسيادة واستقلال الوطن. وكأنما نقد تلك الشرعية ومساءلتها سيؤدي لنصر الطرف الآخر الذي يراه عدواً أبدياً، بدون قيدٍ أو شرط!
وفي سياق التلقي نجد عدداً من القْرَّاء يتلقون المقالات ويتداولونها بحسب ما يوافق الهوى، و يدغدغ العاطفة. وربما يبحثون عن أسماء كُتَابٍ بعينهم ليقرأوا لهم، لا لأن هؤلاء الكُتَاب ممن يمارسون التفكير العلمي والدرس الموضوعي، أو ممن يعلون من قيمة الإنصاف، وإنما لأن هؤلاء الكُتّاب ممن يقولون ما يوافق هوى النفس.
ومن القرَّاء مَنْ يكتفي بالنظر في اسم كاتب المَقال فإن كان من قائمة المحسوبين على تياره السياسي بادر بقراءة المقال والإشادة به حتى ولو لم يفهمه، ومنهم من يبحث عن كتابات تقول أشياء بعينها، وكأنما يطمئن إلى أن هناك من يؤمن بمثل ما يؤمن به، بغض النظر عن معقولية ما يُقال!
ومن القُرَّاء في المجمل مَنْ ينظر إلى علاقته الشخصية أو الحزبية أو الدينية أو المناطقية بالكاتب، أو ينظر إلى مكانة الكاتب في المجتمع ووجاهته أو لقبه ليحكم على أهمية ما هو مكتوب.
أي أنّ هولاء ينظرون إلى مَنْ قال لا إلى ما قيل، وبالصيغة التراثية يقيسون الحق على الرجال ولا يقيسون الرجال على الحق، وقراءتهم لهذا الكاتب أو ذاك ليست بغرض الفهم والمساءلة وإنما بغرض إرضاء الغريزة ومحاباة الذات!
وهكذا يمارس الكاتب وقارئه زبائنية عنصرية، ويتواطآن على ممارسة التجهيل من عدة وجوه، فهما يضبطان إيقاعهما على عداء المختلف المغاير، ويعمدان إلى تشويهه وشيطنته وإلغائه من وجودهما بدلا من الإصغاء له والبحث عن المشترك معه، وإنتاج خطاب يتفهمه ويُنمِّي العلاقة به، ويحترم حقه في الإختلاف، و على صعيدٍ آخر يعمدان إلى تضخيم سوء الفهم وتحويله إلى سوء ظن.
وعلى صعيد آخر يعمدان إلى صنع أحقاد نصية وتوثيقها وتثبيتها بالكتابة لتكون مدخلا لتعميم الكراهية، وإنتاج عصبية مُقنَّعة بالثقافة، وبينهما يتم توزيع الأدوار، فيكون دور الكاتب في تنميق العبارات المشحونة بالبغضاء وتلفيق عدد من التهم والأكاذيب والشائعات وتنسيقها في ديباجة إنشائية، ودور القارئ في تعاطي تلك الكتابات كأنها حقائق ثابتة وأحكام ناجزة ثم تمريرها لآخرين من الفصيلة نفسها بقصد تثبيت الضغينة وتوظيف الشائعة وترسيخ التحيز!