كتب / محمد علي محسن
أكثر معاناة اليمنيين هي من خذلان سلطة عاجزة عن تقديم ذاتها وبشكل محترم ولائق ، فليس هناك ما هو أسوأ من رؤية وطنك وهو أشبه بسفينة متهالكة سلمها ربانها للقراصنة واللصوص والعابثين .
فهل هنالك ما هو أسوأ من رؤية وطن خذله ممن يسمون أنفسهم قادة ونخب وساسة وطليعة ، تركوه للضمائر الميتة ، تركوه يغرق في ازمات وصراعات بلا منتهى ..
وطن أول من استل مدية وطعن خاصرته هم هؤلاء السفلة في صنعاء ، ومن على شاكلتهم في عدن وفي بعض العواصم العربية والاقليمية ووووو.
كما وأول من قفز منه بحثا عن نجاة هم نخبه ومثقفوه ، ولا يستثنى هنا أحد ، فحتى من نظن أنهم ركاب سفينته ، فكل واحد منهم اخذ يقفز ويهرب ، ظانا أن درب النجاة يبدأ بوثبة أو قفزة أو لطشة أو جاه أو وظيفة .
ويزيد شعورك بالخذلان حين تكتشف إنَّ الخذلان بات سمة بارزة لا تقتصر على من يمسك بزمام البلد ؛ وانما هي جامعة وتراها طاغية في تصرفات اغلب القوم إلا من رحم ربي ؛ فلا فرق هنا بين سياسي انتهازي او قبيلي كذَّاب ، بين وزير أو غفير .
فلا فارق هنا بين سلطة شرعية وبين مجلس انتقالي وغير انتقالي ، بين تحالف وبين دولة في التحالف ، بين من يطلق العنان لتكبيرات الموت للحوثيين الرافضة وبين صرخات الجماعة السلالية : الموت للنصارى واليهود .
فكل هذه المسميات خذلت اتباعها وحلفائها على حد سوأ ، خذلتهم وفي كافة المستويات والنواحي السياسية والاقتصادية والخدمية والحياتية .
فهل صنعاء عصية لهذا الحد ؟ كلا ، ولكنها استعصت بسبب خذلان الشرعية والتحالف والانتقالي ، بل وكل من سار في فلك الشرعية والتحالف ، فلو أنهم صدقوا مرة لكان اليمن واليمنيين في حالة مغايرة تماما لهذه الحالة المايعة الوهنة .
وهل حقا ً الجماعة الحوثية قوية لهذه الدرجة المستأثرة فيها على ثلثي سكان البلاد وعلى موارد اقتصادية وافرة ؟ كلا ، ولكنها هشاشة السلطة الشرعية وضعفها وعدم كفاءتها .
وقبل هذه جميعا ،خذلانها لملايين اليمنيين الذين يرون كيف أن العصابة في صنعاء تحاول جاهدة كيما تصير دولة ونظام ؟ يقابل ذلك سلطة ودولة فكل موالوها واتباعها في عدن والمحافظات المحررة رويدا رويدا ينحدرون الى قعر رجال العصابات وقطاع الطرق ..
الذي يحدثك عن انجازات تحققت ، يستحق منك صفعة أو بصقة في وجهه ، فربما تحيي فيه ماء الخجل المفقود .
كما واذا ما حدثوك عن تحرر عسكري قبل اربعة اعوام ونيف ، فحدثهم اننا ما زلنا محلك سر ، وان مصيرنا عالقا بين شرعية فاقدة لكرامتها المنتهكة في كل لحظة ، وبين تحالف تائه حائر في حلفائه واولوياته ، وبين انتقالي وأنصاره الذين صاروا لقمة صائغة في فاه عاجز عن البلع أو الهضم ما جعلهم أشبه بعلكة يلوكها متى شاء واين أراد ؟.
وبين الشرعية وحلفائها والانتقالي وأتباعه ما زال الحوثيون يسيطرون على أغلب سكان اليمن بالقوة والعنجهية ، فبرغم مضي خمسة أعوام على انقلابهم ، وعلى حربهم لا يتورعون عن ارسال آلاف الأطفال إلى الوغى ، كما وما فتأوا يعبثون ويقتلون ويتزملون باناشيد البغي والافك والتضليل .
اليمنيون محبطون ، مثقلون ، منهكون نتيجة لهذه الحالة الشاذة القاتلة ، فإما أن تختار واحد من الاثنين ، الفناء وإما للشيطان ، وما أكثر الموتى وما أكثر الشياطين البشرية .
واقع بائس يماثل الضحية بالجلاد ، الفضيلة بالرذيلة ، الوطنية بالتبعية والارتزاق ، فحين تسقط الفضيلة وتغيب الغاية الوطنية النبيلة ؛ فإن مفردات النخاسة والارتزاق تكون بارزة وطاغية .
وحين تنظر في وجه وطنك فلا تعثر عليه ، كأنك اضعت الدنيا والآن جالس تندب حظك العاثر ، فالإنسان قد يفقد أبويه أو اخويه أو اعز الخلق لديه ، لكنه في المنتهى لا يفقد وطنه أو يرهنه ولمجرد نزوة عابرة أو إساءة لا فرق ..
لا شيء احط وافظع من الخذلان ، فكل شيء يمكن سبره وإصلاحه إلَّا خذلانك لوطنك ومجتمعك ومبادئك وانسانيتك ، ففي هذه الحالة تكون الفاجعة كبيرة والخسارة عظيمة ؛ لأنها هنا لها صلة بوطن واحلام وتطلعات واماني وحياة وأجيال .
شخصيا لا ألوم الوقت أو الناس ، فكلاهما يدوران في فلك من يدفع ويمول ويعبث ، لكني والحق أقول فأين حللت لا ترى غير قادة من خشب ، وغير وجوه بائسة تستحق منا اللعن والبصق .
شخصيا العن اللحظة التي جاءت بهم أو حملتهم الى مكان لا يقدرونه ولا يستحقونه .
نعم ، الخذلان أعده سببا في كل هذا البلاء ، وكل هذا العناء ، وكل هذا الدم النازف ، وكل هذا السقوط القيمي الأخلاقي ، وكل هذا الضياع ، وكل هذا الكذب والتضليل والانحدار السحيق .
وقيل إن الثورات تحدث في حالتين ، فتارة حين تصل المجتمعات إلى نقطة لا تستطيع معها المضي أو العيش ، وتارة عندما يفقد الحكام لزمام السيطرة على مجتمعاتهم .
فمن هذين السببين ، تخلقت معظم الاحتجاجات والانتفاضات ،ومنهما سقطت اعتى النظم المستبدة ، كما وبسببهما تمزقت المجتمعات وانحدرت وانحطت في اسفل سافلين .
ومن يقرأ التاريخ ومنطقه ، سيكتشف أنه ما من ثورة تتولد من العدم أو اللاشيء ، فكل ما هنالك هو أن وراء كل انتفاضة خذلان ، وخلف كل ثورة ثمة خذلان عظيم وان تزمل بمبررات أخلاقية وإنسانية .
فالبطون الخاوية اذا لم تعثر على لقمة نظيفة هنيئة في كنف مسغبة مفزعة فإن أصحابها مؤولهم الارتهان للشياطين ، ولطالما قيل بأن الجائع لا يكون مخلصا لوطنه .
والحال يتساوق مع سلطان فاسد ، جائر ، عاجز عن ضبط إيقاع مجتمع تكالبت عليه ضروب القهر ، بل مع سلاطين قذفت بهم الأقدار غيلة ، فتمادوا وتعجرفوا ولحد أنه ما من أحد منهم يسمع صرخات وانين البائسين والمثكلين .
محزن للغاية أن لا تقرأ عن وطنك أو تشاهد فيه غير اخبار النوازل والمآسي والاموات ، وهو ذاته الذي يعج بتخمة السلاح والتهريب والارهاب والجوع وجوائح الأمراض الفتاكة المنتهية في كافة بقاع الدنيا .
كأن الخذلان لا يكفي ! ولكأن القتل اليومي لا يكفي ! ولكأن العيش دون كهرباء وماء لا تشفع لموتى المدن النائمة في احضان الجحيم .
.
وخلاصة الكلام ، لقد خذلونا ماضيا وحاضرا ، وسيخذلونا بكل تأكيد في قابل الزمن ، واياً كان جرحنا نازفا ومؤجعا ، فحتما هناك استفاقة ، وحتما للخذلان منتهى ، فليس هنالك ما هو أسوأ من الخذلان الذي نراه ينشب بمخالبه لكل لحظة أمل ، ويقتل لكل فكرة سديدة ، ويهوي بنا جميعا الى مجاهيل الفراغ أو اللاشيء .