كريتر نت /
التحولات التي يمر بها جنوب اليمن اليوم تستدعي إعادة النظر في كثير من المقاربات والتصورات بخصوص هذه المنطقة من العالم. وذلك من أجل فهم أشمل لما يجري في الواقع الجنوبي وتوقع مآلاته ونتائجه.
لقد أدى التعاطي مع الجنوب من خلال منظورات ضيقة إلى عدم فهم عميق للتحولات التي مر ويمر بها. وهذا بدوره أدى إلى مراكمة التباسات وتقديرات خاطئة وأحكام مُسبقة فشلتْ على الدوام في فك شفرات دينامياته المحركة وتطورات أحداثه. وقد نتجت هذه المنظورات عن عاملين:
1) خلال سنوات ما بعد الوحدة كرّستْ صنعاء مركزًا للباحثين والإعلاميين والمتحدثين باسم الثقافة والسياسة والتاريخ في اليمن. وبذلك سادت سردية واحدة تختزل اليمن في تاريخ وثقافة مناطق الشمال وفي منظورات أبنائها بخصوص السياسة والخير والشر والجيد يمنيًا والرديء يمنيًا. ومن هنا، هُمشت سردية الجنوب، الدولة والإنسان والتاريخ، بحيث أصبحت شبه غائبة عن أبحاث الأكاديميين الدوليين والعرب والاعلاميين والسياسيين القادمين من خارج اليمن.
2) غياب الباحثين والإعلاميين والسياسيين الجنوبيين عن المشهد طيلة أكثر من ربع قرن نظرًا للقمع الذي كانت تمارسه السلطة الحاكمة بدعوى محاربة الانفصاليين. بالإضافة إلى مغادرتهم المركز نحو الهامش بعد عمليات التسريح من الوظائف.
على ضوء ذلك، نشأت عددٌ من الإشكاليات شبه الثابتة التي تتحكم برؤية وتعامل المنظمات الدولية والباحثين والاعلاميين الأجانب مع موضوع الجنوب. ومن مظاهر هذه الإشكالية النقاط التالية:
أ) تهميش النخب الإعلامية والثقافية والسياسية في الجنوب:
تشتكي النخب والمنظمات المدنية في الجنوب من تهميش شبه ممنهج ومتعمد لها من قبل المنظمات الدولية، وفي أحسن الأحوال يتم التواصل معها بتوصية أو عبر وسطاء من الشمال.
ب) إشكالية عدم الفصل بين المحلي والإقليمي:
هناك حاجة ملحّة لفهم ما يجري على الأرض بناء على محركاته ودوافعه المحلية البحتة وليس النظر إليه كمجرد أداة في مشروع إقليمي أو دولي. إن من شأن هذا الفهم أن يفتح أفقًا أكبر للتواصل مع فاعلين كُثر بما يُساهم في تعزيز الصالح المحلي، وتحريره من الهيمنة الخارجية.
ج) التجميد والاختزال التاريخي للجنوب:
تختزل بعض وسائل الإعلام العربية والأجنبية الجنوب في أقفاص ماضٍ كانت له سياقاته العالمية والاقليمية. ومن ذلك الانقسام بين معسكري الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي. ومن ذلك الصراع الذي حدث في 1986 بين معسكرين داخل الحزب الاشتراكي الحاكم لدولة الجنوب في ذلك الوقت. إن هذا الاختزال المخل أدى إلى رؤية هذا الصراع كمحرك طبيعي مستدام وليس كعارض بفعل أسباب سياسية واجتماعية وثقافية متغيرة ويمكن معالجتها. وواحد من مظاهر الحركية الاجتماعية والسياسية في الجنوب التي كسرت هذا التجميد المتعمد ما حدث في 2007 من انطلاقة الحراك الجنوبي التي كانت لها نتائج طويلة المدى. وكلمة الحراك تعني الحركة والفاعلية والتغير والتجدد. ويعد الحراك، وفق هذا المنظور، الثورة الأولى من ثورات الربيع العربي.
إن ما حدث في الجنوب خلال السنوات القليلة الماضية وخصوصًا بعد طرد الحوثيين من كافة تراب الجنوب، منذ العام 2015 يدل على أن هنالك محركات محلية جنوبية ترتبط بمسائل تصوّر المواطنين في الجنوب عن أنفسهم كونهم ذوي هوية مستقلة لهم دولة مستقلة دخلت في شراكة مع الشمال عام 1990 وفشلت عام 1994. وهذه المحركات كان لها دورٌ كبيرٌ ضمن دورة من الأحداث والتطورات المحلية والخارجية التي كان للجنوبيين فيها نشاط سياسي و إعلامي و عسكري ومدني بارز. إن من شأن وجود قوى جنوبية فاعلة أن يكون عاملاً قوياً من عوامل بناء السلام في اليمن عامة. وسيكون من شأن ذلك أيضًا الإسهام بفاعلية في نبذ التطرف و حالة السخط المحلي التي ظلت قائمة منذ 1990 على أساس الشعور بجرح الكرامة الجنوبية وتهديد الهوية و انعدام الفرص الاقتصادية وغياب الفاعلية الثقافية والمدنية.
ولتحسين ذلك، نُطالب بالآتي:
1) على المجتمع والمنظمات الدولية بذل جهودٍ جادة لفهم جنوب اليمن ودينامياته المحلية ، والتواصل المباشر مع الفاعلين الثقافيين والاعلاميين والسياسيين الجنوبيين لتجنب التضليل والخطاب الزائف والتتقييمات المغلوطة.
2) فتح آفاق جديدة أمام للمثقفين اليمنيين الجنوبيين والجهات الفاعلة في الجنوب ، وإتاحة الفرصة لتدريبهم وتأهليهم، والاستماع لوجهات نظرهم، وإشراكهم في وضع مقاربات تُعزّز من التوجهات الساعية إلى إحلال السلام المستدام والتنوير والتوعية بما يتعلق بالقيم الإنسانية الحديثة كحقوق الإنسان وقيم المواطنة المتساوية وأهمية العدالة والنظام الديمقراطي ومشاركة وتمكين المرأة والشباب… إلخ، وحتى لا تُترك الساحة للقوى الإقليمية المتصارعة للهيمنة عليها كلياً، وتشكيلها كيفما تشاء.