مسعد عكيزان
كان أول لقاء لي معها قبل سنوات، من خلال روايتها “حب ليس إلا”، والتي أوصلتني في ذلك اللقاء إلى درجة الانبهار وأنا أغوص في الرواية وأتفاعل مع بطلتها “فرح” بدءا من فتح مفكرتها الزرقاء الصغيرة؛ كصافرة انطلاق في رحلة غاية في التشويق والمتعة وهي تروي أحداث قصتها، وتتنقل في أحداثها بأسلوب عذب، وبحميمية قلما تجدها؛ وقد سمحت لي بمرافقتها ومشاركتها تفاصيل تلك الأحداث، بل ومشاطرتها المشاعر حزنا وفرحا!
والتنقل بين مدينتين يمنيتين هما عدن وصنعاء، ذكرني ذلك إحدى الروايات الأجنبية الشهيرة قرأتها قبل زمن طويل اسمها “قصة مدينتين” للروائي تشارلز ديكنز.
ساورني سؤال بعد انتهائي من قراءة تلك الرواية التي ربما أنها أول رواية يمنية أقرأها؛ أتعيش نادية الكوكباني أحداث شخصياتها بحذافيرها حتى تنقلها للقارئ بهذه الدقة والقدرة على تصوير المشاعر والأحاسيس؟!
أم أنها وهبت القدرة على تقمص الشخصيات والتحدث بلسان حالها، والتعبير عنها بصورة عجيبة تترك في القارئ أثرا يستشعره مع كل حرف يقرأه!!
الشعور الأول الذي تبادر إلى ذهني كإجابة على سؤالي لنفسي أنها تكتب سيرة ذاتية لها، وتتصرف فقط في استبدال الأسماء، وهذا ما نفته قراءتي اليوم لرواية أخرى من رواياتها بعد سنوات من قراءتي لأول رواية لها تقع مصادفة بين يدي.
الرواية التي انتهيت اليوم من قراءتها ولم تستغرق مني غير جلستين فقط اسمها “صنعائي”
ياء الملكية هنا يشعرك بقدر كبير من الحميمية والالتصاق بالمكان لدرجة الافتتان به، كاختزال لعلاقة ثنائية تعرج بصاحبها إلى أعلى درجات الصوفية في الوله بالمحبوب والتغني بمحاسنه، والتشبيب به كما فعل شعراء الغزل في الزمن الغابر.
لقد أتاحت لي نادية الكوكباني فرصة للتنقل في حواري وأزقة صنعاء القديمة؛ بل وداخل بيوتها، واستنشاق عبقها وروائحها وخصوصيتها التي يدركها كل من ولج باب اليمن وتنقل بين جدران تلك البيوت العتيقة وجال بناظره في طرقاتها المرصوفة، وأحيائها التي شهدت عبور الكثيرين عليها، وسطرت في الأذهان تاريخها الذي لا يزال يخط حتى اللحظة حيثياتها رغم تقلب الزمان وتعاقب الدول والأحداث عليها.
لم تحدثنا “صبحية” (وهذا هو اسم بطلة رواية صنعائي) عن قصتها أو سيرتها الذاتي فقط، ولكنها حدثتنا عن قصة وطن وتاريخ بلاد كامل من خلال عشقها لصنعاء واجهة اليمن وعاصمتها الأزلية.
لقد أهدتنا وثيقة تاريخية للأجيال تخبرهم بحقائق كاد الدهر أن يطمسها بفعل فاعل رأى في ذلك النهج تحقيق مراميه وغاياته، إلا أن التاريخ منصف ويبقى هناك من يروي الأحداث بصدق، أو يقود إلى خيوط تهدي إلى الحقيقة.
فتاة جامعية تعيش جزءا كبيرا من عمرها في بلاد الغربة التي لم تتمكن فيها من الانسلاخ من هويتها ووطنيتها رغم سنها الصغير.
غير إنها وبعد وفاة والدها الذي قرر في مرحلة معينة الهجرة والاستقرار بعائلته هناك في القاهرة على خلفية أحداث غامضة تظل البطلة تسعى خلفها بعد موت والدها وعودتها هي ووالدتها إلى الوطن رغبة في معرفة السر الذي أخفاه والدها عنها طوال حياته ولم يشأ لها أن تطلع عليه لغرض لم تتبينه.
تفتح مرسما في صنعاء القديمة لتندمج من خلاله مع المدينة، وتفتش عن ذاتها المسلوبة بالاغتراب بعيدا عن مدينتها التي تعشقها وتعشق كل تفاصيلها، ولم ترو شغفها إليها كل تلك الزيارات الخاطفة في نهايات الإجازات الصيفية.
حلمت أن تبدأ من جديد وتكون حياة مستقرة مع نصف يشاطرها شغفها وجنونها بصنعاء التي هي واجهة للوطن كاملا.
تضعنا “صبحية على المحك حين تبدأ في سياق سردها الممتع ـ الذي تتصدره فلاشات تعبيرية عن السياق القادم ـ حين تأتي على ذكر الأحداث التاريخية التي شهدتها البلاد قبل أن يهاجر والدها، فتعود بالقارئ كتمهيد إلى ما قبل ثورة 26 سبتمبر، وإلى التداعيات التي قادت إلى تلك الثورة التي علق عليها اليمنيون أحلامهم وآمالهم وتطلعاتهم بحياة كريمة كغيرهم من الشعوب.
محور الرواية وعقدتها يتمثل في حدث تاريخي كان الفيصل بين عصريين في التاريخ السياسي اليمني؛ ألا وهو حصار السبعين يوما لمدينة صنعاء من قبل المكليين وأعوانهم.
تمضي الكوكباني بلسان صبحية الحالمة بوطن كما رسمته في مخيلتها تستعرض الأحداث بأسلوبية تجعلك تشعر بأنك شاهد عيان لكل ما تذكره.
وجنبت الكوكباني القارئ الغوص في أي تعقيدات أو رمزية قد تفقد بها علاقة القارئ بسياقات الرواية التي جعلتها تتناوب بين سياق شخصي للبطلة من خلال تجربتها الشخصية التي تمر بها مع “حميد” الذي رأت فيه فارس الأحلام الذي عاشت معه أجمل أيام حياتها التي حرمت فيها الكثير نتيجة وجودها في بلاد غريبة عنها كما رأتها.
وسياق آخر تطرح من خلالها المعضلة التي تتناولها الرواية كعنصر رئيسي أرادت الروائية معالجته وطرحه للقارئ في مرحلة مهمة في تاريخ اليمن تتطلب العودة للماضي ونبش ملفاته ومراجعة أحداثه لعلها تقودنا إلى النور الذي قد يخرجنا من هذا النفق المظلم والموحش.
تعاملت الكوكباني مع عامل الزمن بتقنية عالية ومتمكنة، فالزمن الرئيسي للرواية يتمحور في السنوات الأخيرة من العقد الأول للألفية الثالثة، وتبدأ منذ عودتها وأسرتها بجثمان الوالد إلى صنعاء ودفنه بمقبرة خزيمة.
ولو أمعن القارئ قليلا سيجد هذه الفترة بالذات شهدت مخاضات سياسية أدت إلى ثورة الشباب في 2011م.
إن الرواية بمجملها ـ كما أسلفت ـ سجلا تاريخيا مهما رصدت فيه الروائية فترة غاية في الأهمية تتطلب المزيد من الجهود والبحث في خباياها لأنها ستكشف لنا الكثير من الحقائق التي غابت أو غيبت عن قصد عن أعيننا.
وإنني وأنا في سياق قراءتي للرواية لأتذكر تحلقنا أمام التلفزيون صباحا في نهاية الثمانينات في كل عيد ثورة (أقصد به ذكرى 26 سبتمبر) لمشاهدة الاحتفال بالذكرى في ميدان السبعين ومشاهدة العرض العسكري المهيب، وسماع الأغاني الوطنية التي تلهب الحماس في النفوس، وتصور للكل مجدا اتضح أنه من ورق، ووطنية تجلى للجميع أنها لا تعدو شعارات زائفة وعبارات رنانة تم اختيار مؤديها بدقة لتخدير الناس بها وإيهامهم بتحقيق أحلام لا زالت معلقة وقيد الانتظار أملا في تحقيقها.
لقد أثارت هذه الرواية في نفسي الكثير من الأشجان، ولم أحب أن أعبر عليها عبور الكرام فسطرت هذه الكلمات علها تشجع من يطلع على قراءتها والاستفادة منها.
الأربعاء 21/8/2019م