كتب : حسين الوادعي
فهم الصراعات اليمنية صعب. فما يعرفه العالم عن ديناميات الحياة السياسية اليمنية قليل. أما التغطية الإعلامية الخارجية للصراع فهي أسيرة مصالح القوى الإقليمية المتدخّلة في اليمن والتي تحاول فرض قصة مختلفة عن الحرب، لا تتوافق مع واقع الحال.
هناك على الأقل خمسة أوهام لا بد من التخلص منها نحو فهم أفضل للأزمة والحرب في اليمن؟
الوهم الأول… هذه حرب من دون لاجئين
ما زلت أتذكّر مقالاً لكاتب خليجي، من إحدى دول التحالف، كتب فيه متفاخراً بعدم وجود لاجئين يمنيين، لأن دول التحالف قدمت كل متطلّبات الحياة الكريمة للعالقين وسط الحرب، وبهذا تكون هذه أول حرب في التاريخ لا يكون فيها لاجئون!
لكن الحقيقة غير ذلك تماماً.
لقد مُني اليمن بقدر جغرافي صعب. فهو محاصر من الجهات الأربع، ما يجعل حركة اللاجئين خارج اليمن صعبة جداً. فهو محاصر من الشمال والشرق بحزام النفط الغني (عمان والسعودية)، ذلك الحزام الذي يرفض حقوق اللاجئين ويغلق حدوده لكي يتجنّب أي حركة لجوء تجاهه.
السعوديه مثلاً لديها حدود مشتركة مع اليمن وحدود قريبة من سوريا لكنها لم تستقبل أي لاجئ حتى اليوم، على رغم أن الأردن استقبل أكثر من 3 ملايين لاجئ سوري، واستقبلت أوروبا وحدها مليون لاجئ سوري خلال سنة واحدة فقط.
أما من جهة الغرب والجنوب فلا يوجد غير البحر، وخلف البحر هناك جيبوتي واريتريا والصومال واللجوء لمثل هذه الدول مخاطرة تفوق مخاطرة البقاء في الداخل.
داخل اليمن حوالى ثلاثة ملايين و800 ألف نازح داخلي، معظمهم يعيشون في ظروف مزرية، ويتعرّضون لأنواع العنف البدني والجنسي والنفسي كافة، وتلاحقهم الأوبئة والتمييز المجتمعي. كل نازح من هؤلاء هو في الحقيقة مشروع لاجئ مشرد وجد الحدود الخليجية الغنية مغلقة أمامه.
“حرمان اليمنيين من حق اللجوء الإنساني جريمة لم تأخذ حقّها من الاهتمام بعد”
وخارج اليمن عشرات آلاف اليمنيين الذين غادروا البلد ليتوزعوا بين المنافي وليتردّدوا على مفوّضية اللاجئين للحصول على بطاقة لاجئ، علقوا في خانة الانتظار. معظمهم كان لديه مبلغ بسيط من المال مكنهم من شراء تذاكر والسفر إلى بلاد الله لتتبخر مدخراتهم البسيطة ويعيشوا في منفاهم الجديد بين الفقر الجديد والغربة والانتظار. منحت المفوضيه العليا للاجئين بطاقه اللجوء إلى اللاجئين السوريين والعراقيين، لكنها على ما يبدو ترى أن اليمني الهارب من الحرب لا تنطبق عليه بعد أولويات اللجوء.
الوهم الثاني… الحرب تدور بين طرفين: الشرعية والانقلابيّين
كانت هذه هي السردية المسيطرة في وصف ما يحصل في اليمن في أول سنتين من الحرب. وكانت خلفية هذه الرؤية، القرار الأممي 2216 الذي اعتبر ان الحرب تدور بين طرفين، طرف يعترف بشرعيته المجتمع الدولي هو حكومة الشرعية، وطرف متمرد يمثله الحوثيون وحلفاؤهم من مناصري الرئيس السابق صالح.
لكن طول أمد الحرب وتغيرات موازين القوى على الأرض جعلت هذا التوصيف مثالياً وبعيداً من الواقع. فقد المجتمع الدولي الثقة في الحكومة المعترف بها دولياً بسبب عجزها وفسادها الاستثنائي. كما أنها تخلت عن دورها في حماية المدنيين وقدمت غطاء سياسياً وحقوقياً لانتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب في اليمن.
كما أضاف طول أمد الحرب وتعدّد الجبهات إلى الساحة ميليشيات وقوى عسكرية جديدة لم تكن موجودة بداية الحرب، وأصبحت بعض هذه القوى أقوى من الاطراف الرئيسية أحياناً. في الجنوب مثلاً، يسيطر تحالف من الحراك الجنوبي والسلفيين المدعومين إماراتياً على المحافظات الجنوبية.
بينما يتوزّع الوسط (تعز ومارب والبيضاء) بين مقاتلي حزب الاصلاح (الاخوان) والسلفيين وقوى القاعدة. تتّفق هذه الاطراف أحياناً على التوحّد لمقاتلة الحوثي لكنها تتصارع ما بينها من وقت إلى آخر في معركة صفرية لإقصاء الآخر، كما حدث أخيراً بين الإخوان والسلفيين في تعز.
هذا الواقع الجديد للحرب التي تحوّلت إلى حروب متداخلة جعل المجتمع الدولي يعيد النظر في آليات التفاوض والحل السياسي ويغير طبيعة المفاوضات من مفاوضات بين طرفين إلى مفاوضات بين خمسة أطراف مسلحة على الأقل (الحكومة الشرعية، سلطة الأمر الواقع، الحراك، السلفيون، الإخوان) يطرح كل منهم شروطه التفاوضية بناء على قوته في الميدان.
الوهم الثالث… المفاوضات السياسية على وشك التوصل إلى حل سياسي
لا يبدو أن هنالك أملاً قريباً بالتوصل إلى حل سياسي للأزمة اليمنية. والذي يعرف تاريخ اليمن السياسي الحديث جيداً، ستذهب به المقارنات إلى حرب الـ8 سنوات أو ما سمي بالحرب الملكية الجمهورية التي بدأت عام 1962 بعد الإطاحة بالنظام الملكي، وانتهت عام 1970 في اتفاقيه المصالحة الشهيرة.
كان سبب استمرار الحرب 8 سنوات أنها بدأت بين طرفين (الجمهوريين والملكيين)، ثم انقسم الطرفان إلى اطراف متصارعة، فانقسم الجمهوريون إلى يمين جمهوري ويسار جمهوري وجمهوريين مؤيدين لمصر وجمهوريين مناهضين للتدخل المصري.
وانقسم الملكيون إلى قسمين قسم متمسك بعودة عائله حميد الدين العائلة المالكة الأخيره باليمن، وقسم يريد إعادة الملكية إلى عائلة هاشمية اخرى تحت مسمى الدولة الإسلامية. ثم دخلت القبيلة اليمنية المسلّحة الحرب موزّعة بين الملكيين والجمهوريين أو مستفيدة منهما معاً.
وفشل المبعوث الحاصل على نوبل للسلام رالف بانش في تقريب وجهات النظر اليمنية، ولم تصبح المصالحة السياسية ممكنة الا بعد أن استنزفت كل أطراف الحرب الداخلية وبقي منها طرفان فقط (هما القوة الثالثة بقيادة القاضي عبد الرحمن الارياني والملكيون بقيادة وزير خارجيتهم أحمد محمد الشامي).
ولأن القوى المتحاربة على الساحة اليمنية اليوم في اوج قوتها، خاصة مع صعود اقتصاد الحرب الذي يضمن لها موارد كافية لحرب طويلة وتجنيد مستمر، من الصعب التبشير باتفاق سياسي قريب.
الوهم الرابع… إن الأزمة اليمنية يمكن أن تُحلّ باتفاق سياسي تتوافق عليه القوى اليمنية الداخلية
لكن هذا غير ممكن فالحرب اليمنية حرب مزودجة.
فهي حرب أهلية بين نخب سياسية متناحرة، لكنها في الوقت ذاته حرب بالوكالة بين القوتين العظميين في المنطقة (السعودية وإيران). واقرب مثال لهذه الحرب المعقّدة هو مرّة أخرى الحرب الملكية الجمهورية 1962-1970 التي كانت حرباً أهلية بين القوى الداخلية الساعية إلى السلطة، لكن التدخّل الإقليمي المصري السعودي حولها إلى حرب بالوكالة ضمن معارك “الحرب العربية الباردة” بين الدول المحافظة والدول الثورية بحسب مصطلحات ذلك الزمان.
لهذا لا يمكن الحديث عن حل جدي للأزمة اليمنية الحالية ما لم يسبقه اتفاق بين الطرفين الإقليميين المسيطرين، يكون شبيهاً باتفاق جدة 1970 الذي وقعت فيه السعودية ومصر على الانسحاب من اليمن ودعم حكومة توافقية يمنية.
غير أن اتفاق جدة لم يكن ممكناً لو لم تخرج مصر مهزومة ومجروحة بعد نكسة 1967، ولو لم تخسر السعودية حليفها الداخلي بهزيمة الملكيين وسقوط حصار صنعاء عام 1968. ولا يبدو أن هناك بوادر لهزيمة الحلفاء الإقليميين أو تراجعهم اليوم.
الوهم الخامس والأخير… لا يوجد حصار على اليمنيين
المنافذ مفتوحة والبضائع تصل طازجة إلى مراكز المدن ومنها إلى الأرياف. لكن أطراف الحرب يستخدمون الحصار والتجويع الجماعي كسياسة ممنهجة للضغط على الخصوم. يتضمن هذا وضع قيود على الواردات ومنع نقاط التفتيش لمرور المواد الإغاثية والبضائع وعرقلة انتقال السكان بين المحافظات، والامتناع عن دفع المرتبات لأكثر من 75 في المئة من موظفي الدولة، وإغلاق المطارات الرئيسية، حتى أن 30 مليون يمني لا يمكنهم السفر إلا عبر طيارتين فقط، هما ما تبقى من رابط بين اليمن والعالم الخارجي.
كل هذه التعقيدات جعلت اليمن يعيش أسوأ كارثة إنسانية في القرن الحادي والعشرين.