كريتر نت / BBC
توقفت عقارب الساعة فجأة في غرفة الاجتماعات بالمستشفى، وساد الهدوء، حرصا على عدم إزعاج الحاضرين في جلسة للعلاج السلوكي المعرفي للمرضى الذين يعانون من اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه.
وقد كنت واحدا من الحاضرين في هذه الجلسة، بعد أن شخصت باضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه وأنا في سن 38 عاما. وقد ساعدني هذا التشخيص في اكتشاف جانب مشرق من الحقيقة المؤلمة، وهو أن دماغي نُحت بشكل مختلف عن أدمغة الآخرين، وتغيرت على إثره نظرتي لحياتي في الماضي والحاضر والمستقبل. ولعل من الإنصاف القول إن هذا الاضطراب كانت له انعكاسات عديدة على مختلف جوانب حياتي.
وبعدها اتضحت لي الجوانب الإيجابية للحالة التي أعاني منها، وفهمت الصعوبات التي تفرضها وكذلك الأساليب التي طورتها على مدى سنين للتكيف مع هذه الصعوبات حتى أبدو “طبيعيا”. وأتاح لي التشخيص خيار تناول العقاقير للتحكم جزئيا في الأعراض. وإيجازا، كان التشخيص بمثابة الضوء الكاشف للتعرف على الجوانب الخفية من الحالة التي أتعامل معها.
لكن أكثر ما لفت انتباهي منذ بداية تشخيص حالتي، هو تكرار استخدام مصطلح الدماغ “السويّ”، سواء من جانب المعالجين أو المرضى أو حتى عبر الإنترنت. وأردت أن أعرف ما هو المقصود بكلمة “سوي” فهل يدل هذا المصطلح على وجود فروق حادة بين الأدمغة؟ أم هل نحن أكثر تشابها مما نعتقد؟
وأشار استطلاع للرأي في عام 2016، إلى أن نحو 62 مليون شخص حول العالم يعانون من اضطراب طيف التوحد، بما في ذلك، متلازمة أسبرجر، و63 مليون شخص يعانون من اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه (وإن كان ثمة تشابه بين أعراض اضطراب فرط الحركة وبين التوحد)، بالإضافة إلى أعداد الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات أخرى ناتجة عن اختلافات في تركيبة الدماغ، مثل عسر القراءة ومتلازمة توريت ومتلازمة ويليامز.
وكثيرا ما يشار إلى تلك الاختلافات في الدماغ البشري التي تنعكس على السلوكيات والتعلم والانتباه والأمزجة بأنها “التنوع العصبي”، وقد صاغ هذا المصطلح للمرة الأولى عالمة الاجتماع الأسترالية، جودي سينغر في عام 1998.
اكتشاف أثري تحت الماء يعتقد علماء أنه يضم بقايا “سفينة نوح”
Image caption اعتزم الصحفي هاورد تيمبرليك أن يستكشف المعايير التي يحدد الناس بناء عليها ما إن كان الدماغ “سويا” أو “غير سويّ”
وتقول سينغر: “فوجئت بهذا الكم من الاختلافات في الحواس والإدراك التي لم نكن نعرف عنها شيئا، فبعض الناس قد لا يتعرف على الوجوه، وبعضهم لديه ترافق حسي استثنائي.” لكنها تنتقد الأنظمة التعليمية لأنها تضع الناس جميعا في قالب ضيق واحد، بدلا من استكشاف إمكانات هذا التنوع العصبي والاستفادة منها.
ووظف مصطلح “التنوع العصبي” منذ ذلك الحين للتعبير عن التمكين والهوية، ولتسليط الضوء على الخصائص التي تميز بعض الاضطرابات العصبية. وتقول سينغر إنها لم يخطر ببالها أن يُستخدم المصطلح للإشارة إلى المصابين باضطرابات معينة، لكنها أرادت أن تشير إلى تنوع جميع الأدمغة، كما يشير التنوع الحيوي لجميع الكائنات الحية.
وعلى النقيض، ظهر مصطلح “أسوياء عصبيا” للإشارة إلى الأشخاص الذين لا يظهرون أنماطا سلوكية أو فكرية مخالفة للمعهود أو توحدية. لكن مو كوستاندي، كاتب متخصص في البيولوجيا العصبية، يقول إن هذا المصطلح ارتبط بدلالات سلبية.
ويقول إن هذا المصطلح صاغه المطالبون بحقوق المصابين باضطرابات عصبية لوصف الأشخاص غير المصابين بالتوحد، وانتقل المصطلح بعد ذلك إلى الأبحاث العلمية. لكنه يرى أن كلا المصطلحين “التنوع العصبي” و”السوي عصبيا”، لا قيمة لهما لدارسي العلوم العصبية.
في حين أن توماس أرمسترونغ، المؤلف والمدير التنفيذي للمعهد الأمريكي للتعليم، يفضل استخدام “سوي عصبيا” على مصطلح “طبيعي” لأنه يصف الأنماط السلوكية المعتادة للأشخاص الأسوياء أو الطبيعيين. لكنه يقول إن الأطفال الذين نصنفهم “أسوياء عصبيا” عندما نراقبهم عن كثب، نكتشف سلوكياتهم وأفكارهم الفريدة التي تعكس التنوع الحقيقي. وهذه الاختلافات التي تميز كل فرد عن غيره قد تطمس الفروق بين ما يطلق عليهم “المتنوعين عصبيا” و”الأسوياء عصبيا”.
يرى أرمسترونغ أننا في البداية ينبغي أن نعيد النظر في توقعاتنا وافتراضاتنا عن السلوكيات المختلفة وفي الأحكام التي نصدرها على الآخرين بناء عليها. ويقول إنه عندما يلقي محاضرة على سبيل المثال، قد يقوم بعض المصابين بالتوحد من أماكنهم ويتجولون في القاعة، على عكس أغلب الموجودين الجالسين في أماكنهم. لكن لماذا نفترض أن التحرك أثناء الاستماع للمحاضرة سلوكا غير سوي؟.
ويقول أرمسترونغ إن التوقعات والثوابت والمعايير التي يفرضها المجتمع عن السلوكيات مهمة، لكن عندما ننظر إليها من جميع الزوايا نجد أن مفهوم “طبيعي ومعتاد” مبهم ومثير للكثير من التساؤلات، وقد يدفعنا إلى الوقوع في فخ التحيز الضمني دون أن ندري.
وإذا إدركنا هذه التحيزات، قد نغير البيئات لتلبية احتياجات الأدمغة الفريدة والمختلفة. إذ خصصت سلسلة “موريسون” للبيع بالتجزئة في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، “ساعة سكون” مرة أسبوعيا للمتسوقين المصابين بالتوحد الذين لا يتحملون الضجيج.
ووضعت الجمعية الوطنية للتوحد بالمملكة المتحدة إرشادات لأصحاب العمل لتهيئة البيئة المناسبة للأشخاص المصابين بالتوحد. وذلك لأن المصابين بالتوحد لديهم طاقات وإمكانيات قد تستفيد منها الشركات إذا استطاعت أن تكتشفها وتطلق لها العنان.
وتقول كاثرين هارمر، عالمة أعصاب بجامعة أوكسفورد، إن تركيبة الدماغ كبصمة الأصبع، تختلف من شخص لآخر.
وترى أنه لا يوجد تعريف واحد لكلمة “غير سوي”، لكن هناك أشخاصا يعجزون عن تأدية بعض الأنشطة اليومية بسبب عوامل وراثية وبيئية، ويواجهون صعوبات قد يحتاجون المساعدة لتجاوزها.
وتؤكد هارمر على أهمية فهم أسباب الاختلافات في الجهاز العصبي وتبعاتها. ولهذا يحتاج العلماء والأطباء لمعايير محددة لدراسة الدماغ وتمييز الأشخاص الذين يحتاجون للمساعدة لتحديد العلاجات المناسبة لكل حالة.
ويجدر بالذكر أن الكثيرين قد يظهرون بعض أعراض اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه، رغم أنهم غير مصابين بالاضطراب. فقد تسمع الكثير من الناس يشكون من أنهم ينسون مفاتيح السيارة أو يواجهون صعوبة أحيانا في التركيز أو يعانون من ضعف الذاكرة، لكن هذا لا يعني أنهم مصابون بالاضطراب. لكن تكرار هذه العادات وغيرها من الأعراض واشتداد حدتها، سيؤثر لا محالة على الحياة اليومية.
ويتطلب تشخيص فرط الحركة وتشتت الانتباه، مراجعة تاريخ الشخص وإجراء اختبارات لتقييم أعراضه والاستفسار من المقربين منه عن ملاحظاتهم حول سلوكياته. وبعد التشخيص يوفر الطبيب المتابع العلاج المناسب للمريض، مثل العلاج السلوكي المعرفي لمساعدته في مواجهة المصاعب التي يواجهها.
وفي النهاية، جميع البشر لديهم نفس الأنظمة الأساسية، لكن تركيبة أدمغتنا مختلفة كاختلاف النجوم في السماء. ورغم أهمية معايير التشخيص، إلا أن لكل منا خصالا وصفات ونقاط قوة وضعف، ينفرد بها عن غيره.
وتقول هارمر إن ثمة اختلافات عديدة بين أدمغة الأشخاص وأنظمتهم العصبية وسلوكياتهم التي يتحكم فيها الدماغ.
وبعد عشر سنوات من تشخيص حالتي، أعدت بناء أسس جديدة للتعرف على نفسي في هذه المرحلة الجديدة من حياتي، إذ أصبحت أكثر وعيا باختلافاتي عن الآخرين والعقبات التي أواجهها والمزايا التي أتمتع بها بحكم إصابتي باضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه.
ما هو اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه؟
يعرف اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه بأنه اضطراب عصبي نمائي قد يؤثر على السلوكيات، بسبب خلل في الوظائف التنفيذية للدماغ. وتتضمن الأعراض الرئيسية لهذا الاضطراب العجز عن التحكم في الانتباه والنشاط المفرط والاندفاع. وقد يجد المريض صعوبة في الاسترخاء وتنظيم المشاعر أو اختزان المعلومات في الذاكرة العاملة لفترة مؤقتة. وتترافق هذه الأعراض عادة مع التوتر والاكتئاب وعسر القراءة واضطراب التناسق الحركي.
ويتضمن التشخيص مراقبة مدى تأثير الأعراض على حياة المريض. وتبدأ الإصابة بالمرض منذ الطفولة وقد لا تُكتشف حتى مرحلة البلوغ. وقد لا تظهر على المريض جميع الأعراض الأساسية للمرض. فقد يكون النشاط المفرط على سبيل المثال، داخل الدماغ فقط بينما لا يكون المريض كثير الحركة.
وقد يظهر العجز عن التحكم في الانتباه في صورة تركيز مفرط. فقد يركز المريض تركيزا حادا على مهمة واحدة بحيث يصعب تحويل انتباهه عنها. لكن في المقابل، فإن المصابين باضطراب فرط الحركة أكثر إبداعا وإصرارا وحيوية ونشاطا وأكثر تعاطفا مع الآخرين.