كتب : د/ نادر سعد العمري
ارتبط اسم (المغول) بأعظم الكوارث التي تعرضت لها الأمة الإسلامية على الإطلاق.. حين اجتاحوا العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري، وأبادوا الشعوب وأحرقوا المدن وأغرقوا تراث الأمة من المكتبات الضخمة في مياه الأنهار
وارتبط اسم عدن عبر تاريخها بالعلم والعلماء، حتى كانت في التاريخ القريب تعج بالمكتبات العامة والخاصة والثابتة والمتنقلة، والأنشطة الثقافية والعلمية، ودور النشر، والصحف والمجلات، وكانت موئلًا لعشاق المعرفة وأرباب الأقلام وحملة العلوم
وعندما تدخلت السياسة في الثقافة، وبدأ الفرز السياسي والإيديولوجي تضاءل دور عدن الثقافي شيئًا فشيئًا، ثم أعقب ذلك سياسة التجهيل والترييف والتجريف؛ لتتحول عدن إلى قرية حقيرة مشتتة بعيدة عن العصر والمدنية، وينتهي مطافها في حومة صراع بين قوىً متخلفة جاءت بأحمال ثقيلة من الحقد والكراهية والتمييز العنصري
وظلت عدن تقاوم، وبقي من أهلها من يحمل شموع الأمل في هذا الديجور الحالك، ولكن أمواج الظلام العاتية تستكثر على أولئك الطيبين أن يشقُّوا عُبابها ببصيصٍ من نور خافت.. فأقبلتْ بجحفلٍ من مغول العصر، متدثرين بدروع الجهالة.. ووجّهت بهم إلى ما بقي من أطلال المؤسسات العلمية والثقافية.. بسطًا على أبنيتها، وسطوًا على محتواها، وإحراقًا للمكتبات، ودكًّا لحصونها الأخيرة!
ولم يحدث في زمن الإنجليز ومن بعدهم في عدن أن هُدّدت مؤسسة ثقافية أو إعلامية بالإحراق أو أُحرقتْ فعلًا إلا في عهد المغول الجدد، ولم يحدث أن استُهدف رموز التنوير من العلماء والمثقفين والأدباء بالقتل أو التهديد بالقتل إلا في عهد المغول الجدد. ولم يطمع أحد في امتلاك معالم عدن والاستحواذ عليها والبناء فيها إلا في عهد المغول الجدد
لم يحدث في تاريخ عدن الحديث السطو على مكتبة مثلما حدث في حرب 2015م عندما سطا جحفل من المغول على مكتبة عدن الوطنية (مكتبة باذيب سابقًا) التي تعد أكبر مكتبات عدن وأهمها وخزانتها العلمية والثقافية، ففيها وثّقت معظم المطبوعات العدنية منذ أربعينيات القرن العشرين الميلادي.. ولم يشفع لها أثرها الجميل عند أولئك المغول فاجتاحوها وسرقوا أثاثها.. ولولا عناية الله لنهبوا ما فيها من كنوز ثقافية.. وإني عليها لفي قلق شديد! ولا تظننّ أيها القارئ الحصيف أن هؤلاء المغول جاءوا من بعيد.. فقد نبتوا من هذه الأرض نفسها.. وهل يأكلك إلا قمل ثوبك؟!
ولم تتحول المكتبات إلى صالات رياضية إلا في عهد المغول الجدد.. ولعل بعضكم سمع عن مكتبة نادي الشعلة في مدينة البريقة غربي عدن.. تلك الشعلة من الأمل التي انطلقت من عقر دار ذلك النادي العريق بجهد مشكور من قوم يحبون عدن ويريدون بعث مجدها العريق.. ووصلت تلك المكتبة إلى أن تكون مقصدًا للقراء والباحثين من شتى مديريات عدن، وصارت تعير الكتب لطالبيها أينما كانوا، وتوصل الكتب إليهم في بيوتهم على مدى سنوات.. حتى جاءت السنة الماضية.. عندما رأت إدارة النادي أن رياضة العقول ليست من شأنها.. وأن رياضة الفَكّين أولى وأحرى؛ فحوّلت الصالة المخصصة للعبة التنس إلى مَقْيَل قات، ورأت أن أنسب مكان للعبة التنس هو صالة المكتبة، فزويت الطاولات والكتب، وأغلقت المكتبة، وماتت في عنفوان شبابها بعد أن بلغ محتواها (4500) كتابًا
ولم تحرق المكتبات إلا في عهد المغول الجدد.. وهل أتاكم نبأ مركز البحوث والتطوير التربوي في مدينة خور مكسر؟ حينما اشتعلت النار في مكتبتها في ساعات الفجر الأولى من صباح الجمعة الماضية (8 نوفمبر 2019م)؟
كان هذا المركز منذ أكثر من خمسين عامًا أول مركز من نوعه في الجزيرة العربية، مختصًّا بإعداد المناهج التعليمية والتربوية، وظل يقاوم عوادي الزمان حتى جاءت حرب 2015م فاجتاح المغول (وليس الحوثيون) مبناه ونهبوا كل ما فيه، ولم تسلم منهم حينها سوى الكتب.. وحاولوا عدة مرات البسط على المبنى والأرض المحيطة به.. وكانت لهم ذات ليلة في الشهر الماضي صولة جديدة بسرقة أجهزة الحاسوب وكراسي الباحثين التي وفّرت بعد الحرب، وانتهى الأمر بالفاجعة الكبرى عندما كسر أحد المغول الجدد صبيحة الجمعة الماضية نافذة المكتبة وألقى بالنار إلى الداخل فالتهمت النار قسمًا من المكتبة يضم أرشيفًا للمقررات الدراسية منذ عهد (اتحاد الجنوب العربي) قبل الاستقلال.. وتعظم الفاجعة حين نعلم أن هذه النُّسخ المحترقة هي النسخ الوحيدة لهذه المقررات، ولن يجد الباحثون سوى الرماد! ولم تكن لهم من حيلة سوى وقفة احتجاجية قاموا بها صبيحة أمس الأربعاء
وبعد.. فهذه أنّةٌ مكتومة، وزفرة مكظومة تأبى إلا أن تتنفس في هذه السطور.. فهل من باكٍ معي على أطلال العلم ومرابعه ومعاهده ومكتباته في عدن؟ وهل سيتحرك المجتمع إن كانت فيه حياة لحماية ما بقي من إرث الأجيال السابقة؟!
والله من وراء القصد
عدن-14 نوفمبر 2019م
المصدر : سمأ نيوز