كتب : ظ / أحمد عبد اللاه
ظلت متوازنة متكاملة بتنوعها الثري وبثقلها البشري وامتدادات تأثيراتها في الحياة الاقتصادية والسياسية والبيروقراطية والثقافية والفنية.. وكان كل شيء لتعز فيه دم وعقل وروح، وتوزعت وجدانيا بين عدن وصنعاء منذ البدايات البعيدة حتى أنها كانت البلاد التي انصهرت فيها الجهات وتناغمت على إيقاع لهجتها اللهجات.
الواقع تغير الآن وأصبحت الأشياء مثقلة ب”عبء الدخان” ولا جديد سوى أن تعز تتبلور بصورة مغايرة لفطرتها وتنزاح عن مساراتها الطبيعية وألوانها وذراها وقيعانها، معتلّة بطوائف الإسلام السياسي السائدة وقوى أخرى هامدة، وجماهير تنسحب تدريجيا من ساحات الفعل والتغيير نحو ما يجعل منها اصطفافات متنازعة لمشاريع لا تنتمي إلى ثقافة المنشأ أو إلى مستقبل الأجيال.
وانسكبت، دون إرادتها، خصوصية التنوع في خزانات القوى الظلامية ليحل البارود مكان الشغف بالحياة ويختفي ماء “وادي الضباب الغزير السكّاب” مفسحاً الطريق أمام “مدارب” الدماء البريئة. فاتسعت تعز لقاتليها وضاقت بنخبها ليذهبوا بعيداً عن مكانهم ومكانتهم محاربين على جبهات المتحاربين… وتضاءل الصوت الليبرالي الفريد المتحرر من التبعيات لتجرفه موجات الصراعات الإعلامية دون أن يشكل حائط صد أمام تغول الخطاب الأيديولوجي العقدي ليختلط أمامه السؤال الموضوعي بمقتضيات المواجهات الحالية، والحقوق العامة بالشعارات المتصلبة.. وتلك ظاهرة عمّت اليمن المتصارع ولم تنج تعز منها، حتى مع ريادة نخبها، فتحول جزء من مجهودها الإعلامي في مواجهة مباشرة مع الاستحقاقات الجنوبية رغم “حبل السرّة” المتين الذي يربطها بالجنوب وبعدن، المدينة التوأم، خاصة.
الجنوب وتعز القريبة، رغم كل شيء، عاشا/ ويعيشان الواقع وخلاصة الأحداث المتراكمة فالمصائب تسود ولا تفرق بين منطقة وأخرى، مهما ظن البعض انه متميز أكثر ومتمدن أكثر. لم يشفع للجنوب عفويته وتمرده الصلب في الشدائد وطبيعة القوى المؤثرة فيه فدخلت عليه بعد الحرب أوضاع غريبة وخطرة، كذلك لم تذد عن تعز فاعلية نخبها وثقلها الديموغرافي والثقافي فتحولت الحالمة بالمستقبل إلى المفجوعة بالكوابيس اليومية. وها هما يسيران نحو أفقين مفتوحين على احتمالات متباعدة، رغم التجاور الأزلي الجميل والتواريخ المتفاعلة والشظايا البشرية الكثيفة التي تناقلت بينهما، ورغم البيئة المتشابهة والتداخلات السكانية في “الأطراف” وعهد الثورات الذي دفع من ضاق بهم الحال الى اتخاذ تعز موئلاً وانطلاقاً.. بينما أرض الجنوب وعدن خاصة شربت روح القادمين من مديريات تعز التي لا تفصلها عن امتداداتها الجنوبية سوى “فشخة كعب”، فنشأت أجيال منصهرة في ثقافة مدينة الشمس المفتوحة لا يفرقهم عرق او مذهب او قبيلة وعلى اكتاف الجميع قادت عاصمة الجنوب مشعل التنوير قبل أن تأتي ازمنة العتمة والضياع التي تمددت حتى صار الحال كما نراه اليوم. تعز والجنوب أنبتا الأرض هامات لا تنسى وتقاسما وثائق القوميين المشدودين إلى عروة الخطاب العروبي التحرري.. ولم يفترقا إلا حين توحدا تحت منظومة سياسية عسكرية قبلية حاكمة يتخللها مشروع الإسلام السياسي الجامح الذي تغذى على دم الأجساد الجديدة المتخمة ب”البراءة الثورية الوحدوية”.
الآن وبعد المآسي العظام يخلو المشهد العام من أي أصوات مسموعة ومؤثرة إلا تحت جلباب الاصلاح أو الحوثي ولم يعد هناك “مصطفى” منتظر يأتي ل”يمحو الزمان المزيف” ويتكلم بلغة المستقبل الذي يتكاثف حوله ناس من خارج هذا النزف العظيم ولو من زاوية التنوع وإغناء المشهد بخيار لا يقع تحت وصاية “اليمين الديني” المتطرف.
ليس مطلوب من تعز الآن أن تتبنى الخطاب الجنوبي السائد في عودة الدولتين إلى حدود مايو لأسباب تتعلق بالبيئة الجيوسياسية التي تنعكس في بناء الوعي والعاطفة أو الهوى السياسي خاصة بعد الاختراقات الكبيرة التي أحدثتها الأحزاب الفاعلة منذ حرب ٩٤ في النسيج السياسي والثقافي التعزي. وهو أمر مفهوم للغاية.. لكن وفي سياق مواز ليس على النخب الليبرالية في تعز ان تتبنى الخطاب الأيديولوجي الديني أو السياسي المتصلب للأحزاب التي قادت الوحدة الى مزيد من الحروب والصراعات. لأن الحالة التعزية لها خصائص مستمدة من التاريخ والجغرافيا ومن عدن التي انصهرت بداخلها ثقافات وأنجبت أجيال تركت بصمات في تشكيل الوعي السياسي جنوباً وشمالاً وما يزال جزء من الطبقة السياسية اللائذة بالصمت، بفعل الأحداث الطاغية، تحمل إرث من ماض جميل لا يفوت من يستمع إلى دندنة ذكرياتهم.
لهذا ليس من الصعب على المتنورين في تعز وغيرها إدراك تلك الحقائق واستحالة خوض تجربة الموت مرتين.
الآن يا معشر القراء، مرة أخرى، يمكن القول أن الجنوب حين يختار مستقبله لن يزيح الشمال نحو “قارة اطلنطا”، الجغرافيا الفقيدة، وأن شمس الله ستظل تشرق على الجنوب والشمال مثلما كانت منذ الأزل، ولن “تتفكك الأواصر” أو تُغلق الأبواب.. فالوحدة بمعناها الواقعي الجديد لا تعني أكثر من الحدود المفتوحة والشراكة الكاملة. لأنه وبعد أن اغتسل الجميع بدمائهم، في محصلة مرعبة للوحدة وتداعياتها ولكل الشعارات التي أسست لها، أصبحوا في الشمال والجنوب بحاجة إلى مراجعات حقيقية موضوعية تقوم على حق الناس في الإختيار.. حيث تبقى تعز المشترك الحي تتنفس جنوباً وشمالاً مثلما كانت قبل تاريخ ٢٢ مايو ٩٠م، فذلك قدر تاريخي وجغرافي وثقافي وإنساني رغم المناوشات الاعلامية والحكي الغير موزون هنا وهناك إلّا أن تلك موجة في سياق الخطابات المتوترة العابرة ولا تأتي إلا من زاوية الجهل بالضرورات المستقبلية.
لكن قبل ذلك تحتاج تعز إلى أن تكون قريبة من ذاتها أولاً وتعود مثلما كانت الملهمة المختلفة.. وتحتاج أن تدرك بأن الجنوب لن ينزلق خارج الجغرافيا والتاريخ وإنما سيستعيد حضوره القوي المستقل ويعيد للأجيال اوكسجين الحياة الحرة.