كريتر نت / كتب- محمد الزغول
لم تكن الاحتجاجات الأخيرة التي انطلقت في مدن الأحواز العربية في إيران، وانتشرت بسرعة لتعمّ أكثر من خمسين مدينة إيرانية، هي الأولى التي تشهدها البلاد في الآونة الأخيرة؛ فقد أصبحت الاحتجاجات الشعبية عنواناً متكرراً في إيران، خلال الأعوام العشرة الأخيرة.
جاءت هذه الموجة من الاحتجاجات مدفوعة بقرار الحكومة الإيرانية رفع أشعار المشتقات النفطية، لكن، كما هي العادة، تطورت شعارات المحتجين بسرعة إلى شعارات سياسية راديكالية، كما تطوّرت المواجهات أيضاً إلى صدامات واشتباكات عنيفة، وما يزال من غير الممكن تقدير عدد الوفيات والإصابات في ظلّ التعتيم الإعلامي الإيراني، وقطع خدمة الإنترنت عن معظم مناطق البلاد كلياً، وأظهرت المقاطع المصوّرة التي نجح المتظاهرون في تسريبها، عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الإعلامية، وجود تدخّل عنيف للقوات الأمنية، واشتباكات مباشرة مع المحتجين، قابلها أعمال شغب وتخريب وإشعال حرائق.
أظهرت الاحتجاجات الإيرانية الأخيرة أنّ القاع الاجتماعي بات مُهدِّداً رئيساً لاستقرار النظام بطيفيه؛ المحافظ والإصلاحي
ويجمع المختصون على أنّ الاحتجاجات الحالية التي تشهدها إيران مختلفة، شكلاً ومضموناً، عن تلك التي سبقتها أواخر عام 2017، وذلك لاعتبارات عديدة أبرزها؛ نجاح هذه الاحتجاجات جزئياً في كسر حواجز القطيعة السوسيولوجية التي كرّسها النظام الإيراني بين مكونات الشعب الإيراني؛ فللمرة الأولى في إيران، منذ عام 2009، يشترك في الاحتجاجات الشعبية عدة أعراق أو قوميات إيرانية، لكن ما يزال من المبكر، وفق الخبراء، تقدير نتائج هذه الموجة من الاحتجاجات، واتجاهاتها المستقبلية.
إرادة كبيرة لدى مختلف مراكز السلطة في النظام بقمع وإخماد الاحتجاجات
يشهد المجتمع الإيراني، منذ نحو ثلاثة عقود، تطورات درامية في آليات التفاعل الاجتماعي ودينامياته، وأدّى التعريف الضيق للهوية الذي فرضته السلطة إلى تكثيف علاقات صراعية بين مختلف التيارات التي تتنافس من أجل السيطرة، والتمكين داخل الجمهورية الإسلامية، ويقتضي فهم مآلات الصراع بين النظام، وديناميات التغيير الاجتماعي، ضرورة تحديد وفهم الخطوط العامة الأوسع للتغيير الاجتماعي والثقافي في إيران، والتي يمكن إجمالها في ثلاثة محاور رئيسة: أولاً؛ صراع الأجيال الذي تدور رحاها بين نخب ورموز نظام يعانون من الشيخوخة، نظراً لوجودهم في السلطة منذ نحو 40 عاماً، وبين شبان وفتيات يُعتبَرون الشريحة الأكثر تعليماً في البلاد، ولا يقرّ الشباب الجدد بأيّ قدسية للرموز الثورية الشائعة بين أركان النظام الحالي، ويشكّكون في قدسية ورمزية قائد الثورة الأكبر، الخميني.
تتمظهر الانقسامات الاجتماعية بشكل حادّ في إيران على ثلاثة أسس؛ صراع الأرياف والمدن وصراع الطبقات والصراع الجندري
وثانياً: صراع القوميات والمذاهب؛ حيث دشَّنت ثورة 1979 حقبة من الصراعات الطائفية الحادة، والاضطرابات في المنطقة عموماً، وثالثاً: الصعود المفاجئ للتيار الوطني اليميني المتطرف؛ ففي تشرين الأول (أكتوبر) 2016، فوجئت السلطات الإيرانية بتزايد أعداد الشباب الذين يتوافدون إلى مقبرة الملك (كوروش الكبير)؛ الذي يعدّ مؤسس السلالة (الهخامنشية)، في باسار غاد للاحتفال بما يسمونه يوم (كوروش الكبير)، وهتف الحضور بشعارات من قبيل: “كوروش والدنا، وإيران وطننا”، وبينما كانت الصور ومقاطع الفيديو تنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي على نطاق واسع، اتجهت وسائل إعلام النظام بشكل مثير للاستهجان، إلى أسلمة “كوروش”، ومحاولة إثبات أنّ النبي محمد ﷺ، كانت له علاقة بـ (كوروش) أو أنّه امتدحه، وكان ذلك مؤشراً على أنّ رؤية القيادة للمسألة القومية ما تزال مضطربة ومشوشة.
في الأيام التالية؛ بدأت الأمور تتكشف عن وجود حركة ثورية شبابية شديدة الراديكالية تقف خلف هذه التجمعات، أطلق عناصر الحركة على أنفسهم اسم “الريستارتيون/ ريستارتيها”، وهي تسمیة مأخوذة من الإنجليزية (Re-Start)، ويعتقد أنصار هذه الحركة أنّه لا بدّ من تدمير كلّ ما هو موجود ليعاد بناء إيران على أسس جديدة تحاكي ما كانت عليه قبل الغزو العربي (الفتح الإسلامي)، ويتشكّل قوام هذه الحركة من شباب أعمارهم بين 14 إلى 25 عاماً، وهم ذوو نزعة قومية-وطنية إيرانية جارفة، وشعارهم الأساسي نحو إيران المجيدة، وهم ليسوا علمانيين فقط، بل يحملون مشاعر معادية جداً للدين، وكلّ ما يرتبط به من رموز ومظاهر، ويرون في الإسلام شكلاً من أشكال الغزو الثقافي العربي لإيران، كان من اللافت أنّه ليس هناك تيار أو حزب سياسي مرتبط مباشرة بهذه الحركة أو ترتبط به، لكن التيار الملكي هو الأقرب إليهم؛ لأنّهم ببساطة يريدون عودة إيران ملكية-إمبراطورية، ويعدّ الإمبراطور الهخامنشي كوروش الكبير، رمز عظمة وقوة إيران، وفق هذه الحركة.
أصبحت الاحتجاجات الشعبية عنواناً متكرراً في إيران
يظهر الريستارتيون اليوم في مختلف الاحتجاجات الإيرانية، ولعلّ مما يزيد من خطورتهم حقيقة أنّه ليس لدى هؤلاء الشباب أيّة مطالب، لا من النظام، ولا من المجتمع الدولي؛ فهدفهم هو نسف كلّ ما هو موجود، ولذلك لا حاجة لهم لا بالمفاوضات، ولا بالهياكل التنظيمية، ولا يحتاجون أيضاً إلى وجود قيادة تفاوض عنهم أو تديرهم؛ فالهدم لا يحتاج سوى معوّل، لكنّ الريستارتيين استخدموا النار كوسيلة للهدم، أولاً؛ لرمزيتها الروحية عندهم، وثانياً؛ لأنّها تأتي على كلّ شيء، ولا تبقي أثراً سوى الرماد، هم ببساطة يتشكلون، ويتحالفون على شكل مجموعات وخلايا صغيرة، غير مترابطة تنظيمياً، وبلا هرم قيادي، وبلا هياكل تنظيمية واضحة، وتقوم كلّ مجموعة بتخريب ما تطاله أيديها، مع التركيز على تخريب رموز الدين، والسلطة الحاكمة؛ لذلك ركّزوا على حرق المساجد، والمراكز الأمنية، والبنوك، كرموز للدين والسلطة والمال، وقد بلغ عدد المساجد والحسينيات التي أحرقوها أكثر من عشرة آلاف مسجد وحسينية، خلال الأعوام الثلاثة الماضية، بينما تجاوز عدد المراكز الأمنية التي أحرقت حوالي ألف ومئتي مركز أو نقطة أمنية، وتمكّنوا من إحراق عشرات البنوك رغم الحماية الأمنية الفائقة التي تتمتع بها البنوك عادة.
أما ملف الأقليات العرقية والقومية، أو “الشعوب الإيرانية”، كما يحلو للبعض تسميته؛ فهو عقدة أخرى تضاف إلى هذا المزيج غير المنسجم من القومية والمذهبية، ولا يبدو أنّ المجتمع الدولي أو المنظمات الدولية، يمتلكان الرغبة في تسليط الضوء على الانتهاكات التي تتعرض لها الأقليات العرقية في إيران، وتقرّ منظمة “هيومن رايتس ووتش”، بـصعوبة التحقق من المعلومات حول انتهاكات حقوق الإنسان ضدّ الأقليات العرقية في إيران، فأوضاع الأقليات العرقية لا تخضع للرقابة اللصيقة من جانب جماعات الدعم الدولية، ويصعب الوصول إلى كثير من مناطق إقامة الأقليات، كما أنّ الإعلام الإيراني يلتزم الصمت أحياناً، والتضليل أحياناً أخرى تجاه ملف الأقليات.
اضطرابات سياسية أم اقتصادية؟
يمكن تصنيف مجمل الاحتجاجات التي حدثت بعد استقرار نظام ثورة 1979 في إيران، إلى صنفين أساسيين: اضطرابات سياسية، واضطرابات اقتصادية، ويمكن تحديد أبرز سمات الاضطرابات السياسية التي شهدتها إيران في غلبة عناصر الطبقة المتوسطة عليها، وتركّزها في العاصمة طهران وبعض المدن الكبرى، وتمحورها حول مطالب إصلاحية وليست راديكالية، وأخيراً وجود قيادة محددة لها، أما الاضطرابات الاقتصادية؛ فهي غالباً ما تكون مدفوعة بعوامل احتقان طبقي، ويغلب عليها الطبقات الفقيرة، وتنتشر في مختلف المدن والأقاليم، بينما قد يكون حضورها محدوداً في العاصمة والمدن الكبرى، وتغلب عليها النزعة الثورية والراديكالية، وأخيراً؛ فإنّها عادة ما تفتقر لقيادة واضحة، وتندرج في إطار ما يسمى “الاحتجاجات العمياء” أو “المظاهرات دون رأس”.
لا يُقلِّل وصف الاحتجاجات بالاقتصادية من أهميتها فتجربة الثورة الإيرانية عام 1979 حدثت تحت تأثير نمط الاحتجاجات الاقتصادية
ويمكن إرجاع أغلب أسباب الاحتجاجات الاقتصادية في إيران إلى عاملَين: الضغوط الاقتصادية الخارجية الناتجة عن سياسات النظام، وتبنّي الحكومات الإيرانية سياسات نيو-ليبرالية في مجال الاقتصاد الكلي (Macro Economy)، التي تشمل “الخصخصة الاقتصادية والصحية”، و”خفض الإنفاق العام”، و”رفع الدعم عن البضائع الأساسية”، و”رفع الضرائب”، و”التقشف”.
وبينما ظلّت رواية النظام تتبنى حماية المستضعفين في الداخل والخارج طوال العقود الماضية من عمر الثورة، أظهرت الاحتجاجات الأخيرة؛ أنّ “القاع الاجتماعي” بات مُهدِّداً رئيساً لاستقرار النظام بطيفيه؛ المحافظ والإصلاحي، وتتمظهر الانقسامات الاجتماعية بشكل حادّ في إيران على ثلاثة أسس، صراع الأرياف والمدن، وصراع الطبقات، والصراع الجندري.
لا يُقلِّل وصف الاحتجاجات الأخيرة بالاقتصادية من أهميتها وأثرها
ولا يُقلِّل وصف الاحتجاجات الأخيرة بالاقتصادية من أهميتها وأثرها، بل يعطيها زخماً أكبر، خاصة إذا أُخذت في الاعتبار عدة نقاط، منها: أنّ حجم الطبقة المتوسطة ليس كبيراً مقارنة بحجم الطبقة الكادحة، وأنّ مطالبات الطبقة المتوسطة ليست راديكالية، وأنّ تجربة الثورة الإيرانية عام 1979، حدثت تحت تأثير نمط الاحتجاجات الاقتصادية، كما أنّ وصف الاحتجاجات الأخيرة بالاقتصادية لا يعني أنّها غير ذات منحى سياسي، وذلك نظراً لطابعها الراديكالي، فعلى عكس الاحتجاجات السياسية التي لم تُحدِثْ تغييراً مهماً في خريطة القوى السياسية، فإنّ الاحتجاجات الاقتصادية من شأنها أن تُحدِث هذا التغيير، ومن المرجَّح، وفق هذه الرؤية؛ أنّ تتواصل الاحتجاجات الاقتصادية في إيران، وتتفاقم نظراً لدوام تردّي الحالة الاقتصادية، واستمرار الإصلاحات النيوليبرالية، واستمرار العقوبات الاقتصادية.
التواصل الاجتماعي يعمّق أزمات النظام البنيوية
مرة أخرى، أثبتت مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها تطبيق “تلغرام”، فاعليتها وتأثيرها في مجريات الأحداث في الساحة السياسية في إیران خلال الاحتجاجات الأخيرة، ويمكن وصف “تلغرام”، على ضوء الاحتجاجات في أكثر من 50 مدينة إيرانية، بـ “الدينامو المحرك” و”غرفة عمليات” الحراك الشعبي، و”القناة” التي نسّق المحتجون نشاطهم من خلالها، وهو ما دفع النظام الإيراني إلى قطع الإنترنت عن عموم البلاد في خطوة، ووجهت باستهجان كبير، لكن يبدو أنّ جهات دولية ما استطاعت توفير خدمة الإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية لأعداد كبيرة من المتظاهرين، وهذا متغير مهمّ ولافت في الاحتجاجات الحالية.
ومن بين هذه القنوات الناشطة على “تلغرام”، تبدو قناة “ري ستارت” هي الأكثر خطورة من الناحية الأمنية على النظام؛ إذ تعكس القناة أفكار الحركة الشبابية التي تتمتع بشعبية واسعة، ولها متابعوها المخلصون في إيران، كما أنّها تتمتع بقوة تجنيد طاقات قتالية شابّة ومتحمسة، وقادرة على إثارة الفوضى، ونقطة قوتها أنّها تتمتع بنبرة وطنية، ما يجعلها قادرة على استقطاب الجيل الشاب، الذي يدعو إلى المبادئ الوطنية، ومن نقاط قوّتها، وفي الآن نفسه؛ هي من نقاط ضعفها، أنّها حركة يديرها شخص واحد، ما يمكّنه من اتّخاذ القرارات بسلاسة وسرعة أكبر، وقد أسس هذه الحركة، ويديرها بشكل منفرد، الناشط الاجتماعي والإعلامي الإيراني المعروف، سيد محمد حسيني.
لكنّ هناك عدة نقاط ضعف في هذه الحركة؛ أهمها: أنّ الحركة يديرها شخص واحد، وأنّ قيام أتباع الحركة بإحراق المساجد أثار حفيظة الشارع المحافظ في إيران، وترك انطباعاً سيئاً لدى الجمهور إزاء الحركة، لكن رغم ذلك؛ قامت بعض الجهات بالتحالف مع الحركة، لتوسيع نطاقها، ويمكن القول إنّه إلى جانب القنوات التي تدعم الخطاب الملكي، هناك كتلة من القنوات تحاول حشد الشارع في إطار خطاب معارض أقرب إلى الديمقراطية.
يظهر الريستارتيون اليوم في مختلف الاحتجاجات الإيرانية
جغرافيا الاحتجاجات
تُظهر دراسة الانتشار الجغرافي للاحتجاجات، أنّها لم تقتصر على المناطق ذات الخصوصيات العرقية والإثنية؛ ما يعني أنّ القوميات تحاول البحث عن جسور مشتركة فيما بينها في مواجهة النظام، ولا تمثل الشعارات التي طرحت في الاحتجاجات أيّاً من اتجاهات الأقليات العرقية أو مطالبهم السياسية، فمعظم هذه الشعارات كانت تدعو إلى إسقاط النظام، دون إشارة إلى الحكم الذاتي أو حقوق الأقليات، وربّما يثير وجود بعض الشعارات المتمحورة حول “الملكية”، والمفاخرة بالعرق “الآري”، حفيظة الأقليات العرقية التي لا تحبذ الفكرتين، فيحجمون عن المشاركة فيها. وعلى العموم؛ فإنّ الحالة الموجودة في الاحتجاجات تبيّن لنا “عدم التضافر”، و”عدم التعاطي” بين مطالب المتظاهرين المتجلية في شعاراتهم ومطالب القوميات الإيرانية، ولعلّ صمت القوميات إزاء مسيرة الاحتجاجات، يمثل نقطة الضعف الأخطر لها، وهو خطر يهدّد ديمومتها، كما شهدنا خلال التجارب السابقة، وهذه النقطة من أهم الملاحظات التي يحاول النظام استثمارها في التصدّي للاحتجاجات.
هل ينجح النظام في إخماد الاحتجاجات؟
تشير الاحتجاجات الأخيرة، وتلك التي سبقتها في الأعوام 1991 و1995 و1999 و2009، و2017، إلى تآكلِ شرعية النظام، وتفاقمِ الأزمات الهيكلية الداخلية، السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وتدللُ على إخفاق “النموذج الإيراني”، لكن رغم كلّ الأزمات التي يمرّ بها النظام الإيراني والاحتجاجات المتتالية التي شهدها، إلا أنّه يبدو أنّ لديه قدرة على البقاء والتحايل على تلك الأزمات، وثمة أسباب موضوعية عديدة، أهمّها: وجود إرادة هائلة لدى النظام للقمع، وتطوير قدرته على ممارسة هذا القمع، وعدم وجود انشقاقات جذرية داخل طبقة الحكم، فضلاً عن غياب الدعم الخارجي لأيّ تغيير داخلي.
تُظهر دراسة الانتشار الجغرافي للاحتجاجات أنّها لم تقتصر على المناطق ذات الخصوصيات العرقية والإثنية؛ فالقوميات تبحث عن جسور مشتركة لمواجهة النظام
وينجح النظام الإيراني عادة في استغلال “القطيعة السوسيولوجية” بين إيران المركز، وإيران الأعراق، التي تحول دون انتشار الاضطرابات من مناطق الأكثرية إلى مناطق الأقليات، أو العكس، وتتيح للنظام إمكانية توظيف الأقليات لقمع المحتجين من الأكثرية، أو توظيف الأكثرية لقمع المحتجين من الأقليات، لكن في هذه الاحتجاجات الأخيرة فقد النظام هذه الميزة لأسباب وعوامل عديدة، أهمها: صعود التيار الوطني الإيراني، الذي قلّل من حجم تأثير التمايزات بين المذهبية والمناطقية، وخفّف من حدّة النزعات القومية، كما يمكن القول إنّ الظروف الاقتصادية الصعبة عملت على توحيد مطالبات الإيرانيين من النظام أكثر من أي وقت مضى؛ لأنّ المطالب الاقتصادية عابرة بطبيعتها للقوميات والمذاهب.
ومع ذلك لا ينبغي الذهاب بعيداً في توقع استمرار الاحتجاجات وانتشارها في ظلّ توافر قدرة، وإرادة كبيرة لدى مختلف مراكز السلطة في النظام بقمع وإخماد الاحتجاجات، ولطالما عمَّق النظام الإيراني الانقسامات الاجتماعية في البلاد؛ بسبب إصراره على تفضيل الحلول والمقاربات الأمنية للمشكلات الداخلية العالقة؛ إن بهدف تفكيك وقمع القوى المناهضة للنظام في داخل المجتمع، أو بهدف عزل الفئات الغاضبة فيه عن بعضها، وعن باقي فئات المجتمع، وخفض دائرة المحتجين من أجل سهولة التصدي لهم.
إستراتيجية النظام لمواجهة الاحتجاجات
ظهر النظام الإيراني متحدًا في مواجهة المحتجين، وتبنت مختلف مراكز السلطة رواية واحدة تقوم على أساس أنّ رفع أسعار المشتقات النفطية كان ضرورة وطنية، وأنّ المحتجين هم مجموعة من الأشرار والغوغائيين الذين يحاولون تخريب الأمن والسلم المجتمعي، وتجدر الإشارة إلى أنّ النظام الإيراني وصل إلى السلطة أساساً عن طريق إدارة احتجاجات شعبية، وبالتالي؛ فإنّه يمتلك خبرة متراكمة في آليات إدارتها، والتعامل معها، وتفكيكها، أو قمعها وإخمادها عند الضرورة، وللسوابق التاريخية وقعها وتأثيرها في هذا الاستنتاج.
وقد بنى النظام إستراتيجية مواجهة الاحتجاجات الأخيرة على ثلاثة عناصر: القول إنّ الأوضاع الاقتصادية التي تعاني منها البلاد ضريبة طبيعية للمواقف الإيرانية الصلبة في مواجهة المؤامرات الأمريكية، والقول إنّ الأزمة متعلقة بالحكومة فقط، لا بالنظام، وأنّها حصيلة لإخفاقات الحكومة الاقتصادية، وعجزها عن تحقيق وعودها الانتخابية، مع تأييد الجهود الأمنية لقمع الحراك الاجتماعي، ووسمه بأنّه حصيلة مؤامرات خارجية من خلال التركيز الإعلامي على عمليات التخريب، والإساءات إلى رموز الدولة، والنزعات الانفصالية، وفي الوقت نفسه؛ واصل النظام محاولات تفكيك المجتمع، وعزل الفئات الغاضبة فيه عن بعضها، وعن باقي فئات المجتمع، وخفض دائرة المحتجين من أجل سهولة التصدي لهم.
أثبتت مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها “تلغرام”، فاعليتها وتأثيرها بمجريات الأحداث في الساحة السياسية في إیران خلال الاحتجاجات الأخيرة
كما لجأ النظام إلى تعطيل شبكات التواصل الاجتماعي عبر قطع خدمة الإنترنت، والتوسع في عمليات الحجب والفلترة، وكما جرت العادة؛ يرجَّح أن تقوم قوات التعبئة العامة (الباسيج) خلال الأيام المقبلة، بحشد الشارع الموالي والمحافظ في المجتمع الإيراني، وتشكيل “مسيرات موالية” للنظام، ومعارضة للمعارضين المحتجين.
نقاط الضعف التي تعاني منها الاحتجاجات
بدأت الاحتجاجات بشكل عفوي؛ لذلك فإنّها تعاني مما تتصف به الحركات الاجتماعية-السياسية العفوية، مثل: الافتقار للقيادة، وتباين المطالب والشعارات، وضعف الدعم الدولي للمحتجين، أو عدم فعاليّته، ووقوف الحركة على أسس هشة، قائمة في العالم الافتراضي؛ إذ تمرّ الدعوة إلى المظاهرات، ومختلف التفاصيل الأخرى عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وبين أشخاص لا يوجد بينهم تواصل وارتباط فعلي غالباً، ومعنى ذلك؛ أنّ الحركة تفتقر إلى شبكة تنسيق ميدانية واقعية، ما يؤدّي إلى إصابتها بالشلل عندما تقوم أجهزة النظام بقطع شبكة الإنترنت عدة أيام.
النظام الإيراني عاش أكث من عمره الافتراضي
رغم أنّ محاولة النظام الإيراني تجاهل التأثير القوي للاحتجاجات في العراق ولبنان على الساحة الإيرانية، يبدو أنّ منطق الحراكات الثلاث متشابه إلى حدّ بعيد، وقد استهدفت الشعارات التي رفعها المتظاهرون في لبنان والعراق النفوذ الإيراني في البلدين، وطالبت بإنهاء الهيمنة الإيرانية على مؤسسات الدولة، والقرار السياسي في كلّ منهما، لكنّ هذا البعد تجلى بشكل أوضح في مظاهرات العراق التي شهدت شعارات مباشرة ضدّ النفوذ الإيراني، ومساساً واضحاً بالرموز السياسية الإيرانية.
يمكن وصف “تلغرام”، على ضوء الاحتجاجات في أكثر من 50 مدينة إيرانية، بـ “الدينامو المحرك” و”غرفة عمليات” الحراك الشعبي
وعُدَّت الاحتجاجات في البلدين اعتراضاً شعبياً على نظام المحاصصة الطائفية الذي يراه المتظاهرون السبب الرئيس في التردي الاقتصادي وحالة الفساد التي يعيشها البلدان، وتُعدّ إيران المستفيد الأول من نظام المحاصصة؛ إذ استطاعت ترسيخ نفوذها وتعميقه من نفوذ على صعيد القوى الاجتماعية إلى نفوذ مؤسساتي، وهيمنة رسمية على مؤسسات الدولة، وأظهرت مجمل التطورات الأخيرة؛ أنّ إيران لم تعد تمتلك اليد العليا في طائفياً في المجتمع الشيعي في العراق، ولبنان، وحتى في إيران نفسها.
وتلقي طهران باللائمة على الولايات المتحدة بدعوى أنّها تقف وراء إشعال هذه الاحتجاجات في الدول الثلاث، ولا توجد مؤشّرات على أنّ الاحتجاجات أدّت لغاية الآن إلى أيّ تحليل مُتفحّص ذي معنى في طهران حول الدروس أو التداعيات الناتجة عنها، يمكن أن ينعكس على سياسات إيران الخارجية، وما يزال خطّ الدفاع الأساسي يقوم على أنّ هذه الاحتجاجات مدفوعة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، لكنّ الحقيقة البارزة؛ هي أنّ النظام الإيراني بات أكثر قابلية للتفكك والانهيار من أي وقت مضى، ورغم أنّ العقوبات لم تنجح -حتى الآن- في إعادة إيران إلى طاولة الحوار الشامل، لكن بات لدينا ما يفيد بوجود تأثير قوي للعقوبات، من شأنه أن يُحدث مثل هذا الأثر في حال مواصلة العقوبات خلال العام المالي الإيراني المقبل.
ويميل كثير من المحللين في الغرب والشرق إلى الاعتقاد أنّ النظام الإيراني عاش أكثر من عمره الافتراضي! ولعلّ إشكاليتهم الكبرى مع النظام الإيراني أنّهم يعدّونه خارج سياق العصر، وأنّه لم يكن يصلح بالأساس لأكثر من مرحلة انتقالية بعد الثورة، لكنّ النظام استمرّ، ولا يعني ذلك أنّ استمراره كان أمراً طبيعياً، لكن بالمقابل ليس هناك أيّ أساس منطقي مقبول للقول إنّ عدم بقائه كان هو الأمر الطبيعي.
ضغوط هائلة يتعرض لها النظام الإيراني، داخلياً وخارجياً، لكنّه يبدو حتى الآن متماسكاً، وقد يكون من الصعب التنبؤ بما سيحدث في المستقبل القريب، لكنّ منطق الأنظمة الشمولية يفيد بأنّها تنكسر عادةً، ولا تتراجع.