كريتر نت / كتب- ماهر فرغلي
اختفت في مصر الكتاتيب، التي كانت مصنعاً تخرّج فيه قرّاء عظام، مثل: الشيخ مصطفى إسماعيل، وعبد الفتاح الشعشاعي، ومحمد صديق المنشاوي، وغيرهم، ولم يتبقَّ من أثرها سوى الموجود بمدينة الأقصر، ومحافظة المنيا وأسوان، وباقي المدن الجنوبية المصرية، وهو ما أدّى إلى بروز أشكال أخرى، منها مقارئ المساجد، وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم، ومعاهد القراءات، التي ورغم نفقاتها الباهظة إلا أنها لم تحلّ محلّ دكاكين وغرف المشايخ حتى الآن.
الكتاتيب تاريخ طويل
نشأت الكتاتيب، وفق ويكيبيديا، منذ العصر الأموي، وانتشرت في القرن التاسع عشر والعشرين، انتشاراً واسعاً، وكانت تقام في مبانٍ متصلة بالمساجد، أو مبانٍ مستقلة، أو في بيوت معلمي الكتاتيب أنفسهم أو مشايخها؛ حيث كان المعلم يجلس على كرسي أو مصطبة مرتفعة عن الأرض، أما التلاميذ فكانوا يجلسون أمامه على الأرض المفروشة بالحصير، وهذا ما ساد في القرى المصرية بالأخص.
أما العاصمة القاهرة؛ فانتشرت فيها بشكلٍ أكبر الكتاتيب التي تعلو السُبل، مثل: سبيل وكُتَّاب “عبد الرحمن كتخدا”، الذي بُني عام 1744، في شارع المعز لدين الله الفاطمي، لمصمّمه الأمير عبد الرحمن كتخدا، عبقري الهندسة المعمارية في عصره، وهو عبارة عن سبيل يشرب منه المارة، يعلوه كُتَّاب يتلقى فيه الطلاب العلم. وسبيل وكُتَّاب “نفيسة البيضاء” القائم بمنطقة السُكَّرية العتيقة بالقاهرة، ويرجع تاريخه إلى عام 1796، وصاحبته هي السيدة نفيسة البيضاء التي عُدَّت واحدة من أغنى نساء عصرها، كما عُرِفت بعلمها وثقافتها وحبّها لعمل الخير.
صوَّرت رواية الأديب طه حسين “الأيام” ما يدور داخلها، وكيف أنّها لا تمنح شهادات أو مؤهّلات، إلا أنّها وضعت في الأطفال المصريين بذور المعرفة الصحيحة باللغة العربية وقواعدها، لكن في ذات الوقت كانت مثار تسلط المشايخ الأزهريين، الذين كان بعضهم لا يفقهون الأصول والقواعد التربوية الحديثة في تعليم النشء.
في تصريح صحفي نشرته “فيتو”، قال الدكتور أحمد المعصراوي، شيخ مشايخ قرّاء مصر السابق: إنّ “دور الكتاتيب تراجع كثيراً في الأعوام الأخيرة؛ بسبب تقصير الأزهر ووزارة الأوقاف المصرية في الاهتمام بها، رغم أنّها دائماً مصنع العظماء من رجال الدين والأدب والشعر وكبار المفكرين والعلماء، لذا اعتمد محمد علي باشا، والي مصر، على خريجي الكتاتيب في تأسيس المعاهد الأزهرية، وحقّق من خلالهم نهضة تعليمية شاملة، ومن أبرز خريجي الكتاتيب المصرية؛ المفكّر والمترجم رفاعة الطهطاوي”.
وقال الشيخ عبد الله عبد الواحد، محفِّظ قرآن: “رغم اندثار الكتاتيب إلا أنّه حلّ محلّها المقرِئة، ويطلق عليه أيضاً الكتَّاب، لكن ليست كالكتاتيب المتعارف عليها قديماً؛ حيث اختفت بعض وسائل التعليم التي كانت مرتبطة بها منذ عشرات الأعوام، مثل الأحبار، والألواح المعدنية التي كان يكتب عليها، وكذلك الفلكة، وهي إحدى أدوات العقاب، والتي كانت تمثل رعباً وعقاباً شديداً للمتخاذلين في حفظ القرآن”، لافتاً إلى بروز “ظاهرة المقرئة والكتاتيب النسائية، التي تقوم عليها الفتيات والسيدات، اللاتي يقمن بتحفيظ السيدات وأقاربهن”.
أسباب الغياب
يرى الباحث التراثي، هيثم أبو زيد، في تصريح لـ”حفريات”؛ أنّ “دولة التلاوة القرآنية في مصر انتهت تماماً، والأسباب كثيرة، وأهمّها غياب الكتاتيب، التي كانت تنتج لنا المئات من القرّاء المتميزين، والذين كانوا يمرون بمراحل كثيرة تدقّق فيهم جيداً، ومنها الإذاعة التي لم يدخلها أحد بسهولة، ضارباً المثل بالطبلاوي، الذي لم يصبح مقرئاً رسمياً إلا بعد عدة مرات رسب فيها، وكذلك الشيخ المنشاوي، وأيضاً نصر الدين طوبار والنقشبندي، اللذَين تمّ رفضهما والسماح لهما فقط بالتواشيح”.
وفي سؤال حول معاهد القراءات التي أصبحت بديلاً للكتاتيب، أوضح أبو زيد؛ أنّ “تلك المعاهد لا علاقة لها بالقرّاء وإنتاجهم، فهي تخرّج مدرسين محترفين في علوم القرآن والقراءات العشر، لكنّ مشايخ القرآن يعتمدون بشكل ذاتي على مواهبهم الخاصة، التي ينمونها بالدراسة، مثلهم مثل الفنانين، وفي هذا التوقيت قلّت تلك المواهب بسبب حالة التجريف الثقافي التي يمرّ بها المجتمع جملة”، مضيفاً: “لا يجوز لأحد أن يطلق على نفسه لقب قارئ إلا إذا كان حافظاً للقرآن الكريم والمقامات الموسيقية، والأحكام والمتون الخاصة به، وأن يكون موهوباً من الناحية الصوتية، أما الآن فمعظم القراء يحفظون بعضاً من أرباع السور، ولا يتمكنون من أداء المقامات الموسيقية”.
وفي سياق متصل، يقر الباحث سامح عسكر، لـ”حفريات” باندثار “جيل القرّاء العظيم صاحب الأسبقية، وبموت أكثرهم وفراغ الساحة أمام مقرئي الخليج (اختلف الذوق) المصري، والعربي بالخصوص، ليعلو سهم آخرين، أما مقرئو مصر فتفرغوا للتجارة بحفلات القراءة شرقاً وغرباً مع التركيز على النغمات والألحان دون الاهتمام باللغة وأحكام التلاوة، فجرت العادة على أنّ القراءة فقط لحلاوة الصوت، لا بأحكام قراءة الآيات، طرباً ولغة ومعنى وشعوراً، كما كان في بدايات الإذاعة”.
وفي تصريح لصحيفة “اليوم السابع” المصرية، لفت الشيخ محمد صالح حشاد، شيخ عموم المقارئ المصرية، إلى تراجع الريادة في التلاوة لضعف وتراجع الكتاتيب وقلّة عددها، وتكريم حفظة القرآن الكريم على الحفظ، وليس على الحفظ وجمال الصوت، وغياب التشجيع الحقيقي منذ فترة طويلة، مشيراً إلى أنّ وزارة الأوقاف المصرية ستهتم بإعادة التوسع في انتشار كتاتيب القرآن الكريم، وأنّ “هذا الأمر سينعكس بشكل كبير وإيجابي على عودة الريادة القرآنية التي كانت تتمتع بها مصر”.
أرجع الشيخ محمود الطبلاوي، خلال لقاء على فضائية “إكسترا نيوز” السبب؛ إلى أنّ “معاش قارئ القرآن الكريم 40 جنيهاً فقط، وهذا ما دفعهم للمغالاة في أجور المآتم والحفلات”، مشيراً إلى أنّ “الاختبارات الحالية أصبحت أكثر مرونة من الماضي، وهو سبب كبير لتراجع الأداء”.
ويرى الكاتب أحمد الشوربجي؛ أنّ “جماعة الإخوان عملت على إنشاء منظومة تربويّة إخوانيّة خاصّة، تشمل الكتاتيب والمدارس القرآنيّة، وهو ما دفع الحكومة لإغلاق ومراقبة العديد منها، بالتالي؛ وقع التأثير الكبير في غياب هذه الوسيلة الكبيرة التي كانت عموداً كبيراً في دولة التلاوة القرآنية”.
أما الباحث هيثم أبو زيد، فقد أشار إلى أنّ إيران أيضاً اخترقت دولة التلاوة المصرية، عبر استقطاب قرّاء كثيرين إلى إيران والضاحية الجنوبية في لبنان، وكانت تعطيهم مبالغ باهظة، وصلت في بعض الأحيان إلى 90 ألف دولار نظير القراءة طوال شهر رمضان في طهران، وهذا ما استتبع انتباه الدولة المصرية إلى هذا الاختراق؛ ففي 2014 تمّ التحقيق مع كلٍّ من: الشيخ الدكتور أحمد نعينع، والشيخ طه محمد النعماني، والشيخ محمد عبد الوهاب الطنطاوي، والشيخ ياسر عبد الباسط عبد الصمد، بسبب سفرهم لإيران والعراق ورفعهم الأذان الشيعي، دون إذن مسبق من الوزارة، وبالتالي أثّر ذلك كلّه في دولة التلاوة القرآنية.
في إحصائية قدمتها صحيفة “الوطن” المصرية؛ بلغ عدد (الكتاتيب) ما يزيد على 2500، إضافة إلى 863 مدرسة قرآنية، تضمّ كلّ مدرسة ثلاثة محفّظين بالمساجد الكبرى، و174 مدرسة علمية على مستوى الجمهورية المصرية، تخضع لوزارة الأوقاف، التي تعمل على تقنين أوضاع المكاتب الحالية وخلق جيل جديد تغرس فيه الأخلاق الإسلامية، وروح الانتماء للدين والوطن من خلال مكاتب التحفيظ العصرية والمدارس القرآنية التي تمثل المنهج الوسطي، وهذا من أجل محاولة إيجاد حلّ لمشكلة التلاوة القرآنية، وغياب الريادة المصرية الآن عن قيادتها.