كتب : د/ أحمد عبد اللاه
نجح التحالف العربي في تعويم المجلس الانتقالي الجنوبي على بساط هذه المرحلة الملتبسة..
مع تأكيده المتصلب، تحت أي ظرف، على أن الاولوية المطلقة تظل، في المحظور والمباح، ل”هزيمة الحوثي وإعادة الشرعية”. وحتى وإن كان التحالف ذاته لا يصدق هذا الموّال إلا أنه يسعى للتضحية بأي شيء آخر من أجل الهدف المعلن بحيث يصبح الجميع مجرد أدوات وأدوار .
هذا كل شيء، بالرغم أن دول العالم جمعاء وأولهم التحالف يدرك بأن هزيمة الحوثي نهائياً أمر غير ممكن ومستبعد للغاية. بل أن منطق الأحداث يحيل ذلك إلى مجرد مُلحق ضئيل في مشروع الوهم. أي أن عودة الشرعية إلى صنعاء لم تعد فرضية مقبولة على الإطلاق ولا حتى في خانة الأماني.
ووفقا لهذه المعطيات يظل الجنوب المحارب وقضيته قطعة قماش بيد النسّاجين من إخوة العرب في شبه الجزيرة يحيكون منها قمصان وأشمغة على مقاساتهم.
الشرعية “يافطة بالية” ما يزال التحالف العربي، بعد تجربته المرّة، يلوح بها حتى بعد أن أصبح لدى المجتمع الدولي بروفايل كامل ومفصّل لحكايتها المحرجة والمستفزة للعقول والضمائر. فهي منذ ٢٠١٦م تخوض -فقط- معركة البقاء في السلطة، وأسقطت عن نفسها صفة “قيادات الدولة المنكوبة” التي تواجه الوضع بشجاعة وتضحية ونكران للذات وحضور فاعل وسلوك يتوافق مع الحالة الكارثية التي يعيشها المجتمع.. وعجزت أن تتعامل مع مآسي البلد بكفاءة وصبر ونزاهة… فتحولت في شتاتها وسباتها إلى ماكنة لإصدار قرارات ليلية لنفخ الجسد الحكومي بهرمونات ومنشطات لم تحقق أي استجابة كيميائية أو فسيولوجية فأصيب بالعقم ثم تعفن وذاب في نفايات زمنه الرديء.
من ناحيته تحول الجنوب إلى مصدر بشري لتمويل الجبهات بالدماء الشابة الفقيرة ليواجه مخزون الهضبة وما حولها تاركاً ظهره منكشفاً أمام “مجاهيل” كثيرة.
يسير ذلك بشكل مواز مع “الإعجاز الإعلامي” لتنظيم الإخوان الذي حول جبهات “جيشه الوطني” الى ماركة تجارية لمؤسسة حزبية متعددة الهياكل والفروع تتلقى تمويلاً غير مشروط من المملكة السعودية وتوزع اتباعها إلى جماعات وجمعيات واجهزة مالية وإدارية ولوجستية وكيانات سرية عقائدية وجيش احتياط يتم ادخاره الى حين تصبح هناك حاجة لإعداد مصيبة جديدة يتقن الإخوان تصميمها بخبرتهم التاريخية.
فالمملكة السعودية تعتقد جازمة حازمة بأن إخوان اليمن هم الخصم الاستراتيجي لمشروع الحوثي وتعمل بكل عمى الدنيا على إنشاء حليف “على الورق” لتتسق رؤيتها هذه مع ادائها التاريخي في اليمن المستند إلى المفاهيم السطحية المبتذلة وإلى المال والشخصيات القبلية والدينية… وفي كل مرة تصاب بنكسة مهينة دون أن تتعلم.
في هذه الأجواء كيف يفكر الجنوبي؟ وهو يراقب المشهد المنكمش على محركات التسويف ومستحضرات اليأس وتخنقه أجواء القبائل الإلكترونية التي تعصر الزيوت بنفس الدوران ونفس المذاق دون كلل أو ملل. وبنفس المعاني يغرد المغردون، “كل ليلة وكل يوم” مبشرين ومنذرين، مع استراحات متقطعة للتحرش بذاكرة الزمن الجميل في محاولة ترقيع مشاعر الندم على إيقاع الحنين.. تلك ال “نوستالجيا” التي تحيل الكتلة النفسية الى خليط من الازمنة والأمكنة والأحداث.. تتذبذب حولها بوصلة العيون التي شاهت من التحديق في أفق بعيد… عسى الرحمن
أن يفرجها بزخات من الغيث!
أيها الجنوبي المحارب ما تزال حكايات البطولات “الخزفية” والجثامين المسجاة في الجنائز اليومية تتوالى لتتحول غصة الأمهات الى ترنيمة نصر يرددها القادة المتخمون هنا وهناك.. ديدنهم ذاك… فما ديدنك انت؟ هدفك كان على مرمى بصر وإذ به ينأى، وأنت أيها المحارب المجهول “كما اسموك” إن لم تقف صادا عن حياض هدفك أولاً وأولاً سوف يقتلك الآخرون من أجل اهدافهم.. وأي عبث ذاك أو فلسفة تبرر مجانية الدماء دون غاية مُدركة؟ لا توجد في كل التواريخ تحالفات غير متوازنة المصالح والغايات.. و”الحب من طرف واحد يموت من السقعة” مثلما قال الشاعر المصري كامل الشناوي.
أنت لست معنياً أن تخوض كل الحروب نيابة عن كل الآخرين المنصرفين نحو مصالحهم وأهدافهم! فهل كتب عليك أن يتحول الزّي العسكري إلى “قميص ازابيلا” المنذور لحروب الاسترداد بعرقه وقرفه دون أن يمسه ماء حتى سقوط غرناطة؟ ولن تسقط سوى (غرناطتك)، وطنك المؤجل!
فأنت لا تحتاج بعد عقود من الظلم إلى وعد من أحد بإقامة دولة تجمع شتاتك.. أنت على ترابه وخيولك وسيوفك ومراعيك وقلاعك حولك، وحقك أن تدافع عنه ببندقية الشجعان وبعقل الحكماء تسندك إرادة شعب وجد ذاته ولملمها، بعد أن طالت به مشاوير الخيبات ومزقته اهواء القادة حين تفرق دمه في أثوابهم.
انتبه جيداً لقيمة الوقت! ولا تجعل المواعيد الغامضة رأسمالك.. فهناك وطن مُتخيّل يولد كل صباح في عيون الفقراء على قارعة البؤس وفي نبض الأمهات الناطرات، بكامل “رجولتهن”، عودة أبنائهن من جحيم الجبهات.. وفي الوجوه الشاردة المغيّبة.. والشفاه اللاهبة التي أدمنت مذاق الشمس الصباحية وفي حارات ودعت شبابها نحو الجهة الاخرى من ليل المحاربين وفي لحظة تلتقي الأودية والشطآن والقمم حول مشروع نشيد أتى من زمن البدايات الاولى قبل أن يتبنى الأوّلون خطاب اللعنة، وفي المدن المنكشفة لصدمات الموت والفقر والإذلال وفي طابور الصباح المدرسي، وفي كمنجات الغارقين في تفاصيل حب مؤجل.. في كل شيء يولد وطنك.. فلا تتركه أسيراً داخل سلة التسويات والمقايضات التي باستحياء سمحت لك بحيز على حوافها تطل منه بنصف عين.
أيها المحارب “المعلوم” في سجلات شهدائك حتى وإن وقف العالم ضدك فإنه ما يلبث أن يصحو على ثباتك وقدراتك على البقاء فوق الأرض متمسكاً بأهدافك.
هناك حاجة الى دوزنة الأمور وضبطها وإلى تحرير العقل السياسي من “قفلة” الاعتقادات الراسخة التي تتحول الى عقائد لا تقبل التفكير حولها… فالتحالف العربي الذي يدعم وحدات عسكرية جنوبية في سياق الحرب الجارية قد يوقف دعمه يوما ما إذا لم تتواءم المواقف.. أو في سياق مفاوضات التسويات، أو في إطار شروط وإملاءات دولية من أجل سلام ما، أو مبادلة من أي نوع كانت، أو لسبب يتعلق بأي متغيرات داخل البيت الخليجي، أو لأي طارئ إقليمي خارج المتوقع، أو لأي شيء (والأشياء لو تعلمون كثيرة). فالإقليم لا يبدو بأنه يضع دولة الجنوب ضمن أهداف الضرورة الاستراتيجية وليست لديه رؤية واضحة حتى حول وضع المنطقة في المستقبل المنظور.
لهذا ينبغي أن يكون هناك إحساس عميق بالوقت والزمن وأن يتدرب الإنتقالي وغير الإنتقالي للتعامل مع الاحتمالات الصعبة والتركيز على إمكانية تطوير المصادر الداخلية لمواجهة أي تقلبات.. فالإسناد الشعبي إلى جانب “موارد الأرض والإنسان” هو الباقي والثابت الذي يعزز استقلالية القرار إذا جد الجد.
الرأي قبل شجاعة الشجعان.. ويجب أن يجتمعا من أجل وطن حرّ حين تعزّ الأوطان الحرة.
للايضاح كلمة نستالجيا هي:
نوستالجيا كلمة اصلها يونانى معناها الحرفى : نص الكلمة “نوستـ” بمعني الرجوع للبيت و “الجيا” بمعنى ألم او وجع. لكن معناها الحنين للماضي او للاهل و العشرة القديمة و احداث زمان . يعني نوستالجيا معناها حب زمان .