كريتر نت / كتب- أمين المذحجي
سيظل يوم الثامن والعشرين من ديسمبر ذكرى أليمة لكل محبي الشهيد جار الله عمر، وسيبقى عالقا في ذاكرتي أنا بالذات، ﻷن ماحدث معي فيه شئ ﻻينسى، حكاية إنسانية عاطفية روحية أقرب إلى الخيال القصصي منها إلى الحقيقة، وقد نشرتها سابقاً وأعيد نشرها مجدداً ﻷهميتها :
الحكاية بإختصار أنني كنت في ذلك اليوم أعمل مُعلماً لمادة التربية الموسيقية في إحدى مدارس أمانة العاصمة اﻷهلية الكبار إلى جانب عملي في التوجيه التربوي، وتلك المدرسة كانت تحتوي على معظم بنات السياسيين والقادة بما فيهم بنات علي عبد الله صالح وعلي محسن الأحمر وغيرهم، ومن ضمنهم أيضاً بنت الشهيد جار الله عمر، وصادف أن ساعة اﻹغتيال كانت معي حصة في نفس الفصل الذي فيه بنت الشهيد .
في الفصل كنت كعادتي أتعامل مع كل الطالبات بالتساوي بدون أي تفضيل لطالبة عن الأخرى، لكن الطالبات الموهوبات كنت أترك لهن مجال أكثر للصعود إلى المسرح للغناء أو للبقاء بجانبي في الأمام لكي يتعلمن العزف، فكانت الكثير منهن يتسابقن لكي يحضين بذلك (التمييز) .
كانت بنت الشهيد طالبة ذكية ونشطة ومؤدبة، لم تكن تُسابق على الصعود إلا حينما أطلب منها ذلك، لكن في ذلك اليوم وفي نفس اللحظة التي أُغتيل فيها والدها طلبت مني بتوسل شديد أن تقوم من مكانها لكي تجلس بجانبي في اﻷمام بدون مشاركة !
سمحت لها بذلك وسألتها عن السبب، فقالت بأن قلبها مقبوض وخائفة ﻻتعرف لماذا !
هدأت من روعها وجلّستها بجانبي وقمت بمحاولة تغيير نمط العزف بألة اﻷورج إلى مقطوعات مُسلية لكي أخفف عنها حُزنها وخوفها، وطلبت منها أن تشارك هي أيضاً، لكنها رفضت وظلت حزينة شاردة الذهن طوال الحصة.
كنت أرقبها بين الفينة والأخرى بإستغراب وأبتسم، لكنها لم تتغير !
بعدها بساعة تقريبا جأتنا اﻷخبار بواقعة الإغتيال، فكانت الصدمة اﻷولى بالنسبة لي ..تذكرت ماحدث بذهول وحزن شديد وذهبت لأبحث عن الطالبة، لكن وقت الإنصراف كان قد حان فلم أجدها.
في اليوم الثالث تقريباً جاء أخوها إلى المدرسة وأخبرته بذلك الإستشعار الذي حدث لأخته، فقال بأنها كانت أعز الناس إلى قلب أبيها، وهي أيضاً كانت أكثر تعلقاً به، عندها فسَّرت الحكاية وشعرت بأن قدماي لم تعودان قادرتان على حملي، سحبت نفسي إلى قاعة الموسيقى وجلست أبكي بحُرقة شديدة كالطفل، وظل الحزن ينتابنا كل ماتذكرت ذلك الموقف، ولم يتخفف حزني إلاعندما شاهدت يوماً منشوراً وصوراً لطالبتي وهي تحتفل بتخرجها من الجامعة بتفوق .
ذلك ماحدث أمامي بالضبط، ولم يكن هناك من تفسير له سوى أن هناك تواصلاً وعناقاً روحياً خالصاً حدث بين البنت وأبوها، حين جأت روح الشهيد إلينا وحلقت معنا في قاعة الموسيقى مودعةً أعز من تحب .
المجد والخلود للشهيد جار الله عمر .