كريتر نت / كتب- د. عيدروس نصر
قبل الاسترسال في تناول ما وددت التوقف عنده في هذه الوقفة أشير إلى أن حديثي عن الحلم الوحدوي ومفارقته للواقع لا يمثل إدانةً لهذا المشروع ولا تندراً على حملته المخلصين ولا سخريةً به وبهم، بقدر ما يمثل إقراراً بأن ليس كل حلم جميل يمكن بلوغه بمجرد الرغبة الصادقة والنية الحسنة وتقديم التنازلات الكبيرة أو حتى الصغيرة إذا لم تكن الظروف التاريخية والمادية، الموضوعية والذاتية مؤاتية لتحقيق هذا الحلم وأهم هذا الشروط وجود شركاء صادقين يتشاركون نفس الحلم ويؤمنون بمعانيه ومضامينه ويتفقون على أهدافه ويبذلون أغلى ما يملكون من أجل بلوغها، فالحلم ليس فقط حالة عاطفية معلقة في الفراغ بل إنه يظل بلا معنى ما لم يمثل حقائق ماثلة على الأرض ومصالح مشتركة لمن يتبنونه ويتقاسمون سراءه وضراءه.
وقد شاهدنا كيف تحول فشل هذا الحلم الجميل الذي أحبه أغلب اليمنيين إلى كابوس مرعب على سكان الجنوب وجزء غير يسير من سكان الشمال، وكيف غدا سببا رئيسيا من أسباب الاستقطاب الثنائي الذي أفرز مجموعة من الملامح الثقافية العدائية الغريبة التي لم يعرفها اليمنيون إلا في أزمنة الغزوات والحروب الثنائية وغالبا تلك التي تعرض لها الجنوب سواء ما قبل الإسلام أو ما بعد قيام الدولة الهادوية وورثتها.
* * *
تكتسح الفضاء الإعلامي الرقمي والورقي وحتى الإذاعي والتلفيزيوني لغة مكتظة بالسطحية والابتذال والاستخفاف وأحيانا البذاءة وانعدام اللياقة وتعميم الإدانة، وهي لغة تنم عن إفلاس ثقافي وتخلف سياسي ونزوع إلى الكراهية والإلغاء وتفضح الافتقار إلى الموضوعية والدقة وثقافة الحوار والإنصات إلى الآخر وسلوكيا هي تعني عدم القابلية للتعايش وتكرس المزيد من العدائية القبيحة التي ستحتاج إلى عقود وربما قرون لمعالجة تبعاتها.
وتساهم وسائل التواصل الاجتماعي التي لا تحكمها ضوابط ولا تنظمها قيود، ومعها وسائل الإعلام الفضائية الحديثة، تساهم في ترويج هذه الثقافة وتوسيع نطاقها وصناعة رأي عام مشوه مما ينتج العديد من المواقف والسلوكيات المنحرفة، لكن علينا أن نميز بين مواقف الأفراد الذين لا يتمثلون منهجاً سياسياً محدداً ولا يخضعون لضوابط ومعايير مؤسسية واضحة، وبين المواقع والمراكز والوسائل الإعلامية المعبرة عن أطراف سياسية معروفة بمواقفها وبرامجها السياسية واتجاهاتها الآيديولوجية.
تعود البدايات الأولى للشحن الثقافي العدائي وتكريس ثقافة الكراهية على أساس ثنائية الشمال ـ الجنوب إلى ما بعد 7/7 / 1994م حينما صار المنتصرون في الحرب الظالمة على الجنوب هم أصحاب الحق الوحيد في احتكار مفردات “الوطنية، والوحدوية، والوفاء والانتماء” وصار المهزومون هم “الخونة والعملاء والانفصاليون”، وصارت مفردة جنوبي تعني كل هذه المفردات الممقوتة ومفردة شمالي علامة تميز وتفوق وعلو على ما عداها، ولا يمكن أن ينسى الجنوبيون تلك الحملة من حرب الإرهاب النفسي التي تعرضوا لها بعد تلك الحرب العدوانية حتى صار الكثيرون يترددون في إعلان انتمائهم إلى الجنوب حتى لا تلصق بهم تلك النعوت الممقوتة، بل وتنازل الكثيرون منهم عن مستحقات مشروعة لهم حتى يتجنبوا الوقوع تحت طائلة الاتهام والتشهير.
لم تتوقف هذه الحملة ولم يكف أصحابها عن مواصلتها وتكريسها رغم كل المتغيرات العاصفة التي شهدها ربع القرن المنصرم منذ تلك الحرب المقيتة، بل لقد اكتسب أبعادا وتمظهرات مختلفة تحاول التكيف مع ما طرأ على الساحة من عواصف ولكن باتجاهات تكرس نفس لغة وأهداف 1994م
ذلك ما سأتوقف عنده في منشور لاحق.