بقلم / مسعد عكيزان
أولا / النص:
( سراب )
تفر من أصابعي
فلا أرى سوى الردى
تقودني غمامة
من الضجر
تطوف حيث لا أحد
هناك ،
اخر المدى البعيد
والنهاية ..
تفر من أصابعي
حمامة
مارد يبعثر السحابة
التي ترتب الفصول
هنا انكسار العمر
ياحبيبتي
و من هنا
تغادر الطيور
و تقرع الطبول
بيتي العتيق
الف مرة تهدم
تفر من أصابعي
تفر من مخالبي
فاندم
اطارد السراب
نحو بلدة
بلا قمر
وحقلها المعفر الدميم
يطارد الشجر
تفر
من
الى
متى
و اين
هل
وكيف
لو
ت ن ا ث ر ت
الملم الهواء
و أرتجي المطر
تنز من وريدي الدموع
ياحبيبتي ،
و لم أر اخضرارها
تفر من صغارها
و من دوائر الخليل
و هاجس عليل
هده السهر
تمر من أمامه
فيرتجف ..
أخاف ..
كم أخاف
لو ،
دواتنا تجف !
(( وجدت ان الباء
لايقوى على حمل الحقيقة
و الحروف جميعها عوجاء
و ان وقف الالف )) *
تفر من أصابعي
ولن تطالها
* إذا زلزلت الأرض
زلزالها *
اثبت وقف
ـــــــــــــــــــــــ
* ما بين القوسين مقطع
من قصيدة للشاعر :
عبدالحكيم الفقيه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثانيا / القراءة:
سراب..
عتبة النص المتكئة على حالة ضبابية غير مادية تعكس الحالة الوجدانية التي تمخض عنها النص، وشعور الفقد الذي يتأرجح فيه السياق مظهرا شعور الخواء الذي يكتنف الجو العام للنص.
تفر ـ تقودني ـ تطوف ـ تغادر ـ يفر ـ تنز
جميعها أفعال مضارعة جاءت استهلالية للعديد من الفقرات كتأييد للاستمرارية والمداومة وجزئيات عند جمعها إلى بعضها تتشكل البنية التي يعرضها الناص في سياقه من خلال تتبع الدلالات لهذه الأفعال المتكررة بوتيرة متضاربة وبإيقاع متلاحق يشي بماهية المعنى الإجمالي.
ورديف لتلك الأفعال ياء المتكلم (ثيمة النص) والأرضية التي بني عليها السياق كسيرة ذاتية لمعاناة داخلية تتأجج نارها.
الردى ـ الضجر ـ النهاية ـ انكسار ـ تهدم ـ أخاف
جميع هذه المفردات تحمل دلالة واحدة هي المعادل الموضوعي والنتيجة المتوقعة للفعل الحدث الحالة التي تسيطر على الناص وتحيله إلى ما نشهده من خلال هذه المتوالية من الحالات السوداوية.
وكإحالة لذلك نرى تكاثف الحيرة والتخبط بحثا عن طريق، نشهد ذلك في المتوالية لحالات الاستفهام المتراصة كتكثيف وإبراز لبلوغ (الناص /الأنا) إلى سديم معتم يكتنف الحالة النفسية محيلا التفكير إلى عدمية تتخبط في فراغ لا حدود له حاملة معها حالة من الخوف الذي يسيطر على ذهنية الناص من التكلس القاتل . وإحالة أخرى لحالة التبعثر التي نالت المفردة (الرديف الرمزي للحالة) تجسيد لتلك النقطة التي وصل إليها.
من
الى
متى
و اين
هل
وكيف
لو
ت ن ا ث ر ت
صور للتشظي الذي يمثل من خلال جزئيات سطت على الجو العام للنص وتكاثفت هنا لتبرز دلالاتها بوضوح يترجم أكثر الرمزية التي تكاد أن تفلت من يدك كلما حاولت أن تلملم خيوطها لتجمعها في نسيج يكشف عن كنه مادة تلك الخيوط عند جمعها.
الضمير الغائب للأنثى يطالعك هنا وهناك في كل مقاطع النص ليضع أمامك الكثير من الأسئلة في رحلة البحث عمن تكون تلك المخاطبة؟!
أهي الحبيبة؟ !
أهي أنثى مجازية من جنس آخر؟!
تفر من أصابعي.. سياق تأويلي يمنحك الكثير من التأويلات غير أنها لا تفي بالغرض طالما بقيت في خانة الفرضيات غير المؤكدة، والتي تجبرك في الاستمرار والبحث عن المزيد..
لتظهر في نهاية المقطع الأول أولى الملامح
تفر من يدي حمامة!!
لكنها ما زالت ترتدي جلباب الكناية الذي يجعل المهمة أصعب.
لا يلبث ذلك المدلول أن يتحول إلى صورة أخرى،
فها هي (الحمامة) قد استحالت إلى (سحابة)
ربما تكون الأخير كناية من نوع آخر تخفي خلفها غير ما نسعى إليه فها هو الخطاب التالي يتجلى أكثر (يا حبيبتي)
ولكن قد يكون ذات السياق يحمل ازدواجية مبنية برمزية التشتيت التي تحيلك في كل مرة إلى نقطة البداية.
تستمر مراوغة الرمزية المستعصية وصولا إلى المقطع الخامس وخصوصا عند الفقرات التالية:
تفر من صغارها
و من دوائر الخليل
و هاجس عليل
هده السهر
تمر من أمامه
فيرتجف ..
هنا يفصح الخطاب عن مكنوناته ويهديك أول مفاتيح رمزيته العصية.
إنها القصيدة تلك التي يخاطبها ويمنحها كيانا ماديا لقربها من وجدانه وحضورها لديه فيتحسر منذ اللحظة الأولى لفرارها منه ومقاطعتها له، ويخاطبها أكثر من مرة بالحبيبة لشدة تعلقه بها وقربها إلى نفسه.
ونتيجة لتلك الحالة من الهجر والصدود تتملكه حالة من الخوف والفزع من الخسارة والفقد:
أخاف ..
كم أخاف
لو ،
دواتنا تجف !
مبينا بالإسقاط المستوحى من مادة نص آخر فعل الخوف الذي يسيطر عليه كيف أنه يكاد يفقده المقاومة والقدرة على احتمال ما يعانيه في ظل غيابها.
يقول نزار قباني في قصيدته الملحمية “بلقيس”
أخذوك أيتها الحبيبة من يدي
أخذوا القصيدة من فمي
وبصورة رمزية محكمة أيضا جاءت قفلة النص تصف الحالة الشعورية والموضحة علاقة الشاعر بالقصيدة حال حضورها وغيابها أيضا وثقته الحبيب بمحبوبته التي تمنحه القدرة مجددا على احتمال غيابها إلى حين لحظة إيابها المرتقبة.
الأربعاء 5 فبراير 2020 م