قدم الباحث محمد ناصر العولقي ورقة عمل في المناظرة البينية التي نظمتها اليوم الأربعاء دائرة البحوث والدراسات للأمانة العامة لهيئة رئاسة المجلس الانتقالي الجنوبي تحت عنوان : ( من أجل فهم أعمق للخصوصية المجتمعية وعوامل الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي ) .
نص الورقة
خصائص التجمعات السكانية في مديريات محافظة أبين
( جعار مدينة الوحدة الوطنية الجنوبية أنموذجا )
محمد ناصر العولقي
أبين محافظة هامة من محافظات الجنوب تتميز بموقع جغرافي في قلب الجنوب وتبلغ مساحتها حوالي ( 19153 كم2 ) تتوزع على إثني عشر مديرية، أكبرها مديرية خنفر (2199كم2) وأصغرها مديرية رصد (198كم2) .
ويبلغ عدد سكان أبين وفقا للإسقاطات السكانية لعام 2019 م حوالي 651.078 نسمة ، منهم 327.302 ذكورا و 323.776 إناثا .
وتتنوع تضاريس محافظة أبين بين جبال في أطرافها الشمالية وهضاب في وسطها وسهول ساحلية طويلة في أطرافها الجنوبية وهي تنقسم إلى نوعين : مناطق جبلية ومناطق سهلية وساحلية، وهو تنوع ذو أثر في حياة السكان وأسلوب حياتهم ومزاجهم وتراثهم الشعبي وميولهم في اختيار المهن والأعمال وبالطبع علاقاتهم الاجتماعية ووعيهم وثقافتهم .
ومن حيث المناطق الجبلية فهي تتركز في الشمال والشمال الغربي للمحافظة وتعتبر مديريات رصد وسباح وسرار من أكثر المديريات من حيث تضاريس سطحها تتمركز الجبال والمرتفعات فيها ذات الانحدارات الشديدة ومستوى سطح مديرية رصد في الارتفاع مابين (2000-2300)متر فوق مستوي سطح البحر وأشهر الجبال فيها جبل أرحب (2166)متر جبل يثوب في مديرية سباح وجبل أجرم (2350م) وجبل القارة والمطور وجميعها في مديرية رصد كذلك جبل الحمر(2044م) وجبل البدا (1952م) جميعها في مديرية سرار وفي مديرية لودر توجد العديد من الجبال أهمها جبل ثرة الذي يزيد ارتفاعه عن (2000م) وجبل كيران (1889م) وفي مديرية الوضيع جبل المشرافة (1304م) وجبال يبور والوكر وردوم ، وفي مديرية مودية جبل وجر (1262م وإضافة الى ذلك توجد بعض المرتفعات المتفرقة في الأجزاء الجنوبية من المحافظة ومن أهمها جبال العريس المراقشة والمكيل.
أما المناطق السهلية والساحلية فيمثل الجزء الجنوبي للمحافظة شريطا ساحليا يمتد من الطرف الغربي للمحافظة حتى طرفها الشرقي في الحدود مع شبوة وينتشر على هذا الشريط الكثير من التجمعات السكانية أهمها مدينة شقرة ومدينة أحور ويعتبر هذا الشريط من الشواطئ الجميلة والجاذبة المطلة على البحر العربي ، ويوجد العديد من القيعان والسهول في المحافظة أهمها قاع الكلاسي وقاع امعين وقاع الحاق .
وتعتبر دلتا أبين في مديرية خنفر أكبر منطقة زراعية إذ تبلغ مساحة الأرض الزراعية فيها حوالي 80 ألف فدان ، ونتيجة لعوامل كثيرة كانت هذه المنطقة في التاريخ الحديث والمعاصر مركز جذب للهجرات الداخلية إليها من كل مناطق الجنوب ، ويشكل نسيجها الاجتماعي المتنوع موضوعا هاما لدراسة مكونات الهوية الجنوبية وخصائصها وتشكلها .
ملامح عن حياة المجتمع في أبين في التاريخ الحديث
في التقارير العسكرية البريطانية ومؤلفات الرحالة الأوروبيين بعض المؤشرات التي تبين ملامح من حياة المجتمع في أبين في التاريخ الحديث والمعاصر ، ومن ذلك ما أورده النقيب البريطاني ستيفنز في مطلع ستينيات القرن التاسع عشر عندما زار منطقة خنفر ووصفها بأنها بلد ذو مياه عذبة وغزيرة وأرضها الزراعية جيدة الخصوبة ، وذكر أن جبل خنفر الذي يتوسط البلد يوجد على سطحه خمسة أو ستة قصور أو قلاع مبنية من الحجر والطين وأن (واحد أو إثنان منهم يظهران علامات من العصور القديمة العظيمة) ، كما تورد إحصائية عن عدد رجال القبائل التي حول عدن كتبت في يونيو 1872م أن عدد الرجال في خنفر 500 رجل …
ويذكر التقرير العسكري البريطاني السنوي لعام 1872م أن مدينة العصلة – حاضرة السلطنة الفضلية حينها – كان فيها 600 بيت من اللبن و20 كوخا و5 آبار غزيرة و15 متجرا .
ويستعرض الرحالة المؤرخ البريطاني ثيودور بنت وزوجته مابيل، في كتاب (جنوب الجزيرة العربية) الصادر عام 1900م بعضا من مظاهر الحياة في أبين من وحي زيارتهما لمناطق خنفر والدرجاج ويرامس ولودر وشقرة عام 1893 وهما في طريقهما الى حضرموت ومن بين ذلك وصف المهرجان الكبير الذي أقيم في خنفر أثناء الزيارة السنوية لولي من أولياء الله الصالحين ( عبدالله بن علي ) بجانب جبل خنفر وتجمع الأهالي في الزيارة والتنظيم الذي كان عليه الاستعراض وتخييم الزائرين ولباسهم الشعبي وطبيعة المجتمع البدوية وحياتهم البدائية وهو ما يظهر في عدد من الصور التي التقطها الزوجان بنت عند مرورهما بالدرجاج والمسحال وزارة وبدا الأشخاص في الصور شبه عراه وخصوصا الأطفال سواء أكانوا ذكورا أو إناثا الى سن الثانية عشر ، كما لم تخل بعض الصور من إشارات توحي بحياة الاستقرار في بعض المناطق مثل صورة التقطت لفرن في الدرجاج وصور أخرى لقصور ومنازل في الدرجاج وشقرة وخنفر .
وذكر الرحالة الهولندي الكابتن فان در ميولين عن زيارته الى بعض مناطق أبين عام 1939م : ” انطلقنا إلى زارة, ومن ثم إلى لودر, وقد حظينا بترحيب واستضافة جيدة في منطقتي زارة ولودر ” , وقال أنه رأى في المنطقتين اليهود يعيشون وسط العرب, وأن الحي اليهودي مكون من ثلاث عشرة عائلة, يسكنون معًا, ومنازلهم مثل منازل عرب لودر, ويعمل بعض هؤلاء اليهود في صياغة الفضة, ونساؤهم لا يقمن بالأعمال الشاقة في الحقول مع الماشية مثل أخواتهن اللودريات, وبالنسبة لعقيدتهم اليهودية استطاعت تلك الأسر اليهودية – التي يكاد يطوقها المسلمون – أن تحافظ عليها, ولم يخضع أو يضطهد أهل لودر إخوانهم اليهود .
وقال عن منازل لودر عاصمة سلطنة العوذلي بأن بعضها مبنية بالحجر, أما معظم مبانيها فمصنوعة من أغصان جافة وأعشاب مربوطة مع بعضها (عريش), وأن في المدينة مسجدين .
إن هذه الإشارات المتناثرة هنا وهناك تشكل انطباعا عن حياة المجتمع في أبين في العصر الحديث وطبيعة تكوينها القبلي والبدوي مع وجود بعض حياة الاستقرار والتمدن في بعض مناطقها وتعتبر بمثابة خلفية لملامسة وفهم التطورات اللاحقة في المجتمع ، كما سنجد فيها مؤشرات الى الرغبة في الانفتاح وحياة التسامح والتعايش مع الآخر وتنوّع مكونات النسيج الاجتماعي للمجتمع الأبيني قبليا وعرقيا ودينيا وطبقيا وأسلوب حياة .
كانت معيشة المجتمع في أبين تقوم على طريقة التبادل العيني؛ مثلا العمل مقابل الحبوب في ظل شحة النقد المتداول وفقر المجتمع بشكل عام، ولم تكن هناك تقريبا من وظائف ومهن حكومية سوى في جبي العشور ( الضرائب) وعسكر السلطان واعتمد السكان على الزراعة ورعي وتربية الماشية وصيد الأسماك في توفير متطلبات حياتهم المعيشية وتوزعت المهن كذلك على الحرف وتجارة الفحم ( السود) وأعمال البناء والحدادة وبجانب ذلك كانت منطقة أحور مكانا هاما لتجارة العبيد ومن هنا جاء المثل الشعبي الأبيني : راح الى أحور وجاب عبد أعور .
ويرتبط بداية التحول الحقيقي في حياة المجتمع في أبين بدخول الإنجليز الى المنطقة في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي ، وقد لعب هذا العامل دورا جيدا في إحداث حراك في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية عموما إما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وكلما قربت مسافة المنطقة الأبينية من عدن فقد كان ذلك في صالح نسبة حظها من التحديث والمدنية والتحضر والتطور مقارنة بالمناطق الأخرى الأبعد مسافة عن عدن .
في عام 1942م بدأ التعليم النظامي الحديث في أبين بافتتاح مدرسة ابتدائية في منطقة شقرة كثاني مدرسة ابتدائية يتم إنشاؤها في المحميات الغربية، وفي نفس العام بدأ مشروع تنمية خنفر الزراعي في السلطنة الفضلية بقرض من حكومة المحميات في عدن بلغ 10000جنية إسترليني لتغطية شراء ثيران للحراثة، وشراء بذور وأعلاف للماشية وتم استصلاح حوالي 700 فدان في السنة الأولى ، وخلال السنوات الأربع من وجود المشروع تم استصلاح مساحة من الأراضي الصحراوية والأدغال شبه المهجورة تقترب من 5000 فدان ، وفضلا عن الفائدة الاقتصادية ومردود هذا المشروع المادي على السكان المحليين ،فقد كان من أبرز فاعلية المشروع على المستوى الاجتماعي أنه فتح الباب كثيرا لأبناء السلطنات والمشيخات التي كانت متواجدة في أبين للامتزاج والتعايش معا في مكان واحد بعد أن كانت أواصر التعايش والاختلاط شبه مقطوعة بينهم وكل مجتمع يعيش في بقعة محصورة في إطار سلطنته أو قبيلته أو مشيخته وذلك أن كثيرا من أبناء المناطق في سلطنات العوالق السفلى ودثينة والعواذل ويافع انتقلوا من مناطقهم للعيش في مناطق المشروع في السلطنة الفضلية بحثا عن فرصة عمل أو مجال تجارة أو تربية مواشي وأصبحوا جزءا من السكان المحليين، وبدأ النسيج الاجتماعي في المنطقة يشكل نواة لمجتمع محلي أبيني وتتلاقح فيه عادات وتقاليد وتراث شعبي وثقافة شعبية وأساليب حياة متنوعة ، وتتقارب فيه أنفس وقلوب كان يفرقها التباعد والانعزال والحروب القبلية على الماء والكلى .
وكانت القفزة الحضارية والاقتصادية والاجتماعية الكبرى في حياة مجتمع أبين هي تأسيس لجنة أبين الزراعية المشتركة بين السلطنة الفضلية واليافعية عام 1947م .
يذكر المؤلف والصحفي العالمي آيدن هرتلي في كتابه ( سحارة زنجبار ) أن والده براين هرتلي وصديق والده بيتر ديفي ( عبدالله ديفي ) قد جاءا الى أبين عام 1938م وكانت أبين يومها شبه صحراوية وكانت حروب المياه بين السلطنتين اليافعية والفضلية على أشدها، وتعقدت الى حد لا يوصف وفي الملف الضخم الخاص بدلتا أبين المحفوظ في مكتب الحاكم البريطاني في عدن وجدت ملاحظة تقول : لا توجد طريقة بتاتا لحلحلة الموقف سوى أن يلقى الجميع حتفه !!!
بدأ هرتلي وصديقه ديفي بالتجربة الأولى لإحلال السلام والتعايش من خلال مشروع تنمية خنفر في السلطنة الفضلية المشار إليه آنفا وبعد نجاح المشروع اقتصاديا وإعطاء نتائج مثمرة اجتماعيا وأمنيا في إحلال السلام نسبيا في المنطقة تم الشروع في المشروع الأكبر ( لجنة أبين الزراعية) .
أنشئت لجنة أبين بقرار من الحاكم البريطاني لعدن وتشكل مجلس الإدارة برئاسته وعضوية مدير الزراعة في المحميات الغربية براين هرتلي الذي أصبح مديرا تنفيذيا للجنة أبين إضافة الى عضوين آخرين يمثلان السلطنتين الفضلية واليافعية ، وتم منح المجلس سلفة مالية 300 ألف جنيه إسترليني من الحكومة البريطانية لاستصلاح الأراضي وبناء القنوات والسدود وشق الأعبار وإقامة نظام الري ، وكانت الافتراضات إنه إذا تم بناء، سد وادي بناء ووادي حسان فقد يفتح ذلك احتمالات كبيرة لاستصلاح أكثر من 25 ألف فدان ، وهو ماتم فعلا وأصبحت أبين خلال فترة 3 سنوات من بدء المشروع واحات خضراء تحوي الخضروات والمأكولات والأعلاف وقطن طويل التيلة للتصدير ، وبلغت قيمة القطن المصدر في السنة الأولى لزراعته حوالي 600 ألف جنيه إسترليني يستلم المزارع 50 % من محصوله، ويقسم النصف الباقي بين الحكومة مالكة الأرض ولجنة أبين .
ومع نجاح المشروع تم في مطلع عام 1953م تقديم قرض آخر للجنة أبين بمبلغ 270 ألف جنيه إسترليني عن طريق مدير الزراعة جفري كلاي ، وقد ارتفعت مساحة الأراضي الزراعية المستصلحة لتصل الى 45 ألف فدان عام 1954 م كما ارتفع إنتاج القطن الى ما قيمته مليونين ونصف المليون جنيه إسترليني .
في هذه الأثناء كانت مناطق أخرى في أبين تشهد تحولات سياسية وحضارية جديدة ، ففي دثينة تم تشكيل اتحادا من القبائل التي لم تكن ضمن حكم السلطنات المجاورة لها ، ودعم المعتمد البريطاني سيجر توسيع هذا الاتحاد ليشمل قبائل أخرى محيطة وتأسست جمهورية دثينة عام 1953م كأول جمهورية في الجزيرة العربية وكان لها برلمان ودستور ، وانخرط عدد كبير من أبناء دثينة في جيش الليوي والأمن التابع لحكومة المحميات ، كما تم استحداث مجلس للسلطنة في سلطنتي الفضلي واليافعي مكون من نائب للسلطنة ومديري الإدارات وشخصيات ووجاهات عشائرية وضباط سياسيين وتشكيل سكرتارية وإنشاء محاكم عرفية وشرعية، وبدأت إدارة الحكم في السلطنات تتخذ طابعا أكثر تنظيما وبيروقراطية من حيث عقد الاجتماعات المنتظمة وتدوين المحاضر وإصدار القرارات في جميع نواحي الحياة وكمثال على ذلك التطور القانوني والإداري فقد صدرت قوانين تنظم عملية صيد الطيور والضرائب وتحدد مهر الزواج ( في سلطنة العواذل وآل فضل) بل صدر قانون في دثينة يحدد بالتفصيل الأثاث المنزلي الذي يجب على الزوج توفيره لمنزل الزوجية .
وفي مجال التعليم فقد بدأت حركة نشطة في افتتاح المدارس الابتدائية حيث افتتحت مدرسة ابتدائية في زنجبار للبنين والبنات في نهاية أربعينيات القرن الماضي، وكتشجيع للأهالي لإلحاق بناتهم بالدراسة فقد بادر أعيان ووجهاء السلطنة الفضلية لإلحاق بناتهم بالصفوف الدراسية ، وفي عام 1952 م افتتحت مدرسة ابتدائية في جعار ومدرسة أخرى في الحصن ثم افتتحت مدرسة ابتدائية في الرواء عام 1954 م، ثم في باتيس عام 1956م ، كما افتتحت المدارس الابتدائية في لودر ومودية وأحور ، وأخذ المجتمع في مناطق أبين المختلفة نتيجة للتعليم يتعرف على مهن ووظائف أخرى الى جانب الراعي والرعوي والعسكري والخراز والنجار هي المدرس والكاتب والأردلي والصراف والمحاسب والمرشد الزراعي وغيرها من الأعمال التي تشترط التعليم والمعارف العلمية .
إن هذا المسار التنموي والحضاري والاجتماعي الذي استجد على الواقع في أبين وكان ثمرة الوجود البريطاني في المنطقة كان يجاوره مسار آخر على المستوى النضالي والتحرري رافض لهذا الوجود ومقاوم له ولهيمنته ، وقد ساهم هو الآخر في وحدة وترابط النسيج الاجتماعي وتشكيل وعي وطني جنوبي متطلع للحرية والاستقلال .
وعلى هذا الصعيد يمكن التطرق الى بعض من مفردات هذا المسار من خلال استعراض سريع لحركات المقاومة والتمرد والاحتجاج ، ففي سلطنة العوالق السفلى يذكر د. علوي عمر بن فريد أن الثوار من قبائل العوالق السفلى (باكازم) قاموا بدور بارز في مقاومة الاستعمار البريطاني وخصوصآ القبائل التي تسكن أطراف المحفد والأودية الشمالية لأحور إذ كانت هذه القبائل لا تعترف بالحكومة البريطانية التي لم تصلها سلطة السلطنة, وكانت بداية ذلك عام 1934حيث قامت ثلاث طائرات بتحليق منخفض فوق مساكن قبائل آل باعزب في وادي مريع,فقام مجموعه من المقاتلين من آل باعزب بإطلاق النار عليها وعندما شعر الطيارون بإطلاق النار عليهم أخذوا صورا للمنطقة وعادوا فورا بطائراتهم إلى عدن، وبعد خمسه أيام من الحادث عادت للتحليق 26 طائرة حربية ورمت فوقهم إنذارات مكتوبة تطالب عقال المنطقة بالمقابلة في مدينة يشبم في منزل السيد محمد بن علي الجفري فذهب وفد من عقال المنطقة بقيادة الشيخ مقبل بن سالم باعزب إلى قرية يشبم وقابلو الضابط السياسي “هاميلتون”بحضور السيد الجفري,والسيد محمد صالح العمودي وقال هاميلتون لآل باعزب:الحمد لله المشكلة انتهت, بشرط إلا تعودوا لمثلها.فرد عليه شيخ آل باعزب قائلا: “وانتم بشرط ألا تحلق طائراتكم فوقنا.”.
فضحك الضابط السياسي ساخرا وقال : “هؤلاء لا زالوا مغرورين حمقى”.
ومنذ ذلك اللقاء تصاعد العداء بين البريطانيين وقبائل العوالق السفلى واشتعلت الثورة ضد القوات البريطانية التي حاولت السيطرة على مناطق الأطراف للمحفد والمناطق الشمالية لمدينة أحور ومحاولة اختراقها للوصول إلى العوالق العليا ولكن تلك القبائل رفضت الانصياع للحكومة البريطانية,وكانت قبائل باكازم قد تأثرت بالثورة المصرية وبالفكر الناصري التحرري ولهذا دارت أعنف معارك في الفترة من 1954-1966م حيث قامت القوات البريطانية بشن أعنف الغارات بواسطة سلاح الجو الملكي البريطاني ومنها :
عام 1954 قام سلاح الجو البريطاني بقصف قرية ( الجازع) وهي إحدى قرى مديرية المحفد وتم تدميرها
وعام 1954 قام سلاح الجو البريطاني بقصف قرية (صندوق)
وعام 1957 قام سلاح الجو البريطاني بقصف وادي (مريع )كاملاً وقرية الرباط
وعام 1957 قام سلاح الجو البريطاني بقصف منطقة ( لودية)
وعام 1958 قام سلاح الجو البريطاني بقصف منطقة (لودية) للمرة الثانية .
وعلى صعيد المعارك البرية قام أبناء باكازم بمهاجمة الدوريات الانجليزية التي تمر بأراضيهم ، ومن ذلك :
في عام 1949 توجهت دورية من القوات البريطانية عن طريق حبان /شبوة إلى أن وصلت منطقة عراض واعترضها ثوار قبيلة باكازم وردوها على أعقابها وتم قتل (4)جنود من هذه الدورية
في عام 1954 توجهت دورية بريطانية بقيادة والي عدن وفي وادي (ضيقة) تم اعتراضها من قبل ثوار باكازم
في عام 1954 توجهت دورية بريطانية بقيادة الضابط الإنجليزي المستر (بني) إلى عقبة أعراض وتم اعتراضها من قبل رجال باكازم وقتلوا منهم (6)جنود وعادت تلك الدورية من حيث أتت .
وفي عام 1960 توجهت دورية بريطانية بقيادة الضابط (تون) إلى منطقة لودية وتم اعتراضها وقتل (4) جنود .
وبعد ذلك تلتها قوات برية تحركت من عدن بقصد المرور في أرض العوالق السفلى وعندما وصلت الى منطقة “عراض” اعترضها عدد من الثوار من آل باكازم ودارت معركة عنيفة بين القوات البريطانية وثوار باكازم وقتل فيها ثمانية جنود من قوات الحكومة وأصيب سبعة واستشهد من الثوار إثنان وجرح ثلاثة,و أجبرت القافلة على التراجع إلى مدينة المحفد وبعدها غادرت إلى عدن, ولم تتوقف حملات الثوار ضد الوجود البريطاني في المنطقة رغم شح الإمكانيات حتى خرجت بريطانيا في 30 نوفمبر1967م من الجنوب .
وفي دثينة كانت هناك مقاومة أخرى للوجود البريطاني بقيادة الشيخ سالم صالح الفطحاني الذي قال بيته الشعري المشهور معايرا مجلس دثينة :
يا ذي احتكمتوا عظم الله أجركم
محنا و ( سيجر ) بيننا للآخرة
كما قامت في أثناء ذلك انتفاضة الدماني في العواذل ، والفضلي، وفي دثينة كان المناضل الكبير السيد ناصر علوي السقاف منصب دثينة ومحمد ناصر الجعري ومعهم 700 من رجال القبائل قد تمردوا وبدأوا نضالا تحرريا وعسكريا ضد بريطانيا، وفي يافع السفلى قامت ثورة السلطان محمد بن عيدروس التي كان صداها واسعا ووصل الى لحج، وتعرضت منطقة القارة عاصمة يافع السياسية لغارات عنيفة شنها سلاح الجو البريطاني .
كان ذلك الوعي والنضال التحرري بتأثير من توسع التعليم والنشاط السياسي لحزب رابطة أبناء الجنوب الذي تغلغل حضورها بواسطة المدرسين الرابطيين الذين كانوا أوائل من قاموا بتأسيس النظام التعليمي الحديث مثل عبدالله أحمد الفضلي وعبدالله بن شهاب وعبدالله الجفري كما كان للثورة الناصرية وزعيمها الراحل جمال عبدالناصر التي وصل صداها عبر إذاعة صوت العرب أثر كبير في بعث الحماسة الوطنية والوعي التحرري في أبين وفي الجنوب عامة .
وعندما بدأ النشاط الثوري والتحرري المنظم مع تأسيس حركة القوميين العرب ثم الجبهة القومية ومنظمة التحرير وجبهة التحرير ازدادت وتيرة العمل السياسي والكفاحي التحرري وبرز قادة جدد مثل عبدالله المجعلي وعبدالله قديش وسالمين ومقبل وحسين الجابري ومحمد علي هيثم وعلي ناصر محمد وجاعم ومطيع وغيرهم وغيرهم وتأسست الخلايا الثورية في كافة مناطق أبين .
ولعل هذه اللمحة تمثل قاعدة هامة تلقي الضوء على طبيعة ظروف المجتمع في أبين والعوامل التي ساهمت في تغيير مظاهر معيشته وأسلوب حياته ومكونات نسيجه الاجتماعي عموما ، وتبين ملامح أبين كمنطقة يمتزج فيها البناء الحضاري والتنموي مع النضال والكفاح التحرري وكلاهمها قد أسهما في تشكيل وعي وطني جنوبي ومجتمع ذي خصوصية في إطار هوية جنوبية كانت ناشئة حينها .
إن سكان أبين بشرائحهم وفئاتهم وانتماءاتهم المناطقية والسياسية والاجتماعية المختلفة منصهرون في نسيج اجتماعي متماسك ، إنهم هم عماد التنمية والبناء الحضاري وهم شعلة النضال والتحرر في آن واحد .
جعار مدينة الوحدة الوطنية الجنوبية
مدينة جعار هي كبرى مدن محافظة أبين وعاصمة دلتا أبين ومديرية خنفر قلب المحافظة تبعد بمسافة 55 ميلاً من الشمال الشرقي من عدن ، وتشكل المدينة أكبر تجمع سكاني في المحافظة إذ يقارب عدد قاطنيها المئة ألف نسمة تقريبا غالبيتهم من دون سن الأربعين.
في عام 1942م كانت المدينة عبارة عن محلة صغيرة من ستة أكواخ مقامة حول قبر ولي الله الصالح ( أبوشملة) وتسكنها خمس أسر تتولى خدمة مقام الولي بوشملة خدمة والاهتمام بمريديه وزوار قبره ، وحينها جاء المهندس الزراعي الإنجليزي والضابط السياسي ومدير الزراعة في المحمية الغربية لاحقا المستر براين هرتلي واختار جبل خنفر موقعا لمباني ومنشآت مشروع لجنة أبين الزراعية ومقرا للجنة ، وبدأت عمليات استصلاح زراعي كبير للأراضي في دلتا أبين فارتفع عدد البيوت في جعار عام 1948م الى 500 كوخ وكان فيها جامع بناه جماعة من المحسنين منهم الموظف العدني بإدارة لجنة أبين الزراعية خالد عثمان عبد الله ويسمى المسجد هذا باسم ( مسجد خالد ) وفيها عدة قهوات ومطاعم وفرن يملكه المواطن عبد القادر علي بن علي وهو من الشيخ عثمان ، وفي جعار يومئذ عيادة صغيرة تحت إشراف الفاضل حسن محسن اليافعي معدل روادها 32 شخصاً يوميا ( فتاة الجزيرة – 30 مايو 1948م ) .
كان سكان جعار قد توافدوا من جميع مناطق أبين بل من ( جميع القبائل العربية الجنوبية ) وفقا لتقرير نشر في مجلة حولية ميناء عدن – عدد عام 1953م ، وقد وزعت لهم الأراضي لاستصلاحها وزراعتها بمساعدة وقروض من لجنة أبين على أن يقوم المزارعون بتسديدها من قيمة محاصيلهم وعلى الأخص القطن طويل التيلة .
السكان الأوائل كانوا من عدن كموظفين في لجنة أبين ومن يافع ومن العوالق ومن دثينة والعواذل من الذين قامت بريطانيا بمنحهم التقاعد المبكر من الخدمة في الجيش والأمن ودفعت لهم حقوقهم كاملة ليقوموا باستصلاح الأراضي لصالحهم ، كما جاء آخرون من حضرموت والحواشب وردفان والصبيحة وبيحان ومن لحج والوهط، وقد وصلت إلى جعار في 18 /5 /1948م ست عائلات من سادات الوهط وبعض بيوت لحج المشهورة أمثال آل سفيان والعزيبة والسلامي وغيرهم من الشقعة وضواحي لحج أما العائلات التي وصلت فهي :
عائلة السيد عيدروس بن زين .
عائلة السيد محمد بن زين .
عائلة السيد عبد الله بن جعفر .
عائلة السيد عبد الله بن محمد .
عائلة السيد حسن بن جعفر .
عائلة السيد عيدروس بن محمد زين .
ومن الشخصيات التي قدمت عبد الحميد بن غالب بن علي من آل العزيبة وقد جاء الفوج الأول بصحبة الشيخ درويش بن أحمد عمر العزيبي مع 300 شخص وسكنوا في ( الرميلة ) وأقطعهم السلطان عيدروس العفيفي سلطان يافع بني قاصد أراضي بالاشتراك معهم ومن أقرباء درويش أولاد عمه علي بن ناصر العزيبي وعلي بن أحمد العزيبي ومحسن بن علي العزيبي .
كما جاء العمال الزراعيون من أحور والواحدي وحجر ولحج ومن تهامة بالمئات وارتفع عدد سكان المنطقة في عام 1951م الى ثلاث أضعاف ماكان عليه عام 1948م .
وهكذا تأسست ونشأت مدينة جعار من مزيج سكاني قادم من عدن ويافع ودثينة وأحور والعواذل ولحج والفضلي والعوالق وحضرموت وغيرها من مناطق الجنوب إضافة الى من جاء من خارج المحميات الجنوبية باحثا عن فرص العمل والحياة المستقرة الآمنة وكان ذلك بإشراف الإدارة البريطانية التي ( أشرفت على جعار قبل ست سنوات ) من عام 1948م .
ولقد أسهم الإشراف الإداري البريطاني على تأسيس مدينة جعار في تنظيم المدينة وتأسيس نظام ري متطور وحديث وتخطيط المدينة تخطيطا حضريا متقدما قياسا الى غيرها من مناطق الجنوب فقد كانت جعار المدينة الوحيدة في المحميات الجنوبية تقريبا ذات شبكة صرف صحي حديثة ووصل عرض بعض الشوارع فيها الى سبعين مترا وتم استحداث بلدية للمدينة تولت إدارة شؤون المدينة المحلية وسنت قوانين متقدمة لتنظيم المدينة وكانت نتيجة التخطيط الجديد للمدينة أنه تم بالتدريج إزالة العشش والأكواخ وتعويض أصحابها ونقلهم الى الناحية الشمالية من جعار التي أصبحت تعرف لاحقا بحافة ( قدر الله) وأغلب سكانها من العمال الزراعيين القادمين من حجر بحضرموت ومن عزان ومن تهامة ، كما تم تخصيص جزءً من الناحية الجنوبية للمدينة لأفران صناعة الكلس والياجور والنورة وكان للوجيه حسن محمد مظفر ومحمد مقبل العريقي الذين جاءا من عدن عدد منها وإثنان آخران لبارعيدة القادم من حضرموت، وسمي هذا الحي من جعار باسم المحراق وكان قاطنوه من العمال الصناعيين في هذه الأفران ( المحاريق ) إضافة الى فئة الطبقة المهمشة .
ونستطيع القول أن تعيين نائب شاب لسلطنة يافع بني قاصد في مطلع الخمسينيات وهو الأمير محمد نجل السلطان عيدروس بن محسن العفيفي قد شكل دفعة قوية للتحديث والنهضة في جعار والسلطنة عموما حيث قام النائب محمد بن عيدروس بفرض مشاركة السلطنة في إدارة المدينة وتسيير شؤون السلطنة وتقليص الإشراف الإداري البريطاني الى أقصى مدى ، وبدأ بتنظيم عمل مجلس السلطنة وعقد الاجتماعات الشهرية وتدوين محاضر وتأسيس سكرتارية للسلطنة وتشكيل المحاكم الشرعية والمدنية ووضع خطة للنهوض بالمنطقة .
أدخل النائب محمد بن عيدروس عام 1952م النظام التعليمي الحديث وافتتحت مدرسة جعار الابتدائية كأول مدرسة في السلطنة وكانت مكونة من 3 فصول ومكتبين أحدهما لمدير المعارف ومدير المدرسة والآخر للمدرسين وقد جلب لها النائب محمد الإدارة والمدرسين من لحج ثم من الفضلي مستغلا علاقته الطيبة بحزب رابطة أبناء الجنوب التي تغلغلت لاحقا في جعار من خلال المدرسين أمثال عبدالله الجفري وبن شهاب ومحمد سالم الشعبي الذين شغلوا مهام مدراء المعارف في السلطنة في فترات متعاقبة الى جانب وظيفتهم التعليمية، وبنت الرابطة أيضا الزاوية الإدريسية في جعار وكانت مركزا لاستقطاب الوجاهات الاجتماعية والشباب الى صفوف الرابطة .
دخل النائب محمد بن عيدروس في صراع مع الحكومة البريطانية في عدن نظرا لنزعته الاستقلالية وتأثره بنشاط الرابطة والفكر القومي الناصري ودعمته الرابطة وخرجت مسيرات تأييد له في جعار والفضلي ولحج وكان الخلاف الرئيسي بينه وبين الحكومة البريطانية هو مطالبته بإدارة محلية للجنة أبين الزراعية وزيادة أسعار القطن الذي تدفعه اللجنة للمزارعين وفي النهاية احتدم الصراع بينهما وتحول الى مواجهة مسلحة وقامت ثورة محمد بن عيدروس في ديسمبر 1957م التي أدت الى عزله وتعيين الشيخ حيدرة منصور عطوي نائبا للسلطنة بدلا عنه.
في هذه الأثناء انتقلت إدارة السلطنة من منطقة الحصن عاصمة السلطنة الى جعار وأصبحت جعار هي العاصمة الإدارية للسلطنة ، وبني فيها مقر لسكرتارية السلطنة .
وتواصلت عملية النهضة الحضارية والعمرانية والتعليمية في المدينة .
ومن مظاهر هذه النهضة :
– افتتاح مستشفى حديث في منطقة المخزن إحدى ضواحي مدينة جعار
– افتتاح مدرسة جعار الوسطى عام 1957م وقد استقبلت المدرسة طلابا قادمين للدراسة من الضالع ودثينة والعواذل والعوالق .
– في 23 مارس عام 1957م فرض التعليم الابتدائي الإجباري في جعار ومناطق السلطنة لجميع الذكور الأقل من 12 سنة .
– افتتاح مدارس ابتدائية ومتوسطة جديدة في جعار وقد وصل عدد المدارس في جعار عشية الاستقلال عام 1967 م الى ست مدارس :
3 مدارس ابتدائية للبنين
مدرسة ابتدائية للبنات
مدرسة متوسطة للبنين
مدرسة متوسطة للبنات
– إنشاء شبكة مياه لتزويد السكان بمياه الشرب النقية
– افتتاح سوق للخضار واللحوم والأسماك.
– مد التيار الكهربائي لبعض منازل المواطنين ثم إنشاء محطة كهرباء جعار جديدة وتوسيع شبكة التيار الكهربائي الى كافة أنحاء المدينة عام 1960م.
– إنشاء الحدائق العامة وقد بلغ عدد الحدائق في المدينة عشية الاستقلال 12 حديقة تصل مساحة بعضها الى 9 أفدنة .
– افتتاح دار سينماء عام 1962م
– بناء مساكن للموظفين في لجنة أبين وموظفي سكرتارية السلطنة .
– افتتاح مكتب للنشر للثقافة العامة
– تأسيس مجلس بلدي للمدينة
– تأسيس منظمات مجتمع مدني ومنها جمعية لعلاج مرضى السل وجمعية لبيع وتسويق القات ونقابة لسائقي الفرزة والجمعية الحضرمية .
– تأسيس أندية رياضية واجتماعية للشباب : نادي لجنة أبين – نادي المعارف – نادي خنفر وكانت هذه الأندية مراكز ثقافية وتقوم بنشاط توعوي وطني وسياسي للشباب الى جانب كونها رياضية واجتماعية .
– في المجلد 46 الصادر في أغسطس 1962م نشرت المجلة البريطانية لأمراض العيون ( The British journal of ophthalmoloy ) ص483 – 490 بحثا صحيا علميا احتوى على تحليل نتائج فحص طبي قام به في عام 1961م فريق من المختصين البريطانيين لطلاب المدارس الابتدائية في الجنوب العربي وعلى الأخص مدارس دلتا أبين وبيحان والمكلا ووادي حضرموت ( شبام وتريم وسيؤون) وكمران كعينات لاكتشاف مدى انتشار مرض التراخوما والأمراض البصرية الأخرى في محميات عدن الشرقية والغربية ، وأورد البحث المنشور أن نسبة الإصابة بالمرض في منطقة دلتا أبين كانت 33 % وهي النسبة الأقل مقارنة مع نسبة الإصابة في المناطق الأخرى التي بلغت :
في بيحان 99 %
في المكلا 46 %
في وادي حضرموت 65 %
في جزيرة كمران 55 %
كما ذكر البحث أن مدينة جعار كانت الأقل إصابة من بين كل المناطق الأخرى وأرجع البحث أسباب ذلك الى أن غالبية منازل جعار لديها إمدادات أنابيب المياه الصحية وأن المدينة مخططة تخطيطا حضريا جميلا وشوارعها نظيفة وخالية من الذباب وفيها شبكة حديثة لنظام الصرف الصحي والأطفال يغتلسون يوميا ويحصلون على الغذاء الصحي الكافي والطازج إضافة الى أن المدينة كانت هي الأنظف ( and the villages are cleaner ) ، وأن كل هذه الاسباب ساعدت سكان مدينة جعار في تجنب الإصابة بأمراض العيون مقارنة بغيرها من المناطق الأخرى في دلتا أبين والجنوب عموما .
– وفي سنوات الستينيات من القرن الماضي كانت جعار توصف بأنها ( زهرة الجنوب ) لاشتمالها على كافة ألوان الطيف الجنوبي ولجمالها ونظافتها وقد أختيرت من إحدى منظمات جامعة دول العربية ضمن أنظف 20 بلدة في الوطن العربي .
ولسنا هنا في موضع استعراض الإنجازات التي تحققت في المدينة لأنها كثيرة ومتنوعة ولكن لإعطاء فكرة حول مميزاتها والتحولات التي شهدتها والتي جاءت في الأصل في ظل وعي قيادي ووطني مسؤول ووحدة وتآلف النسيج الاجتماعي المكون من انتماءات مناطقية وقبلية جنوبية متنوعة انصهرت في مجتمع مدني وحضاري صب كل طاقاته في البناء والتنمية والعمل وكرس جهوده وثقافته لخلق بيئة اجتماعية قائمة على التعايش والانسجام والتراحم والسعي للتطوير والانفتاح على العصر .
ولعل من الجدير في هذا السياق إيراد بعض العناوين التي تشير الى وحدة وتماسك المجتمع في جعار عاصمة السلطنة اليافعية وتعبيرها عن وعي مبكر بالهوية الجنوبية ومن ذلك :
– تأسست المدينة من خليط من السكان جاؤوا من مناطق جنوبية متعددة برغبة الاستقرار والبناء والتنمية وتحسين مستوى حياتهم ومعيشتهم ، وكان كل شيء يقوم في المدينة على نظام ملزم للجميع في الاستصلاح للأراضي والري والعمران والتعليم والصحة والتوظيف والدوام الرسمي والأسواق والضرائب والرسوم ونظافة المدينة وحمل السلاح وحماية البيئة ( في عام 1953 أصدر مجلس سلطنة يافع قانونا لحماية الطيور والحيوانات ) وغير ذلك من شؤون الحياة والحكم وليس على مزاج الحاكم أو مراكز القوى القبلية في المنطقة ، وكان التصرف بالمال العام مقننا ومحكوما بميزانية سنوية وبمجلس السلطنة المعني باتخاذ قرارات تنفيذها .
– التضامن المشترك بين المجتمع والسلطة في التنمية وإدارة شؤون الحياة ومن أمثلة ذلك ( مشروع السنت الثقافي ) وهو مشروع خيري يقوم به المزارعون بمنطقة يافع بني قاصد باختيارهم وذلك بدفع سنت ( واحد ) من ثمن كل رطل من القطن الذي يبيعونه للجنة أبين الزراعية ويودع المبلغ المتحصل من ذلك في مالية السلطنة ويصرف في التنمية والخدمات وتطوير التعليم في المنطقة كالصرف على بعثات الطلبة في الخارج ( سواء الى عدن أو خارج الجنوب ) ومساعدة الطلبة الفقراء وغيرها ، وكانت تدير المشروع هيئة تنفيذية مشكلة من الأهالي ويرأسه نائب السلطنة .
– المشاركة في الإدارة والحكم المحلي، وفي هذا الصدد تشكلت مجالس بلدية لمناطق سلطنة يافع وكان المجلس البلدي لمدينة جعار عاصمة سلطنة يافع بني قاصد مشكلا من :
الفاضل الحاج أحمد عوض الخريبي العولقي
الفاضل الحاج محمد عبد أحمد الصلاحي
الفاضل الحاج علوي حسين اليزيدي
الفاضل السيد علي السروري
الفاضل السيد علي المنصب
الفاضل عبدالله علوي الصلاحي
الفاضل سعيد أحمد باسنبل
الفاضل ضابط الأمن بجعار
الفاضل مدير بلدية جعار
وتوضح دلالة أسماء أعضاء المجلس تنوع الانتماء المناطقي والقبلي لإعضائه تعبيرا عن مدنية المجتمع في المدينة والسلطنة وسمتها كمدينة وحدة وطنية جنوبية ، كما شغلت الحجة فاطمة العولقية الشهيرة بلقب ( بنت عيسى ) والحاج محمد بلكم الزبيدي وشخصيات أخرى في فترات سابقة ولاحقة عضوية المجلس البلدي لعاصمة السلطنة مدينة جعار .
– تقنين ملكية الأراضي الزراعية وحصرها في أهل الجنوب، والسماح للإجانب بامتلاك العقارات من غير الأراضي الزراعية ، وقد صدر هذا القرار في 7 مارس 1957م .
– اعتبار جميع السكان الجنوبيين بمختلف انتماءاتهم العرقية والمناطقية والقبيلة القاطنين في جعار وسلطنة يافع بني قاصد عموما مواطنين أصليين للسلطنة ، والتعامل معهم بهذا المعيار ، وفي هذا الصدد يمكن إيراد أمثلة على ذلك :
*كان ابتعاث الطلاب للدراسة الى عدن والخارج يتم وفقا لنتيجة تحصيلهم الدراسي بدون النظر الى انتمائهم القبلي للسلطنة، ويتم الصرف عليهم وتوفير مستلزمات دراستهم وإقامتهم كطلاب يافع .
*تم بناء وحدات سكنية للموظفين في جعار على فترات متعاقبة بدأت في عام 1953م ، وكانت آخر دفعة من المنازل التي بنتها السلطنة في جعار بنظام التمليك في سبتمبر عام 1965م ، وتشمل هذه الدفعة ستة من البيوت ذات الطابق الواحد وقد كانت من نصيب المذكورين أدناه :
1) عبدالله أبوبكر التوي – رئيس كتبة السكرتارية
2) عبدالله حيدرة مرقشي – كاتب بإدارة السكرتارية
3) عبدالله سعد حسن اللحجي – أمين صندوق المالية
4) السيد أحمد عمر أسكندر الوهطي – رئيس كتبة المالية
5) حسن شهيد – كاتب بإدارة السكرتارية
6) عبدالله أحمد السنيدي – مفتش بإدارة الزراعة
*في منتصف الستينيات قامت سلطات الأمن في عدن باحتجاز شابين من أبناء جعار هما :
ناصر حسين امبشع العوذلي
عبدالله العزيبي
وعلم نائب السلطنة الشيخ حيدرة منصور عطوي بذلك عن طريق التقرير الأمني اليومي لوزارة الأمن الاتحادي فأرسل مذكرة للوزارة يحتج فيها على احتجاز المواطنين ( من أبناء يافع ) في عدن، وطالبها باطلاق سراحهما فورا أو تسليمهما للسلطات الأمنية في السلطنة إذا كان لدى الوزارة ما يثبت تورطهما في ارتكاب شيء مخالف للقانون والسلطنة هي التي ستحاكمهما .
ملاحظات وتوصيات ختامية
تناولنا في ورقة ( خصائص التجمعات السكانية في مديريات محافظة أبين – ( جعار أنموذجا ) أهم مفردات وعناصر حياة المجتمع المحلي في أبين وملامحها وعوامل وحدة النسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية الجنوبية وتشكيل الهوية الجنوبية اعتمادا على نموذج نشوء وتطور مدينة جعار منذ تأسيسها وحتى عشية الاستقلال عام 1967م .
ونورد في ما يلي بضعة ملاحظات تتعلق بالتشوهات التي طرأت على ذلك النموذج بعد الاستقلال وبعد الوحدة والتي كان لها أثر على وحدة المجتمع هنا وتماسك نسيجه الاجتماعي كما نورد بعض الاخفاقات في نشاط المجلس الانتقالي الجنوبي التي يجب تصحيحها وتجنب تكرارها ونختم ذلك بتوصيات نرى أنها ضرورية للنشاط القادم للمجلس.
التشوهات
– التصفيات الجسدية في السبعينيات
– العزل والإقصاء ومن ذلك : عزل أصحاب رأس المال ورجال العهد السابق وأسرهم وأقربائهم في كل مراحل التحول والصراع السياسي في الجنوب من المشاركة في التنمية والسلطة والقيادة وقد تم استغلال ذلك من نظام الوحدة بعد ذلك في تمزيق الوحدة الجنوبية
– الصراع السياسي الدموي بين رفاق الحكم وما خلفته من حزازات وآلام أثرت على وحدة النسيج الاجتماعي في المنطقة .
– السياسات الاقتصادية الخاطئة في مجال الزراعة والصناعة ومثال ذلك أن إنتاج القطن وصل الى 31 مليون رطل عام 1968م والآن صفر تقريبا)
– استحداث الخطاب المناطقي الذي بدأ من الأعلى عقب أحداث 1978م ( أغلب من تم فصلهم من التنظيم والدولة كانوا من أبين ومن مديرية خنفر تحديدا ).
– استبدال خطاب الوحدة الجنوبية بخطاب الوحدة اليمنية
– الدخول في شراكة الوحدة اعتمادا على إرث هيمنة الرؤية الواحدة والحزب الواحد والطرف المنتصر في أحداث 13 يناير وعدم إجراء مصالحة وطنية جنوبية تجمع كافة القوى الجنوبية وتوحدها .
بعد الوحدة
– استغوال الفساد واهتزاز وضعف ثقة المواطن الجنوبي بممثليه في الحكم .
– اختراق الطرف الشمالي لوحدة الجنوبيين ونسيجهم الاجتماعي من خلال ضرب كل طرف بطرف آخر وطمس كل ماله علاقة بالهوية الجنوبية.
– زرع الأفكار المتطرفة بين الشباب واستهداف طبيعة المجتمع الجنوبي ذي الصبغة الصوفية والتسامحية والقضاء على بعض العادات والتقاليد التي كانت تشكل عناوين للمنطقة مثل زيارات أولياء الله الصالحين ومراسيم وحفلات الزواج التراثية الشعبية .
– تخريب عملية التعليم والتربية .
– تهميش الكفاءات والاعتماد في اختيار القيادات السياسية والإدارية على معايير غير علمية ولا وطنية ( مثل القبلية والمناطقية والشللية والولاء الشخصي ) .
– شيوع السلوك الفوضوي وضعف احترام النظام في جميع مناحي الحياة وسيادة منطق الغلبة .
– ضعف التوعية والاهتمام بالنشء والشباب وتغييب دورهم في مناشط الحياة السياسية والاجتماعية .
– استهداف الوحدة الوطنية الجنوبية وإعادة إحياء الثأرات الشخصية والقبلية وتشجيع الخطاب المناطقي بين الجنوبيين .
– تراجع الذوق والحس الجمالي في المجتمع في مجال النظافة والقضاء على متنفسات المنطقة وحدائقها .
إخفاقات تتعلق بالمجلس الانتقالي الجنوبي
– الارتجال في عملية اختيار عناصر الانتقالي في أبين، والاعتماد على مزاج أفراد في الاختيار على طريقة ( شيوخ الضمان).
– ضعف العمل والأنشطة بين أوساط النشء والشباب في المدارس والجامعات .
– ضعف تأثير الانتقالي على القوات الأمنية في المنطقة.
– ضعف التواصل المباشر لقيادة الانتقالي ( هيئة الرئاسة ، الجمعية الوطنية ، الأمانة العامة) بالشخصيات والنخب والقوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المنطقة .
– ضعف حضور الكادر من أبين في الجهاز الإداري الوظيفي والإعلامي والثقافي والأمني للمجلس.
– غياب الأنشطة ذات الطابع التوعوي والشعبي والجماهيري بين النساء .
– غياب التوعية القانونية وغياب النشاط الحقوقي في مجال رصد وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان وتقديم الدعم والمساعدة في الدفاع عن القضايا العادلة للمواطنين الضعفاء والفقراء بما في ذلك القضايا الشخصية .
توصيات
– تنويع وسائل وأساليب العمل للهيئات المركزية والمحلية للمجلس ، والبحث عن طرق مبتكرة للاتصال بالجماهير والتلاحم معها وتبني قضايا الحياتية والمساهمة في حلها ، وتحسين سبل ومظاهر حياتها .
– تعديل بعض نظم ولوائح المجلس الانتقالي الجنوبي بما يسمح بما يلي :
*اعتماد التفويض الشعبي لرئيس المجلس الانتقالي الجنوبي كمبايعة شعبية سارية المفعول حتى نجاح المجلس في استعادة دولة الجنوب واستعادة مقعدها في منظمة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية .
*تعيين نائبين لرئيس هيئة الرئاسة واختيار أحدهما من أبين .
*تحديد فترة زمنية لا تزيد عن ثلاثة أعوام للعضوية في هيئة الرئاسة والجمعية الوطنية ، ويجوز التجديد في كل مرة للأعضاء الذين أدوا مهامهم بصورة حسنة خلال فترة عضويتهم .
*استحداث دائرة للكادر الوطني الجنوبي ضمن دوائر الأمانة العامة أو ضمن لجان الجمعية الوطنية لتقييم أداء قيادات المجلس في جميع الهيئات ، وإعداد مركز معلومات عن الكادر الوطني الجنوبي بشكل عام .
*توسيع الحياة الديمقراطية ومجال المشاركة في اتخاذ القرار واعتماد مبدأ الاختيار والانتخاب معا في هيئات المجلس المختلفة .
– الاهتمام بالنشء والشباب ، وإقامة أنشطة وفعاليات تستهدفهم مثل :
*إجراء حصر بالمدراء والعمداء وأعضاء هيئة التدريس من عناصر المجلس وأنصاره في المدارس والثانويات والكليات
*إعداد خارطة بالمدارس والثانويات وكليات الجامعة واختيار مندوبين للمجلس من المدراء أو المدرسين في كل مدرسة وثانوية وكلية للعمل اليومي بين صفوفهم .
*إقامة ورعاية الأنشطة التوعوية والثقافية والرياضية في المدارس والثانويات والكليات وخارجها .
*حصر الأندية الرياضية والفرق الشعبية وتشكيل خلايا تابعة للمجلس للعمل بين صفوفها ورعاية أنشطتها.
*إقامة المعسكرات الصيفية والمسابقات والرحلات الداخلية الترفيهية والتعريفية الخاصة بالطلاب وبالشباب وبالطالبات وبالمرأة .
* إعداد كتيب مركزي خاص بمحاضرات موجهة للنشء والشباب ودليل إرشادي للقيادات الناشطة في مجال العمل مع النشء والشباب والمرأة لمساعدتهم على كيفية النجاح في مهامهم .
*إقامة المحاضرات التنويرية في مجال الإرشاد الديني لمواجهة الأفكار المتطرفة والمخدرات وتبصير النشء والشباب بمخاطر هذه الآفات .
-إشاعة ثقافة وسلوك التصالح والتسامح والوحدة الوطنية الجنوبية في المجتمع بكافة شرائحه وتسليط الضوء على التجارب الإيجابية في هذا المجال وتكريم روادها ورائداتها .
– إعادة الاعتبار لرواد البناء والتنمية والعمل الوطني الجنوبي في المنطقة وتكريم عائلاتهم وتخليد ذكراهم وتدوين سيرتهم ونشرها على أوسع نطاق ليكونوا بمثابة قدوة حسنة يقتدي بها النشء والشباب والمجتمع عموما.
– تنظيم قوافل اجتماعية من كافة شرائح المجتمع للزيارات بين المديريات لتوثيق عرى التواصل والتعارف والانسجام على المستوى الشعبي بين المديريات مثلا : تنظيم قافلة مجتمعية من مديرية سرار لزيارة مديرية مودية أو العكس .
– تشجيع أصحاب رأس المال والميسورين والمهاجرين في مديرية معينة ولتكن مديرية رصد مثلا لإقامة نشاطات مشاريع اجتماعية واقتصادية وخيرية في مديرية من مديريات المناطق الوسطى وعدم الاكتفاء فقط بإقامة مثل هذه الأنشطة والمشاريع في مديرياتهم.
– الإعلاء من شأن روح عام 2015م عن طريق التركيز على وحدة وتلاحم الجنوبيين في التصدي للغزو الحوثي العفاشي الثاني للجنوب عام 2015م واعتبار ذلك أساسا لرؤية المجلس الانتقالي الجنوبي في مضمار النظر الى الوحدة الوطنية الجنوبية .
خريطة مديريات محافظة أبين
الإسقاطات السكانية لعام 2019 م