كتب : محمد هشام الشماط
في حياة الإنسان مراكب أضواء تُنير له درب الوعي وتُوصٍلَه إلى ما يرغب الوصول إليه من قِيَم يعتنقها، ومراكب ظلام تُعْميه عن سبل يُولِج فيها لا إراديًا، خطَّ القدر فيها خطوطه سوداء؛ فتُوقِعه في إحباطات وانتكاسات وهمود رُوح.. تطمح أن تَهِيم في فضاء لا نهاية له.
الروائية اليمنية نجلاء العمري تتصدَّى في روايتها “مراكب الضوء” لقضية كُبرى، قضية الحرية، “تعشقني الدنيا غير أنَّها تحرمني من أعزِّ مفرداتي.. حريَّة لا يعرفها أحد.. لم يخلقها الله في الأرض المغلقة.. غير أني كنت أبحث عنها في الأرض المغلقة”. (من الرواية).
من المؤكَّد أن بيئتها (الأسرة) كانت بيئة يُمْنَح الفرد فيها قدرًا كبيرًا من الحرية، فلبستها لبوسًا وتمثَّلتها، “أمي وأبي يعرفون كيف يربُّوننا بدون عقد”. (من الرواية).
“لكنَّنا نشأنا بصورة مختلفة.. كُنَّا نكبر دون مراقبةٍ طاغيةٍ أو تشذيب وتهذيب يُغَيَّر في تركيبة شخصيتنا.. يبدو لي أنَّنا كنَّا جبابرة صغارًا، وكلُّ واحد منَّا يُدير مملكةَ نفسِه بعيدًا عن الآخرين”. (من الرواية).
هذه النشأة والبيئة لم تكن تتوَّفر إلَّا بوجودِ أبٍ رُبَّان يعرف كيف يُدير دفَّة مركبه المُضيء:، “كنا نركض خلفه.. لكنْ لم نكنْ ندركه، وما أدركناه حتَّى هذه اللحظة”. (من الرواية).
وما إن انطلقت إلى بيئتها الكبيرة (المجتمع) حتَّى اصطدمت بجدران عقول ذكورية كثيرة، تُحاول أن تُحبِطها وتُحطِّمها.
فكيف أدارت الروائية نجلاء مراكب ضوئها؟
تحكَّمت نجلاء بضمائر اللغة تحكُّم المتمكِّن، تعبِّر فيه عن نفسها (تاء المتكلم وياء المتكلم)، وعن بنات جنسها (نا المتكلم) عندما تقتضي الحاجة.. وتُحَدِّثك بكاف الخطاب؛ لِتجعلك شريكًا فيما يحدث من أحداث؛ فتجذب انتباهك، وتقفز معها فوق السطور، وتشاركها في كلِّ ما يحدث من قول وفعل.
ولم تعتمد المباشرة في تناولها كما يبدو من هدف الرواية، ولم تعتمد خصائص الرواية بل تَخَطَّتها من حيث الزمان؛ فهي تمتدُّ عبر العصور منذ انتهاء العصر الأُنثوي حيث كانت الآلهة مؤنَّثة كما يظهر في حيثيَّات الأدب القديم: فالآلهة أُنثى كآلهة النصر وآلهة الحُبِّ، والقمر مؤنَّث لارتباطه بالدورة الشهرية عند الأنثى، ورَبَّات المعبد كاهنات، و…. ويتحوَّل إلى العصر الذكري، ويمتدُّ إلى ما شاء الله.
ولم تتقيَّد بالمكان؛ فقد جعلته في صدرها وعقلها الَّذي تعتمل أحاسيسه ومشاعره في صدر وعقل كلِّ فتاة عربية تعيش من المحيط إلى الخليج.
ركبت نجلاء مراكب ضوئها، وبدأت رحلتها بأسلوب سرديٍّ تناوبت فيه ما بين تقريري وحواري.. تلجأ إلى أيِّ منهما حسبما تريد الإفصاح عنه.. وتخلَّت عن الأسلوب التقليدي في خصائص الرواية من حيث الشخصيات والأحداث؛ فجعلت من نفسها البطلة كشخصيَّة رئيسة تتحدَّث وكأنَّ كلَّ قارئة عربية هي المَعنيَّة في روايتها حين تقرأها، وشخصياتها الثانوية ما بين سلبية (عمِّها –أنَّه فريسة تربيةٍ مُضَلَّلةٌ ومجتمع مُتناقض- ووالد صديقتها آمنة)، وإيجابية (صديقتها آمنة ووالدها والأستاذ)، تتَّخذ من السرد أسلوبًا لتوضيح رأيٍ أو موقفٍ أو شعورٍ وجداني، عبر حوار داخلي (مونولوج)، أو حوار مع الشخصيات الأخرى (ديالوج)، أو تصعيدِ حَدَث لاستكمال تشابك خيوط روايتها، وتوظيفها في خدمة قضيتها الكبرى: الحرية.
وجعلت تلك الأحداث تُتابِع ما بين حالات مُعَاشَة تساهم في تصاعد الحدث لِتُشعرك بالظلم الَّذي يُمارس ضدَّ الأُنثى؛ وبالتالي تقف إلى جانبها وتتعاطف معها في حاجتها للحرية، واتِّباعها لإدراج لقطات حياتية من هنا وهناك في تعبير بلاغي استخدمت فيه التشبيه، “كان يفعل بروحه كما تفعل النساء اليابانيات.. يدسها في نعل حديدي فلا يتسنى لها أن تكبر”.
أو رمزي مِّشَوِّق؛ لِتُظْهِر فكرتها أو موقفها أو صورة المجتمع بحالته الذكورية، “لقد منعني أبي أنا وإخوتي من رؤيتها أمها عشر سنوات”، وحاجة الأنثى في إحساسها بالظلم، “ماذا تعني الحياة عندما تُطعَن في آدميتك؟”، والحرمان والتقَزُّم إلى الحرية الَّتي تتطلَّع إليها كلُّ أُنثى في مجتمعنا، “هنا سقطت في مرض مزمن..”.
من المؤلم أن تُحاط بثلاثة قيود: قيد الجسد، وقيد الأنوثة، وقيد المجتمع الظالم في كثير من الأحيان، فيشعر القارئ أنه يركض على سطورها بشوق ومتعة بعيدًا عن المباشرة في مثل قضايا كهذه، وبالعكس تمامًا تعطيه دفقات إنسانية جميلة في علاقاتها مع أبيها ووصف مرضه ووفاته، “من كان يعرف أنَّنا سننام بلا سقف”، (من الرواية)، ووصف صديقتها آمنة، وعبارات بلاغية، أو صور أدبية في منتهى الجمال والروعة.
ثمة ملاحظتان: كتابة بعض الكلمات دون الانتباه إلى أن اللفظ باللهجة المحكية يختلف عنه في الفصحى مثل: كان يوقضنا: كان يوقظنا. مُظللة: مُضَلّلة.
ضرورة الاهتمام بعلامات الترقيم، ويبدو أنَّ المُدقِّق اللغوي لم يعطِ الرواية الاهتمام الكافي، ولو فعل لتكاملت بشكل رائع.
رواية ممتعة ومفيدة جدًا جدًا.. يُنصَح بقراءتها.
المصدر : الموقع بوست