عادل الأحمدي
كما كان متوقعاً، ذهبت حزم الجوف بعد نِهم، رغم الصمود الكبير لأبطال الجوف والعديد من بواسل الجيش مسنودين بغارات مكثفة من طيران التحالف، لكن خطة الهجوم الحوثية كانت أكثر اكتمالاً من خطة الدفاع، وجاء تعيين الفريق صغير بن عزيز رئيساً للأركان، أشبه باستقدام الهدّاف بعد صفارة الحكَم.
لم تكن خطة الهجوم الحوثية لتنجح مطلقاً، لو تم إسناد مقاتلي الجوف بألوية من مارب أو سيئون أو شبوة، أو تم تحريك جبهات أخرى تعمل على تشتيت العدو وتدفعه للتراجع، أو حتى التلويح بالتنصّل عن اتفاق استكهولم ودفع المجتمع الدولي لممارسة ضغوط على الميليشيا ريثما يتم الإمداد والتأمين لجبهات الجوف.
لكن شيئاً من ذلك لم يكن، ومثل هذا الخذلان كان متوقعاً بالنسبة لكثيرين، لأن دروس تسليم نهم مرت مرور الكرام.
إذن كيف تكرر هذا الخذلان، لماذا تم ترك الجوف تصارع بلا مدد سوى الطيران والقبائل، ولماذا ظلت بقية الجبهات نائمة نومة أهل الكهف.. هل تجهل الشرعية والتحالف ماذا تعني الجوف؟! أهو تخاذل أم مؤامرة أم خيانة.. وأسئلة كثيرة تمزق نياط القلوب إزاء وطن يتسرب في يد الطاغوت والكهنوت بينما أدوات الصد ممكنة وفي اليد.
وبسرعة البرق، تقافزت الإجابات الجاهزة وطار هاشتاغ في تويتر “التحالف يخذل الجوف”، المخرج عاوز كده، الإسلاميون مستهدفون.. وإجابات أخرى في المقابل، تتحدث عن اتفاق سري بين الإصلاح والحوثي برعاية طرف ثالث، لتضييق الخناق على السعودية، وتقاسم السلطة بعدئذ. وباعتقادي أن مناقشة الأجوبة الجاهزة هو أمر بالغ الأهمية لأن مسلسل النزيف سيستمر ما لم يتم الوقوف على الأسباب الحقيقية لكل هذا البوار.
ولنبدأ بمن يقول إن التحالف هو السبب، وهي الاطروحة الرائجة عند قطاع لا بأس به من الحزبيين، وسبق أن تطرقنا لهذه الجزئية في مقالنا السابق عن سقوط نهم، ولا بأس من الإثراء هنا، لأنها اطروحة عاودت البروز بعد سقوط حزم الجوف. وعند الحديث عن التحالف، يجدر القول ابتداءً، إن التحالف ليس بحاجة لمن يدافع عنه، فلديه إعلامه وقنواته ومتحدثوه، لكن أهمية النقاش تنبع من كون إلقاء المسؤولية في غير مكانها، أمر ينمّ عن خلل في التفكير والتقييم وضحالة في المعلومات، ويصرف الألباب عن الأسباب الحقيقية التي باستمرارها تستمر الهزائم حتى آخر شبر في رقعة البلاد.
وبداية لابد من التذكير بأن تحريك الألوية الواقفة وإيقاظ الجبهات النائمة هو قرار حصري للقائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو القرار الذي لم يُتّخذ لا في عمران ولا صنعاء، وكان التحالف يومها خارج قائمة المشاجب، ولم يكن الرئيس مقيماً في الرياض ولا مغلوباً على أمره يتلقى الإملاءات كما يصور البعض الآن.
لكن المشجب يومها هو الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وأتحدى أن يكون القائد الأعلى أصدر في 2014 قرارا واحدا للألوية العسكرية بصد الحوثي والدفاع عن عمران ثم صنعاء، وقام صالح بإفشال القرار. نعم كان صالح يريد سقوط هادي وقوى الثورة التي أطاحت به، لكنه يومها لم يعد يملك من الأمر شيئا، فقط كان يتعامل مع تلك الطروحات بنفسية “عزب الويل يفرح بالتُّهم”، حتى يبقي نفسه قوياً في نظر أنصاره وخصومه، إلى أن انكشفت حقيقة الأمر في ٤ ديسمبر ٢٠١٧.
(لا ننسى كيف تحركت الألوية باتجاه عتق وعدن عندما أُعطي لها الضوء الأخضر من القائد الأعلى ونائبه ووزير الدفاع، حتى توقفت بضربة العلم، وهي ضربة مدانة لتحرك خاطئ). هذه الحقائق لا تروق عديدين ممن لا يريدون أن يقرأوا إلا ما يوقّع بالعشر على ما بأذهانهم، ولذا يستمر دولاب الخسران بالدوران، شهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام، لكن الأيام كفيلة بتفهيم الجميع والشاهد يكمن في فارق التوقيت بين استيعابٍ وآخر.
ولنعد لجزئية مسؤولية التحالف الذي في تقديري قام بدوره وأكثر، في معركة الجوف، ولايزال طيران التحالف هو العائق الأبرز أمام مزيد من التقدم الحوثي. الحديث عن التحالف يقصد به تحديداً، السعودية والإمارات. فأما الإمارات التي يحلو للبعض تقديمها كسبب رئيسي لكل الخسائر المحسوبة على الرئيس هادي والإصلاح لكون أبوظبي تتبنى ما يوصفه خصومها “الثورات المضادة”، فإن المنطقة التي سقطت ليست نقطة نفوذ لها، وليس فيها، على ما يبدو، أدوات تقليدية معروفة بالولاء لها، بل على العكس من ذلك، وهو ما جعل خصوم الإمارات في هذا المكان، يكتفون بلفظ العموم، وبالتالي تتبقى الرياض وحيدةً في قفص الاتهام بالإيحاء أنها تحقق رغبة أبوظبي وتأتي بالحوثي ليمتد على ضعفي الرقعة الحدودية التي كان يسيطر عليها.. يا له من منطق سقيم.
وللأسف أن مثل هذه الاتهامات يضطر المرء لإثبات ما لا يحتاج إلى إثبات، ومع هذا لا بأس من التوسع في هذه الأطروحة، التي يصرّ مرددوها على تكرارها بشكل فذ، وكانت إحدى النقاط التي أثّرت في تقديري، على معنويات الجيش المرابط في نِهم، كما أشرنا في المقال السابق. وللتذكير نقول، إن التحالف بالأمس، هو من أحيا الشرعية وجعل منها كياناً وجيشاً وقد كانت مجرد ثوبٍ عُماني على سُلم طائرة. وهو اليوم، مع رجال الجيش الشرفاء وأبناء القبائل، من يوقف زحف الحوثيين تجاه مأرب.
تحالف دعم الشرعية، يقوم بدور دبلوماسي خارجي هو من صميم واجبات الشرعية، ويخضع بسبب وقوفه مع الشعب اليمني، لابتزازات لا تنتهي من الأنظمة والتنظيمات والمنظمات والسيناتورات والمنابر.
كما أنه عرّض منشآته ومطاراته وموانئه للخطر، ولم يتوانَ عن مواصلة هذا الدعم. وفتح مخازن أسلحته وقدم آلاف الشهداء والجرحى من أبنائه، علاوة على المليارات من الدولارات في الجانب الإغاثي الذي يتدفق عبر كافة المنظمات أشكالا وألوانا، فضلا عن كون السعودية تستضيف نحو ثلاثة ملايين مغترب يمني هم السر الحقيقي وراء ما تبقى من اقتصاد، بصرف النظر عن الإجراءات التي تتخذها تجاه العمالة الوافدة عموما، لأسباب تخصها.
نحن مطالبون بتحرير بلادنا، حتى لو لم يكن هناك تحالف، فكيف يتّهمه البعض بالتآمر.
لقد دعموا الشرعية بكل أشكال الدعم ولا يظهر أثره على الميدان، وفقاً لتعبير أحد المعنيين فإن الشرعية والتحالف مثلهما كأخوين، أحدهما يدعم الآخر بكل شيء، وعندما يزوره يجده في نفس الحالة الأولى وأبناءه يلبسون ذات الثياب البالية.
هل يعني ذلك أن التحالف بلا أخطاء؟ لا. لكن أكبر الأخطاء أنه أعطى وقتاً أكثر مما ينبغي لنفس وجوه الإخفاق، ويفترض به الآن أن يدرك أن الأدوات المعطوبة استنفدت فرصتها وزيادة، وأن الوقت حان لأن يتغير الوضع، فالخطر لم يعد حكراً على اليمن.
إن المتابع لكواليس الرياض طيلة السنوات الخمس الماضية، يدرك أن أشقاءنا في المملكة تعبوا وأنفقوا وقتاً طويلاً وهم يقاربون فيما بيننا ويعملون على توحيد صفوفنا وإخماد معاركنا البينية التافهة. إرشيفهم مليء بالتقارير الكيدية التي يرفعها الشركاء ضد بعضهم البعض للأسف.
ورغم ذلك، تجد من يكرر عبر القنوات والتغريدات وبكل بجاحة، أن الحوثي محظوظ بحليف مثل إيران بينما الشرعية منكوبة بحليفٍ كالسعودية والإمارات. يا لها من لهجة مُهينة تبحث فقط عن تحسين شروط “الارتزاق”.
أنت في الأصل شريك، وتصرّ على أن تصوّر نفسك كتابع، حينما تقارن نفسك بالحوثي الذي تربطه مع إيران علاقة تبعية.
ثم لنناقش الجملة الأولى: من قال إن إيران لاتزال تدعم الحوثي؟ لقد صارت في واقع الأمر تمتصه وتمتصّ عبره الشعب اليمني، وتقدم له لقاء ذلك، بعضاً من أدوات الموت وخبراء الفناء.
ثم إن التحالف ليس مطالباً بشيء، فلو أن نصف الدعم الذي قدمه، وصل لقيادات لديها حد أدنى من المسؤولية تجاه القضية التي تتصدرها وأمامها خطر كالحوثي الذي يسطو على مؤسسات الدولة وأجزاء مهمة من البلاد، لكان كل شيء مختلفاً.
عدا ذلك فإن الموارد في المناطق المحررة كفيلة بمواصلة السير واستعادة العاصمة المختطفة. تشعر وأنت تناقش هذه القضية أن الأزمة في أحد وجوهها، هي أزمة مروءة عند من يصرون على هذا الطرح.
ثمة فقر في مواجهة النفس وتحري الأخطاء والاعتراف بها، وثمة فسحة باذخة في تحميل الآخرين.
والشكوك جاهزة تجاه من يقول كلمة حق وكلاب حوأب جاهزة للنهش.
وغنيٌ عن التذكير أيضا، أنه من يظن أن التحالف يفرض إملاءاته على الشرعية ليل نهار، وأن كل ما يصدر عنها هو بالضرورة ما يريده التحالف، أو على الأقل تحت موافقته، فهو مخطئ.
ذلك أن الرئيس هادي لمرتين يتخذ قرارات بحجم تغيير رئيس وزراء ويصل الخبر للأشقاء مثل غيرهم، من وسائل الإعلام.
وعلى ذلك قِس. هذا الطرح لا أقوله للمرة الأولى، بل قلته عشرات المرات.. وقلت في تصريحي المعروف بقناة “سهيل” قبل أكثر من عام، إن أدوات الهزيمة تُلقي باللائمة على التحالف، وكان الأولى بها أن تقول كثر الله خيره.
وأحسب أن علينا أن نتحدث عن التحالف الذي يساندنا بكل ثقة وبلا خجل، ومن المقرف أن تجد أشخاصاً فرطوا بعاصمتهم ثم صاروا يقدمون نصائح للسعودية كيف تحافظ على نفسها من المد الإيراني، ويتوعدونها بشاصات تردد الصرخة في عرصات وادي الدواسر، إذا لم يقم التحالف بواجباته الكاملة تجاه اليمن.
والاعتراض على هذا المنطق، لا ينفي عن كونها معركة مصير مشترك، لكن أهل هذا المنطق يتجاهلون أنهم يتحدثون عن دولة تقع اليوم في صدارة الدفاع عن الأمن القومي العربي.
دولة تقوم بواجباتها تجاه مواطنيها وترتبط بها كل مصالح العالم، ومقرر أن تستضيف هذا العام قمة العشرين للدول الصناعية الكبرى في العالم. فعلام هذا الإصرار، وعلام هذا الجحود.
قبل الانتقال للشق الثاني من عنوان المقال، فقط نتساءل لماذا لم يتم حتى مجرد التلويح بتجميد اتفاق استكهولم احتجاجاً على تصعيد الحوثيين بنهم والجوف؟ للأسف ما حدث هو العكس تماما، فبعد تزايد الأصوات المطالبة بالخروج من ذلك الاتفاق المشؤوم، تم إرسال وفد الشرعية إلى العاصمة الأردنية عمّان لإحياء الاتفاق من بوابة الأسرى!
“مطرفيّة العصر”
لدى نقاشنا عن الجزئية الثانية في معرض التفسيرات المتصارعة لسقوط نهم والجوف والتهديد المحدق بمأرب، والتي مفادها أن ثمة اتفاقاً بين الإصلاح والحوثيين على توريط التحالف وتضييق الخناق على المملكة.. يجدر بنا التأكيد أولاً، كما في الشق السابق، على أن للإصلاح متحدثيه وذبابه الالكتروني وقنواته ومواقعه وليس بحاجة لمن يدافع عنه.
الإصلاح بوصفه الخاسر المباشر من وجهة نظر الجميع، والمتّهم الأبرز من وجهة نظر خصومه وبعض المتابعين، باعتبار أن جبهة نهم ومدينتي مأرب والجوف، واقعات تحت نفوذ قوى موالية له أو متحالفة معه.
هل يعقل أن يحدث هذا الانهيار بوعي تام من الحزب وتحديدا أصحاب القرار فيه، هل يعقل أن يخون الإصلاح نفسه ويقدم شبابه ورجاله للمحرقة ويجلب الخطر إلى السلة التي وضع فيها كل بيضه؟ وهل يُعقل أن يتم ذلك وقيادته متواجدة في الرياض، وخصومه في كل مكان، ولا أرض ستأويه بعد ذلك. ثمة من يدمغ الحزب بالتواطؤ ويستثني بعض القيادات وكل القواعد، وثمة من يقول إن التواطؤ تم عبر مراكز قوى تتحكم فيه ولها ارتباطات بأطراف خارجية لديها خصومة مع التحالف وتواصلات مع الحوثي.
لماذا لا يتم فضح هؤلاء؟ هنا تكمن العقدة التي نحتاج لشرحها كلاماً كثيراً، ذلك أن الإصلاح يمتلك جهازاً إعلامياً كبيراً يسهل إدارته من خارجه، ويقوم بتحويل أكبر الإخفاقات والهزائم وكأنها انتصارات، حفاظاً على وحدة البيت الحزبي.
كنت أميل للجزم بعدم وجود تواصل بين شخصيات إصلاحية أو موالية للإصلاح، مع الحوثيين، لكن هذا الميل تعرض للاهتزاز مرتين آخرهما وأنا أستمع لتسجيل حسن أبكر وهو يلوّح مرتين من إسطنبول “نحارب أو نصالح”. وقبله تغريدات لتوكل كرمان تحرض الإصلاح على ترك التحالف ووضع يده مع الحوثي، وكذلك تغريدة أشد خطورة للمفكر الإخواني محمد مختار الشنقيطي بعد ضربة العلَم.
ثمة ثقة عمياء بين كثير من أعضاء هذا الحزب، تجعل قواعده تنجر نحو مراكز قوى فيه، تأخذها إلى محرقة كبيرة وتجعل منهم “مطرّفية العصر،” وهو الوصف الذي أطلقتُه عليهم، من باب التحذير، قبل نحو 10 سنوات.
الأمر حدث بنسبة أقل، لدى قواعد المؤتمر الشعبي العام، التي كانت تثق بقيادتها أثناء تحالفها مع الحوثي وبأن ثمة ترتيباً معيناً للانقلاب على الميليشيات، مع فارق أن الأحزاب الأيديولوجية أكثر انقياداً وتسليما. والمُطرّفية هي حركة علمية وفكرية ظهرت قبل قرون وتوسعت في مناطق التخصيب الإمامي التقليدية، وقالت بجواز مشروعية الإمامة من غير البطنين وتعرضت لبطش شديد حد الإبادة على يد السفاح عبدالله بن حمزة الذي تذكر مصادر التاريخ أنه أباد مئة الف من المطرفية مع نسائهم وذراريهم.
أقول ليست الإمارات ولا السعودية من يضمر شراً لليمنيين بمن فيهم الإصلاح، بل هو المشروع الإمامي الإيراني الشرير، الذي يقتلع الخصوم والحلفاء على السواء، ولنا في ذلكم عبرة شاخصة.
لقد تصدّر الإصلاح مواجهة هذا المشروع وليس أمامه إلا أن يواصل الدرب ويضع يده مع كل القوى التي تناهض هذا الخطر في الداخل والخارج، غير محتكر للتصدر، ويتخفف من كل ثقّالات الماضي وحساباته الضيقة، أما إذا أرخى آذانه للوشايات السامة والهواجس الكيدية، وتعثرت خطاه بين مكائد التزاحم الإقليمي، فإنه سيكون الخاسر الأبرز، وسيواصل الشعب بعدها نضاله لاستعادة بلاده وسينتصر بإذن الله جلّت قدرته.