كتب : عبدالباري طاهر
أما المؤلف.
فهو قادري أحمد حيدر، باحث مهم مُجدّ ومجتهد، ومناضل سياسي مخضرم انتمى باكرًا لفصيل من فصائل الحركة القومية “البعث” الذي تحول لليسار “الطليعة الشعبية”؛ وهو تيار ماركسي ذو جذور قومية. تعرض للاعتقال وهو طالب أكثر من مرة. عاصر التحولات التقدمية في الحركة القومية، وشارك بفاعلية في التحول إلى الفكر العلمي الماركسي.
في مطلع السبعينيات كان قادري في الطليعة الطلابية في الجامعة، وممثلًا “لحزب الطليعة الشعبية” في لجنة الحوار الوطني الطلابي المسمى “اللجنة الطلابية العليا”. شارك في الإضرابات والمظاهرات والاحتجاجات المدنية ضد عسكرة الجامعة و”أسلمة” التعليم. وتصدى إلى جانب رفاقه في اليسار والتيار القومي لمصادرة الحريات العامة والديمقراطية وضد إجراءات السلطة القمعية الاستبدادية في “ج.ع.ي” وتعرض للملاحقات المتكررة، والاعتقال، والتعذيب.
واصل بدأب ومثابرة على التحصيل العلمي في مجال تخصصه “الفلسفة”. وقدم كطالب العديد من الأبحاث والدارسات في السبعينيات، وفي الثمانينيات أصبح عضوًا قياديًا في الحزب الاشتراكي بعد توحيد فصائل اليسار الخمس “في الوحدة الشعبية”، ثم عضوًا في الحزب الاشتراكي. عين ممثلًا “للجبهة الوطنية الديمقراطية” في سوريا ولبنان، واستطاع نسج علاقات جيدة، ومؤازرة التيارات الحزبية والسياسية والفكرية في بيروت، ودافع عن النضال الوطني للجبهة الوطنية في شمال الوطن. استمر في الاهتمام بالدراسة والبحث ونشر العديد من هذه الأبحاث في الصحف، والمجلات العربية خلال الأعوام 82/83/1984. قبل الوحدة وفي المؤتمر الاستثنائي للحزب الاشتراكي في العام 1987، انتخب عضوًا في اللجنة المركزية مع كوكبة من الأسماء: عبد الجليل سلمان، ومحمود مجاهد نعمان، وعبد الله بيدر، وعلي عبد الجليل، وعبد الله الفتيني، وعابد حاشد. وأثناء تشكيل قوائم التوحيد أُسقط من قوام اللجنة المركزية، صمت ولم يثر الموضوع. وهو من القيادات التي أعادت ترتيب الأوضاع “للمثلث”: “صنعاء/تعز/ الحديدة”، قبل الوحدة. ويعتبر قادري أحمد من المفكرين السياسيين البارزين، ويتمتع بحضور فاعل وحيّ في الحياة الثقافية والفكرية العربية، وهو من الكوادر الحزبية البارزة في حقل البحث المعرفي، والسياسي، حيث كان غزيز الإنتاج بطريقة مدهشة. استطاع المثقف العضوي قادري حيدر تقديم العشرات من البحوث والدراسات العلمية ذات العمق المعرفي؛ إصداراته تتجاوز الثلاثة عشر مؤلفًا- كتابًا، في السائد السياسي والتاريخي للحركة الوطنية والسياسية والثقافية بصورة عامة.
أما الكتاب فهو “خارطة الصراع السياسي في مجرى الثورة اليمنية وتكوين الدولة الوطنية المعاصرة، 62-1963-حتى 1990”. الكتاب مكون من 345 صفحة. تناول الباحث فيه العلاقة الجدلية بين جدل القبلية، وبناء الدولة، والنظام السياسي في ثورة الـــ”26 من سبتمبر1962″، وتناول حرية العمل السياسي المدني في شمال البلاد. وفي القسم الثاني تناول المؤتمرات القبلية “كمعارضة سياسية”، ومصادر قوة الجناح القبلي “الجمهوري”. تناول بشمولية وعمق مجرى ثورة سبتمبر 1962، وتحالفات القوى التقليدية، وانقلاب 5 نوفمبر 1967، وأحداث أغسطس 1968، والمصالحة مع الملكيين. كما تناول حربي 1972 و79، بين الشمال والجنوب، وحركة 13 يونيو 1974. وفي الصفحة 16 يشير إلى دور القوات المصرية في دعم “شيوخ الضمان” وهي إشارة صحيحة موثقة ومؤكدة، ويشير إلى قمع قوى الجديد والاتجاهات السياسية وهو صحيح أيضًا، ولكن يقتضي فقط التمييز بين دور عبد الناصر ودور مراكز القوى: عامر، والسادات، وصلاح نصر، ودور الجندي المصري والضابط في الدفاع عن الثورة والجمهورية. وهو ما يعكس الصراع في مصر نفسها (ص 8-9-10). في علاقة القبيلة بالإمامة ركز على أسلوب الإمامة “فرق تسد”، وهو صحيح. ولكن القبيلة في تراتبيتها وعلاقاتها بأفخاذها وعشائرها وما حولها، انقسامية وصراعية منذ النشأة والتكوين بحكم التركيبة والبيئة والظروف المعيشية، حياة الشظف والفاقة حد المجاعة، فلا يغفل هذا الجانب.
قراءته للمؤتمرات متوازنة، ولكن مؤتمر “عمران” الذي شارك فيه بعثيون وماركسيون كان بداية منحى “الذاتية اليمنية” في مواجهة الوجود المصري. وتشكيل جيش قبلي من ثلاثين ألف مسلح يرمي إلى إحلال جيش القبيلة محل الجيش المصري، وكان المؤتمر بداية الانحراف صوب الانشقاق في الصف الجمهوري لصالح الثورة المضادة والتدخل السعودي، وهو ما تجلى في “خمر” و”الطائف” وصولًا إلى نوفمبر 1967.
قراءة قادري لمسار الثورة دقيق ويتسم بنزر غير يسير من الواقعية والعمق. وكذلك قراءته لجذور الثورة المضادة في جدل القبيلة، والدولة، والتضييق على تيار الأحزاب السياسية الواعدة والمؤيدة للثورة. وتتسم قراءته بالاجتهاد والتفتح والنَفَس الديمقراطي في رؤيته لبناء الدولة، ويربط بعمق بين افتعال صراع اليسار واليمين في صفوف الجبهة القومية وصراعات مشيخة القبيلة التي أدت في النهاية إلى وأد ثورة سبتمبر 62، وأدت صراعات اليسار واليمين في الجنوب، إلى كارثة 13يناير 1986، وما تلاهما. وملمح القراءة هنا بالغ العمق والدقة والذكاء (راجع ص 34). ويأتي على إشكالية الأقلمة والتدويل، ويرى (ومعه كل الحق) أن ذلك هو السبب في عجز أنظمتنا حد الفشل في إدارة نفسها بصورة صحيحة (ص35)، فالتجأت للخارج للاستقواء به. وهي أيضًا قراءة مائزة ومتحررة من أعباء الأيديولوجيات المصمتة. ويرفض الحفاظ على النظام السياسي على قاعدة وخلفية الجمود والركود والثبات، وفرض الاستمرار بالقوة في قمة النظام. ويتوقع (وهو ما حصل فعلًا) أن ذلك سيؤدي إلى تفجير الكيان الوطني كله من داخله. وسيعرضه للانقسام والتفتت والتفكك إلى دويلات وطوائف وكيانات ما قبل الشعب والوطن والدولة (راجع ص 36).
ويدرس في الفصل الثاني ثورة الرابع عشرة من أكتوبر 1963، ويتناول الفصل الثاني (ص146- ص318) المواضيع التالية: دولة اليمن الحديثة، وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية 63-1990، وتوحيد الدويلات، ومفاوضات الاستقلال وبناء الدولة الوطنية، ومسار ثورة الرابع عشر من أكتوبر.