عبده وازن
لعلها واحدة من الصدف الغريبة، أن يصدر كتاب “إيطاليا الخفية” للكاتبة اللبنانية المقيمة في إيطاليا هدى سويد، غداة انتشار وباء كورونا في أرجاء البلاد وإحداثه كارثة مأساوية نادراً ما شهد تاريخها ما يماثلها في فظاعتها ورهبتها. ولئن صدر الكتاب بعد شيوع هذا الوباء في بلاد دانتي ودافنشي ورافايلو (دار بيسان 2020)، فالكاتبة أكبّت على تأليفه منذ سنوات بعدما جابت أنحاء البلاد، مدناً وسواحل وأريافاً وقرى، مدوّنةً ملاحظاتها وانطباعاتها، ساعيةً إلى أن يكون كتابها بمثابة رحلة شاملة، في الجغرافيا والتاريخ والعمران والفن والأدب. والعنوان الذي اختارته يبدو جاذباً فعلاً وحقيقياً، فهي تقدم للقارئ مشهداً، بل مشاهد مختلفة وغير مألوفة لإيطاليا المعروفة والمجهولة في آن واحد، معتمدة مرجعين، الأول هو شخصي في ما يعني من سفر وتنقل ومعاينة بصرية واحتكاك مباشر مع ما تكتب عنه، والثاني معرفي قائم على البحث في التاريخ والفنون وسائر العناصر المعرفية. وهكذا، تمكّنت الكاتبة كما تقول في مقدمتها من “تسليط الضوء على جوانب غير معروفة في إيطاليا، وتناول مواضيع بعيدة إلى حدٍّ ما عن مواضيع المدن الكبرى، والتركيز على إيطاليا الخفيّة أوالمستترة بما فيها من مدن صغيرة، بلدات وقرى، عادات وتقاليد بعيدة من الدعايات السياحية”. وفعلاً من يقرأ الكتاب يدرك فوراً أنه ليس إزاء كتاب سياحي أو تحقيق صحافي يساعده في اكتشاف إيطاليا جغرافياً وتاريخياً، بل يجد نفسه أمام كتاب إبداعي يقوده في ما يشبه رحلة جمالية وأدبية وفكرية إلى إيطاليا في مختلف وجوهها الحضارية والفنية.
رحلة غوته
لا يسع القارئ هنا إلّا أن يتذكر الكتاب البديع “رحلة إيطالية” للفيلسوف والشاعر الألماني الشهير غوته، الذي كان يعدّ رحلته إلى إيطاليا بمثابة حدث كبير في حياته. وهو عبارة عن يوميات كتبها شاعر مخضرم عاش في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ودوّن فيها تجربته في السفر إلى إيطاليا التي كان يعتبرها موئل الفنون ومجمع الآثار العظيمة لعصر النهضة. ومعروف أن غوته دوّن يومياته هذه خلال قضائه أشهراً في فيرونا، البندقية، روما، متوقفاً أمام المعالم والآثار، وزائراً المتاحف ومستجلياً جماليات عصر النهضة وفلسفته. وهذا الكتاب يُعدُّ من عيون أدب الرحلة في العالم ولا يزال يشكّل مرجعاً راسخاً لقراءة الحضارة الإيطالية في أبرز تجلياتها. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، الذي يهوى أدب الرحلة وله فيه إنجازات مهمة، قرّر خوض رحلة غوته إلى إيطاليا، فسار على خطاه، جاعلاً من الكتاب مثابة دليل لاستعادة هذه الرحلة التاريخية وتعقّب الأماكن والمتاحف التي زارها صاحب “فاوست”، مطلقاً مخيلته من أجل كتابة رحلة أخرى، حديثة، ترصد التحولات التي طرأت على المشهد الإيطالي العام. وقد دأب السويدي على نشر فصول من رحلته هذه، تعبّرعن فرادة مشروعه، على أن يجمعها لاحقاً في كتاب.
وما تجدر الإشارة إليه أيضاً هو أن هدى سويد تبدو كأنها حفيدة الأمير اللبناني فخر الدين في رحلته الشهيرة إلى إيطاليا والتي دوّن خلالها ملاحظات وانطباعات صدرت لاحقاً في كتاب عنوانه “رحلة الأمير فخر الدين إلى إيطاليا 1613- 1618″، وقد أعادت دار السويدي والمؤسسة العربية نشره في تحقيق أنجزه قاسم وهب. كان الأمير حينذاك في ما يشبه المنفى الاختياري الذي دام خمسة أعوام، وتنقّل بين توسكانا وصقلية ونابولي. وزار المتاحف والساحات والقصور والأسوار والجسور والكنائس كما يعبّر في يومياته، وقصد المستشفيات والسجون والبنوك والمطابع، وفي رأسه مشروع تطوير بلاده على الطريقة الإيطالية. وقد توقف فخر الدين عند العادات وطرائق العيش وطقوس الأعياد والمواسم والملابس والأطعمة وحتى عند اللغة ومصطلحاتها.
قد تكون رحلة هدى سويد واحدة من إحدى الرحلات الطويلة والشاملة إلى إيطاليا المعروفة والمجهولة، التي قرأنا عنها ولم نقرأ، خصوصاً في اللغة العربية. وتبدو في ما كتبت أنها لم تقصد الترحال بين المدن والقرى بهدف السياحة وتزجية الوقت، بل وضعت نصب عينيها منذ اللحظة الأولى، أن الرحلة ستكون مادة لكتاب، في مسار جغرافي وثقافي وفني. وممّا ساعدها هو أنها تعيش في إيطاليا منذ أكثر من عقد، وتُلمّ بروحية الأمكنة، وكان إلى جانبها رفيق سفر هو زوجها المهندس ألدو رولا، ومثل هذا التنقل في أوساط البلاد يفترض الرفقة، لما يواجه من مصاعب وربما مشقات في أحيان. وتقول هدى في هذا الصدد إنها لم تعوّل كثيراً على مصاعب البدايات، و”إن كانت عبارةً عن انطلاق من نقطة صفر في بلد حمل الكثير من المفاجآت، من دون أن تستنزف أو تستوقف الأحلام”. وقد صادفها منذ مجيئها إلى إيطاليا ما تسمّيه “انقلاب” المكان من كونه حيّزاً جغرافياً ساحراً كما رسمته في مخيلتها، إلى فضاء قلق وغير مستقرّ اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. وتقصد الصعوبات، بل التحدّيات التي واجهتها إيطاليا سواء بمفردها أو داخل المجموعة الأوروبية، وفي مقدمها صدور العملة الموحّدة (اليورو) في الأول من يناير (كانون الثاني) 1999 وما أعقبه من مشاكل على الصعيدين السياسي والمالي، إضافةً إلى أن إيطاليا لم تكن مهيّأة للانفتاح على الأجنبي، هي المُسّنة التي يُولد فيها أربعة أطفال سنوياً مقابل وفاة 400 شخص ما بين ليلة وضحاها، بحسب الإحصاءات. لكنّ إيطاليا، هي الدولة السابعة صناعياً على المستوى العالمي والثالثة أوروبياً بعد ألمانيا وفرنسا، إلى كونها البلد الأكثر غنى في المتاحف والكنوز الفنية.
البلاد المتميزة
وبعد تطرّق سويد إلى التحديات الكثيرة التي عاشتها وتعيشها إيطاليا، مرحلة تلو أخرى، تخلص إلى أن إيطاليا “بقيت فريدة بتمايزها وتنوّعها اللّذين من الصعب أن يتكررا بين إقليم وآخر، فلكلّ مقاطعة تباينها المجتمعي وخصوصيتها التاريخية، الاقتصادية والحضارية” وما تختزن من تنوع لغوي وسلوك وعادات وقيم، إضافةً إلى نتاج فكري وثقافي وإبداعي. وتقول سويد إن إيطاليا لم تصنعها روما والمدن الكبرى فقط، وإنما كل أقاليمها وقراها.
زارت هدى سويد معظم الأقاليم بدءًا من ليغوريا، حيث تقيم وقد جعلت بيتها هناك بمثابة “استراحة المقاتل”، تعود إليه قليلاً بعد غياب. أما المدن المعروفة والمستترة، القريبة أو النائية، التي زارتها وحطّت رحالها في ربوعها، فهي بدءًا من أقاليم شمال ـ غربي الخريطة: ليغوريا، وادي أوسطا، بيمونتي ولومبارديا، وانتهاء في أقاليم شمال ـ شرقي الخريطة: فريولي (فنيسيا وجوليا)، فينيتو، ترانتينو، آلتو آديجي وأميليا رومانا، مروراً بالوسط كإقليم توسكانا، ماركي، لازيو وأومبريا حتى الجنوب وما يتضمنه، مثل: أبروزو، موليسي، كامبانيا، بازيليكاتا، بوليا وكلابريا، إضافةً الى جزيرتي صقلية وسردينيا… ناهيك عن جمهوريتي “سان مارينو” و”الفاتيكان” المستقلتين بحكم ذاتي.
ومثلما أن رحلة سويد هي سفر في المكان أو الجغرافيا، فهي شملت في الوقت ذاته تاريخ إيطاليا عبر عددٍ كبيرٍ من آثارها التي تركتها الحضارات القديمة من إغريقية، فينيقية، أتروسكية، رومانية، بيزنطية، إسلامية، والحديثة من إسبانية وفرنسية… اطّلعت سويد كما تقول، على جذور إنسانها القديم وحضاراته كـ”النوراغية” في سردينيا، و”السيكولي” في صقلية و”الليغوري” في ليغوريا… زارت المدن الكبرى مثل روما، ميلانو، جنوى، فلورنسا، سيينا، صقلية، نابولي، و زارت أيضا بقايا مدن تاريخية مثل بومباي. وفي هذا المسار، أُتيح لها أن تشاهد الآثار بل الروائع الفنية الثقافية من نحت وتشكيل، فإيطاليا تختزن 30 في المئة من الإرث الثقافي عالمياً، وقد أُدرج نحو 45 موقعاً فيها، على قائمة الإرث الثقافي والإنساني لليونسكو.
تسرد سويد زيارتها إلى المتاحف البارزة، كمتحف الفاتيكان الذي يُعدُّ ينبوع الفن الديني، ومشاهدتها لفنون عصر النهضة في غاليري “أوفيزي” و”الأكاديميا” في فلورنسا، وغاليري “بورغيزي” في روما، و”كابودي مونتي” في نابولي، و”آيجيزيو” أو المصري فيتورينو و”سانتا ماريا دي لا سكالا” في سيينا… وواجهت، كما تقول، للمرة الأولى رواد فن النحت في عصر النهضة، وتأمّلت روائع منحوتاتهم كـ”داوود”، “قبور ميديشي”، “الشفقة”، “موسى” لميكيل أنجلو،”أعمدة ونافورات برنيني”، ناووس “أيليريا دل كاريتّو” أو “جنائزية أيليريا” لجاكوبو دلّا كويرشا، “الوجه المقدس” لسان نيكوديمو. كما تسنّت لها الفرصة لرؤية روائع الفن الأتروسكي ومنها “ناووس الزوجين” وغيرها من التحف والمنحوتات… إضافةً إلى الروائع التشكيلية كـ”العشاء الأخير” لليوناردو دا فينشي، و”أفريسكي” أو جداريات “جيوتو”، لرفايلو وميكيل أنجلو، و”بريمافيرا” أو الربيع لبوتيشيلّي وغيرها لكارافاجو…
وتروي كيف عرّجت على مناطق صُوّرت فيها أجمل الأفلام الإيطالية والعالمية، ومن مخرجيها: فيتوريو دي سيكا، لوكينو فيسكونتي، روبرتو روسوليني، فديريكو فلليني، بيار باولو بازوليني وسيرجيو ليوني… عطفا على المخرجين المعاصرين ومنهم باولو صورنتينو، جوزيبي طورناتو، ماتيو غاروني، ناني موريتي، كاستيليتو وروبرتو بينيني. شاهدت أيضاً بركان الـ”فيزوفيو” وما نثر من رماد في مدينة بومباي، وسارت فوق فوهة بركان الـ”أتنا” الهامد في صقلية وفي وادي معابدها، زارت ضريح أركميدي، منحوتة الـ”ساتيرو” والمسارح الإغريقية والرومانية، ومتّعت عينها في فن زجاج المورانو في فينيسيا وفن السيراميك في أبرز مدنه. وشاهدت أعياداً ومهرجانات دينية وشعبية، كمهرجان الأقنعة في فينيسيا و”فياريجيو”، سباق الأحصنة في ميدان سيينا، مهرجان المامويادا في سردينيا، السمك في “كاموليّي”، الأخطبوط في “تيلارو”، “فوكاشا دي ريكو” في ريكّو الجنويّة، الكستناء في ليشيانا و”الفالو” في توسكانا… وأنصتت إلى لغاتها المختلفة ما بين إقليم وآخر، أغانيها، تراتيل طقوسها الدينية…
وتشير سويد إلى أنه من الصعب اختزال الحديث عن إيطاليا، فهناك مواضيع كثيرة “لم أتطرق إليها في كتابي هذا الذي هو ثمرة جهد سنين إقامتي، وتطلّب الكثير من الجهد الميداني والمعلوماتي سواء من خلال مَن صادفتهم، أرشيف، انسيكلوبيديا، مواقع أو كتب كنتُ دوماً أقتنيها في جولاتي واستقراري وجميعها تصبّ في خدمة هدفي هذا”…
يصعب فعلاً اختصار هذا الكتاب الذي ينتمي في وقت واحد إلى أدب الرحلة وأدب اليوميات والانطباعات، فهو حافل بالوقائع والمشاهدات، خصوصاً أن كاتبته جابت رقعة جغرافية هائلة تضم ما تضم من مدن وقرى وشواطئ ومتاحف ومعارض وقصور ومنازل فنانين وادباء. وقد اعتمدت سويد أسلوبا يجمع بين السرد والوصف والتوثيق والتحليل، ما جعل القارئ يقبل عليه بمتعتين: متعة الإكتشاف ومتعة السرد. وقد نشرت في ختام الكتاب ألبوما من الصور الجميلة التقطتها بكاميراها بعين مرهفة.
المصدر : الأندبندنت