كتب : قادري أحمد حيدر
محمد سالم باسندوه شجرة أغصانها وارفة بظلال المحبة والسلام لكل ما حولها، هو أبن حضرموت وعدن، هو خلاصة معنى اليمن بكل ما تحمله دلالة كلمة اليمن من معنى في الذاكرة الوطنية والتاريخية لنا كيمنيين، لم تشوهه سفاسف الأمور وهوامش التحديات السياسية العابرة. وحين قلت أنه الحضرمي المولد/ والعدني التنشئة، والهوى والدرس والتربية، لأن حضرموت، وعدن، ومعهما تعز والتهائم هم خلاصة معنى اليمن المدني التحرري الديمقراطي الذي كان في الوعي والذاكرة، وما يزال يقود ثقافة الجغرافيا السياسية، والوطنية نحو تأصيل وتعميق الانتماء والولاء لمعنى اليمن كهوية ثقافية حضارية، أي بما يقودنا إلى اليمن الثقافي والحضاري. وبالنتيجة يقودنا نحو التأسيس لبناء الدولة الوطنية المدنية الجامعة لكل أبناء اليمن من مبتدأ الأرض، إلى أقصى مداً لتشكل الذات الإنسانية .
محمد باسندوه، المثقف أولاً، والسياسي المدني ثانياً، منذ بواكير نشأته الثقافية والوطنية ولد حاملاً هما كبيراً، هو هم الوطن اليمني الديمقراطي الموحد، وبدأ في السير نحو ذلك الحلم تدريجياً منطلقا من مدينة المحبة والتعايش والتسامح والسلام عدن، عدن التي تذكرني من حيث طبيعتها، ومدنيتها وتسامحها وحضاريتها، بمدينتي القاهرة، والاسكندرية في مصر العروبة.
فكما كانتا هاتان المدينتان (القاهرة / الاسكندرية) بوتقة ومرجل تصهر الحجر والبشر في داخلها وتعيد تشكيل كل ما يأتي وافداً إليها من كل الأجناس، والأديان، والمشارب الفكرية والثقافية لتخلق من ذلك الاختلاف المتعدد، ذلك الواحد المؤتلف، الذي يرى ويجد الجميع أنفسهم فيه، وكأنهم هو، وكأنه هم.
عدن بجغرافيتها الطبيعية/ الاجتماعية والسياسية، تمكنت تاريخيا من القيام بذلك الدور – على الأقل – بداية من آواخر النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
محمد سالم باسندوه، المثقف والإنسان هو خلاصة وعصير ذلك التماهي الإبداعي الخلاق بين الجغرافية العدنية المدنية المتسامحة، وبين الديمغرافية اليمنية.
منذ لحظة انطلاقته السياسية – منتصف الخمسينيات – المشفوعة بخلفية فكرية وثقافية عميقة كان ينميها ويطورها في سياق رحلته مع الناس، وفي قلب الحياة, وكانت اليمن الاستقلال والحرية والوحدة عنوانه البارز، وكانت عدن واستقلالها نقطة الانطلاق. خاض معاركه السياسية بشرف الفارس النبيل، صاحب المهمات والغايات النبيلة التي يأنف من الوصول لتحقيقيها عبر وسائل غير شريفة، فالغايات والأهداف الكبيرة لا نصل إليها إلا بوسائل وطرائق تشبهها، ولا تتناقض معها، وهي البداية التأسيسية لنقطة انطلاقه في ممارسة العمل السياسي، ولذلك لم يقف موقفاً ضدياً وعدائياً من رفاقه ومن الآخر، الذين قرورا اتخاذ نهج الكفاح المسلح خياراً في مقاومة الإستعمار البريطاني، وفي بعض الحوارات الموثقة معه، كان يقول ليسيروا على بركة الله ونحن سنلحق بهم، لم يفتعل موقفاً صراعياً عدائياً مثل البعض مع نهج خيار الكفاح المسلح، والأهم أنه لم يمالئ الاستعمار، أو يهادنه تحريضا ضد من يختلف معهم في السياسة، ولكنه التزم بخيار حزبه السياسي (حزب الشعب الاشتراكي)بالسير بالعمل السياسي المدني الديمقراطي على طريق التحرير، بل هو كان يدعم سياسياً من كان يرى في الخيار المسلح طريقا للتحرير على عكس البعض الذين ناصبوا خيار الكفاح المسلح الرفض، بل والعداء، في العلن أو في السر، بل وراهنوا على المفاوضات كحل وحيد للتحرير السياسي والوطني على طريق الاستقلال، وأن ما عدا ذلك باطل، وهذه ميزة سياسية تحسب له، وتعكس روحه الفكرية/ الثقافية المفتوحة على الآخر المغاير، وكل سيرته الذاتية السياسية والثقافية والوطنية تقول ذلك بكل جلاء ووضوح.
محمد سالم باسندوه (أبو خالد) رمز سياسي وثقافي ووطني كبير، هو إمتداد ذاتي متطور لصورة الرعيل الأول من المثقفين اليمنيين الأحرار في الشمال والجنوب. فيه ترتسم صورة وسلوك المثقفين الكبار، ففي سيرته الذاتية وسلوكه، ستجد صورة محمد علي لقمان، عبدالمجيد الأصنج، أحمد محمد نعمان، محمد محمود الزبيري، وعبدالله علي الحكيمي، حتى صورة محمد سعيد مسواط.
أن تمعنت في صورته وسيرته ستجد هؤلاء جميعاً فيه، وفي داخله يتحركون .. ستراه يتحدث عنهم وباسمهم ويقول الكثير مما لم يمكنهم قوله، وكأنه – بصورة أو بأحرى – الاستمرار الذاتي/ التاريخي لهم في شرط موضوعي مغاير. أنه جدل التراكم التاريخي في الوعي والثقافة والذاكرة في حالة إنتقال من الكم ، إلى الكيف.
لديه ثقافة تاريخية معتبرة، إلى ذاكرة شعرية تدل على قراءة متمرسة ومتعمقة لتاريخنا الوطني، وللتاريخ العربي الاسلامي.
هو سنديانة يمنية خضراء وبيضاء وحمراء وبرتقالية، وسمراء، سنديانه عميقة الغور في التربة اليمنية، وفي الثقافة والتاريخ والحضارة.
إنه باسندوه الجمال في الروح والشكل تتفق معه أو تختلف لا تستطيع إلاَّ ان تحبه وتحترمه.
وهو في الشارع (خارج السلطة) بسيط ومتواضع ومتسامح، والأهم متصالح مع نفسه في كل شيء، وهو في قمة السلطة، أكثر بساطة وأكثر السياسيين تسامحاً وتواضعاً مع من يختلفون معه.
والأصل المفسر لذلك السلوك هو أنه أبن المدائن اليمنية كلها: من سيئون، والمكلا، والشحر، إلى عدن فضاء المدينة المفتوح، إلى تعز وهی واحدة من بؤر انطلاقته لممارسة الفعل الوطني, إلى صنعاء، إلى التهائم بكل امتداداتها في كل الوطن اليمني.
إن محبة معظم اليمنيين البسطاء له، وكذا المتنورين من السياسيين والمثقفين، آتية من تلك البساطة والتواضع، ودماثة الخلق الذي تفيض منه كإنسان تجاه الجميع، ومن هنا كنه وسر إنسانيته ويمنيته الأصيلة والعميقة التي لا تتلون بتلاوين المصالح السياسية العابرة.
لقد جمع باسندوه بحق، بين المثقف والسياسي النبيل بجدارة، تذكرني في هذا الصدد والسياق بجملة من الأسماء: منهم د/ حسن مكي، والأستاذ/ عمر بن عبدالله الجاوي.
جميعهم كانوا يبكون من شدة الحزن، ومن وطأة قهر الأخر عليهم، وهم كذلك يبكون وهم في قمة الفرح، لأنهم أسوياء طبيعيونعلى المستوى الإنساني ومتسقون مع أنفسهم، في حين يكتنز العقل الذكوري “الرجولي”: البدوي، والقبلي، غلظة في الطبع، وقصور بنيوي في الإدراك والفهم للمعنى الإنساني الشامل، ولذلك تقاطع وتعادي محاجر عيونهم الدمعة، باعتبارها – الدمعة والبكاء – إنتقاص من ذكورية ورجولية، الإنسان القوي : إنها رجولة/ وفحولة القبيلي والبدوي، وقاطع الطريق، وجميع المشمولين بالعداء للثقافة والمدنية والحداثة المعاصرة.
محمد سالم باسندوه (أبو خالد) واحد من الرموز الفكرية والسياسية الوطنية الكبيرة أرتبط أسمه بالنضال السياسي الوطني والديمقراطي ، في الجنوب ضد الاستعمار البريطاني، وضد الاستبداد الإمامي في شمال اليمن، من خلال موقف حزب الشعب الاشتراكي، من الإمامة، ومع ثورة 26 سبتمبر 1962م ومع قضية الوحدة اليمنية .
جمع بصورة مبدعة وخلاقة بين الثقافي والسياسي في سلوكه السياسي والوطني العام، والذي تجلي وتجسد في علاقته بالأخرين من حوله.
دافع عن قضية الجنوب اليمني في المحافل الدولية، ووثق ذلك، قي كتاب جميل يحوي كل ذلك، بلغة ثقافية، وسياسية رصينة تعكس روحه المتسامحة وعقلانيته في التفكير، وموضوعيته في النظر للأشياء. كما له كتب وكتابات أخرى منشورة.
شخصية حوارية، في عقله مكان ومتسع لحضور الأخر المختلف، ولذلك هو غير صدامي تفتقر مفردات خطابه الخاص، والعام، إلى كل ما يؤسس ويقود إلى خطاب الخصومة والكراهية. كان نقطة تلاقي بين الجميع وقاطرة تجسير للعبور إلى المختلف حيثما كان.
ومن يتابع سيرتة الذاتية السياسية والنضالية وهو في خارج السلطة، أو في قلبها، سيجد عنوانها البارز التسامح، والحوار طريقا للتكامل والتعايش مع كل من حوله. هذا هو أبو خالد في كل المراحل/ والأزمات. ليس مصادفة ولا عفو الخاطر أن الجميع أتفق على اسمه بعد ثورة فبراير 2011م ليكون في موقع رئاسة حكومة الإنقاذ، الحكومة التي مع الأسف لم تحمل من أسمها شيئاً.
إن اختياره جاء لكونه كان من أول المساندين لإنتفاضة أو ثورة الشباب وهو الذي قال في كلمته السياسية المبكرة في ساحة التغيير إنها “وثبة”، وإنتفاضة شعب لخلق مجتمع سياسي جديد، ودولة وطنية حديثة كما أن اختياره من قبل الجميع وبصورة شبه توافقية، ذلك لأن الجميع أو الأغلبية، كانوا يرون فيه شيئاً منهم، شيئاً مشتركا يجمعهم ويوحدهم به، دون إهمال أو تجاهل أن هناك من كان يرى فيه عصا سهلة التطويع، بل وحتى الكسر أن إستدعى الأمر ذلك، وبسبب طبيعته المدنية الحوارية/ السلمية، فقد تعرض لضغوطات من جميع جهات العنف، والقوة للتأثير عليه وللضغط لإبتزازه، بل وحتى التهديد لإسمه وكيانه كشخص، خاصة وأنه جاء رئيسا لحكومة في أصعب وأعقد الظروف، والأخطر والأهم أنها حكومة موزعة مناصفة بين طرفين متصارعين بكل ما تحمله الكلمة من معنى، طرف يحلم ويريد بناء الدولة، وآخر يقاتل لإستدامة دولة المركز والعصبية والفردية, بل والأهم هنا أنه جاء لرئاسة الوزراء بدون سند قبلي، ولا عسكري، ولا حزبي، ولا حتى سند اقليمي.
ومن هنا محاولة تقيمنا المنصف له وهو في قمة رئاسة الوزراء، التي تعرضت لبعض اللبس بل والتشويه.
إذا كان الأستاذ محسن العيني ابن القبيلة والسياسي المحنك وجد نفسه في ظرف مشابه من بعض النواحي، ومختلف من نواح عديدة، عاجزاً وفاقداً للقدرة على عمل شيء كرئيس وزراء، ففي تقديري أن محمد سالم باسندوه وجد نفسه في موقف أصعب وأعقد وأشد خطورة وحساسية ليس على حياته فحسب، بل وأشد حساسية وخطورة على مسار كل التجربة السياسية والديمقراطية والوطنية، وهو ما أكدته وتقوله الحقائق والوقائع التي نعيش مراراتها الفادحة اليوم.
كان باسندوه رئيسا للوزراء، يتحرك في بحر من الألغام، والمكائد السياسية، بل والمؤامرات القذرة التي يشيب لها رأس الولدان، ويعجز أمامها عقل الخبير السياسي المحنك.
ومن هنا محنة وجوده، واستمرار بقائه في قمة رئاسة الحكومة، بعد أن وجد نفسه، في حالة صدام حتى مع رئيس الدولة الذي حاول أن يقفز على معنى وجوده كرئيساً للوزراء في أكثر من موقف.
ناهيك عن ضغوطات مراكز القوى المشيخية والقبلية، والدينية، والعسكرية والأمنية، من بقايا النظام القديم التي كانت ما تزال تمسك بجميع تفاصيل اللعبة السياسية والأمنية والعسكرية، بل وحتى المالية في البلاد.
والحديث عن وجود باسندوه في هذه المرحلة يدخل ضمن نطاق التاريخ السياسي لمرحلة هي في تقديري من أصعب وأخطر المراحل في تاريخ اليمن السياسي المعاصر، تحتاج لمناقشة مفصلة مستفيظة أخرى من مختصين ليس هنا مقامها.
ولا أنسى هنا الإشارة إلى أنني استطعت ومن خلال وجوده في رئاسة الحكومة الحصول على العديد من المساعدات العلاجية لبعض فقراء البلاد الذين لم يكن بإمكانهم الوصول إلى رئيس وزراء، وكانت مساعدات طيبة سخية من كريم المثال، ولم أستغل لحظة هذه العلاقة يوماً للحصول على أي شيء يخصني، وهو يعلم ذلك ، وكما كان هكذا معي، كان مع الجميع بنفس السوية في التعامل .
إن ما قادني إلى هذه الكتابة التلقائية/ العفوية غير المبرمجة في ذهني، هو رحيل زوجته الكريمة (أم خالد) خديجة سالم العمودي، منذ ثلاثة أيام فأحببت بعد اتصالي التلفوني معه معزياً، أن أحييه في كلمة، فوجدتني أخوض فيما تقرؤون، ذلك أنني وجدت نفسي أمام اسم علم وطني كبير هو جزء أصيل وعميق من تاريخ حركتنا السياسية الوطنية والديمقراطية اليمنية، اسم جليل يستحق منا كل الثناء والتقدير والعرفان والاجلال والتكريم. ولكننا كعادتنا قليلي الوفاء لم نتعود تكريم من يستحقون ذلك، وهم بيننا، ننتظر مرضهم أو رحيلهم المفاجئ لنقول عنهم ما يستحقون من تكريم وهم بيننا، كأننا لا نحب ولا نقدر رموزنا إلا وهم موتى، أو قتلى، ليستحقون التكريم بالكتابة عنهم وهم أحياء، ومثل هذا السلوك منا إنما يعكس في الحقيقة موقف فيه تمجيد للموت على الحياة، أو بتعبير آخر تفضيل للموتى، واحتقار للأحياء والحیاه.
كل العزاء الكريم لك في رحيل أم خالد، صديقة ورفيقة العمر لما يزيد عن ستة وخمسين عاماً، من الألفة والمحبة المشتركة.
ولا أراك الله مكروها، وإلى جنة الخلد إن شاء الله.
ولك عزيزي واستاذي كل الصحة والمحبة والسلام.