مصطفى الفقي
قد يتوهم كثيرون أنّ وباء كورونا أمرٌ يتعلق بالصحة العامة وحياة البشر، ويقف عند هذا الحد، بينما التحليل الأعمق يصل بنا إلى نتائج مختلفة، لقد كشف انتشار هذا الوباء المستجد عن كثيرٍ من الثغرات والأخطاء والتجاوزات التي مارسها الإنسان ضد البيئة والحيوان والطير والنبات بكل أنواعها، لقد أسرف الإنسان المعاصر على نفسه فخرق طبقة الأوزون، وفتح الباب على مصراعيه لدخول عصر يبدو كالنفق المظلم لا تبشّر نهاياته بالثقة بالمستقبل أو حتى اليقين في الحاضر.
فالتغيّرات المناخية ونقص الطاقة وندرة المياه وتلوث البيئة وتعكير الأجواء كل هذه ملامح عارضة لمرض أصيل، وهو أن البشرية دخلت في مرحلة جديدة تحتاج إلى إعادة النظر في كل شيء تقريباً مع ترتيب الأوراق على نحو يسمح بضمان ديمومة الحياة على كوكب الأرض، في وقت بلغ فيه التقدم التكنولوجي والبحث العلمي درجة فائقة، ومع ذلك تمكّن فيروس صغير من أن يقود العالم إلى حيث يريد، وفرض على الكل بغير استثناء دخول الجحور فزعاً وقلقاً من ذلك الزائر الجديد الذي لا يبدو أنه سوف يكون الوحيد.
لذلك، فإنّ أكثر ما يقلقنا جميعاً هو أن يكون لذلك الفيروس توابع أخرى، مثلما يحدث مع الزلازل، ولقد أشار كثيرٌ من المعنيين بشؤون الصحة الدولية أن نشاط الفيروسات يتزايد. لقد شهد القرن الواحد والعشرون وعلى امتداد 20 عاماً فقط ظهور إنفلوانزا الطيور، ثم عدوى سارس، ثم إنفلوانزا الخنازير مع عشرات أخرى من الفيروسات الفتاكة، حتى وصلنا إلى ذلك اللعين المسمى كورونا.
والأمر في نظري لا يقف عند هذا الحد، إذ إن الارتباط بين المستوى الصحي في بلد معين ودرجة رقيّه ونهوضه أمر لا يحتاج إلى بيان، وأزعم أن محنة كورونا كشفت لدينا في العالم العربي عواراً كبيراً لا يقف عند حد، فالبحث العلمي متخلف وتقنيات الطب العلاجي غير متوفرة للجميع، لكنها حكر محدود على بؤر صغيرة في بعض العواصم العربية.
لقد اختلط المشهد في الأشهر الأخيرة بين انتشار الوباء والقضايا المعلّقة والمشكلات المزمنة والأزمات الطارئة في أرجاء الوطن العربي، بدءاً من سوريا ولبنان، مروراً بالعراق، وصولاً إلى اليمن، وانتهاءً بالوضع المضطرب في ليبيا، وكيف تعبث جماعات إرهابية بأمن الدول العربية، إذ ما زال تنظيم داعش يضرب في العراق وسوريا، ويحرّك فلوله في شبه جزيرة سيناء المصرية، وهنا يثور التساؤل: هل نستطيع القول إن انتشار الأوبئة سوف يكون له تأثير سلبي في امتداد الإرهاب وزحف موجاته؟
المواطن العالمي اكتشف في كل مكان أنه لا بدّ من أن يعيش تحت مظلة رسمية لدولة تحميه، وأنه لا يمكن أن يكون فرداً يهيم على وجهه يواجه الوباء والإرهاب والفقر وحيداً مشرداً. والآن دعني أضع بلورة لبعض الأفكار المتصلة بهذا الحدث الجلل:
أولاً: هناك من علماء السياسة وأساطين الشؤون الدولية من يرون أن وباء كورونا بعد انحساره قد يؤدي إلى تقوقع القوميات والانكفاء على الذات، بل ويضيفون إلى ذلك أن الصين التي بدأ منها الوباء هي أكبر نموذج للدولة المغلقة في ظل قومية ضخمة ذات تاريخ طويل، وأن حالة من الشيفونية سوف تستبد بكثير من الدول الوطنية المعاصرة، على نحو يؤدي إلى الانكفاء على الذات، والابتعاد عن الغير، وبروز نوع من الأنانية السياسية والاقتصادية إذا جاز التعبير.
ثانياً: يوجد رأيٌّ آخر في المقابل يرى عكس ذلك، إذ يتصوّر أن المحنة المشتركة في الأشهر الأخيرة أشعرت الدول والشعوب والمجتمعات والأفراد أنه لا بديل عن التضامن الدولي والتكاتف في مواجهة الأعداء الجدد للبشرية وللحياة، وقد يؤدي ذلك إلى دخول بنود جديدة في مواثيق التجمّعات الدولية والإقليمية تلزم صراحة بالتضامن والمساندة في مواجهة هذه المخاطر الجديدة، بحيث تصبح المنظمات العالمية ذات طابع سياسي اقتصادي ثقافي اجتماعي وصحي أيضاً، يواجه الأوبئة ويتعامل مع الأمراض الجديدة التي تجتاح الكون، كما حدث في موضوع كورونا. فالإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان، وعندما ضرب الوباء العالم لم يفرِّق بين جنسية وأخرى، كما لم يبحث عن أتباع ديانة معينة أو جنس بذاته، فكلنا سواء أمام ذلك الداء.
ثالثاً: كانت تصيبني الدهشة، وأنا أرى أطباء مصريين أو سودانيين أو سعوديين أو مغاربة أو غيرهم من الجنسيات العربية الأخرى يواجهون المرض بكفاءة واقتدار في المستشفيات الأميركية والإيطالية والفرنسية والبريطانية وفي عواصم أخرى من العالم، وأتساءل: لماذا فرَّطنا في هذا الرصيد الهائل من الجيش الأبيض الذي يعرف معنى الطب الوقائي والطب العلاجي في الوقت نفسه؟ متى تعود الطيور المهاجرة إلى بلادها التي تبدو أنها في أشد الحاجة إليها؟ أما آن الأوان لكي نستعيد الثروة البشرية العربية الهائلة المبعثرة في أنحاء الدنيا؟ هل لدينا نموذج متكرر من العالم الفذ وجرّاح القلوب العالمي مجدي يعقوب؟
دعنا نبحث عمّن يتحملون المسؤولية الوطنية، ويشاركون معنا في السراء والضراء، وليس سراً أن مصر وحدها نزح منها عشرات الآلاف من الأطباء في السنوات الأخيرة بحثاً عن حياة أفضل ودخل أكبر، ولذلك فالأمر يحتاج إلى مواجهة شاملة، ونظرة بعيدة تُعيد الكفاءات إلى أوطانها، وتستعيد الخبرات إلى بلادها.
رابعاً: رغم أن المحنة لم تنحسر تماماً، والوباء ما زال يتحوّر ويأخذ أشكالًا جديدة، فإن بداية الصراع السياسي الاقتصادي بين القوى الكبرى بدأ يتحرّك، فالحرب التجارية والنقدية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين احتدمت، وواشنطن تطالب بكين بالتعويضات عن انتشار الوباء وبدايته منها، بل وتضيف إلى ذلك أن الصين لم تعتمد مبدأ الشفافية منذ البداية، بل أخفت معلومات وحقائق عن ذلك الفيروس حتى الآن، والصين من جانبها ترتّب أوضاعها وتدعم اقتصادها، وتفك الاشتباك بين عملتها والعملة الأميركية.
ولذلك، فإننا نتصوّر أن الأوضاع الاقتصادية في السنوات المقبلة سوف تظل متأخرة نتيجة لما جرى، وقد لا تتعافى سريعاً، إذ إن كل الاقتصادات تأثرت من دون استثناء، وأصبح على الجميع إعادة التفكير في أوضاعه، وترتيب البيت من الداخل وفقاً للحقائق الجديدة والمعلومات المتوفرة.
خامساً: إنني أظن ويشاركني في ذلك كثيرٌ من المعنيين بالدراسات السلوكية والبحوث النفسية أن إنسان ما بعد كورونا سيصبح مختلفاً عنه قبلها، لا يخلو من قلق، ولا يخرج من حالة الذعر التي عاش فيها، ويترقّب الأيام المقبلة، على أمل أن تكون أفضل من معاناته في أشهر انتشار الوباء، كذلك فإنّ الحياة الاجتماعية لم تعد كما كانت، كما تعرّض نموذج الأسرة إلى اختبار صعب، وحدثت هزة قوية في الكيان البشري جعلته يراجع حساباته، ويتأمل ماضيه، ويبحث من جديد في طبيعة مستقبله، فالقيم والتقاليد تأثرت هي الأخرى بما جرى.
إننا في العالم العربي سوف نكون من أكثر الأمم استجابة للمتغيرات الجديدة، لأن أفكارنا المستوردة غربية، وعقولنا الموروثة تقليدية، وقد أزكت كارثة كورونا ذلك الشعور الدفين بضرورة التغيير والإصلاح، والتركيز على المعرفة والعلم والتكنولوجيا الحديثة.
المصدر : أندبندنت