هل تشعر بأنك تكاد تفقد صوابك بعد مرور أسابيع لم يلمسك فيها شخص آخر؟
هيلين كوفي
“يصعب علي أن أتذكر آخر مرة كان لي فيها اتصال جسدي مع إنسان آخر. بات الوضع معتاداً لهذه الدرجة – لم أكن أفكر حتى في معانقة أحد الأصدقاء أو الاحتكاك بشخص ما في المكتب، أو مصافحة أحدهم”.
تعيش ستيفاني*، التي تعمل كاتبة في سنغافورة، وحدها منذ سنوات. لكونها امرأة مستقلة واجتماعية، لم تزعجها وحدتها حقاً قبل الآن. لقد وجدت الصحبة في أماكن أخرى: في العمل، وتناول العشاء مع الأصدقاء، واحتساء الشراب خلال المواعدة الغرامية. لكن عندما هجم وباء فيروس كورونا وتبعه إغلاق البلاد، توقفت كل أشكال التواصل البشري بشكل مباغت. تقدر ستيفاني أنه قد مر عليها شهران تقريباً منذ لمست أحدهم آخر مرة.
وتقول: “لقد فوجئت بمدى تأثري بذلك… غياب اللمس ترك فراغاً كبيراً في حياتي. وللمفارقة، أشعر بذلك باستمرار. ليس التواصل الجنسي ما أفتقده فعلاً، لكن ذلك العناق السريع الذي يجمعك بصديقك عندما تتقابلان لتناول القهوة معاً أو ذلك التربيت الودّي على الساعد بغية حل نقاش مستعص في الشغل. يتم إيصال الكثير في هذه اللحظات عادة”.
أدركت ستيفاني أيضاً أن هذا النقص يؤثر في سلامتها العقلية. “هناك شعور قليل بالفراغ يرافقني طوال الوقت، وأحس بوحدة عميقة. أجد أنني أشكك في نفسي أكثر بكثير – ليست لدي ثقة في قراراتي. قد يكون هذا مجرد الضغط العام المرافق للوباء، لكنني متأكدة من أن قيام شخص بمسك يدي وقوله: “ستيفاني، كل الأمور على ما يرام”، سيجعل ذلك الضغط يختفي”.
وفقاً للعلماء، فإن حزن ستيفاني على فقدان اللمس ليس مجرد “شعور” – بل هو مشكلة عصبية حقيقية. يرغب جسدها في اللمس لأننا مبرمجون جسمانياً بهذه الطريقة، مثل كل الأنواع الأخرى من الثدييات. يقول فرانسيس ماكغلون، بروفسور علم الأعصاب في جامعة جون مورس بليفربول: “جميع البشر، كثدييات من طائفة الرئيسيات، مبرمجون على التلامس، سواء أحببنا ذلك أم لا”.
بروفسور الاتصالات في جامعة أريزونا، كوري فلويد، الذي كتب على نطاق واسع عن كيف يمكن الربط بين الجفاف العاطفي الجسدي بالتوتر والاكتئاب والوحدة والقلق. يضيف أن “الجوع الجلدي هو المصطلح العامّي لما يُعرف وفقاً للأبحاث باسم “الحرمان من العاطفة”، والذي يرتبط بمجموعة من العوائق النفسية وحتى الجسدية… من المؤكد أن الأشخاص الذين يعيشون بمفردهم أكثر عرضة للإصابة به، وفي الوقت الحالي، أعتقد أنه من المعقول القول إن كل الأشخاص تقريباً معرضون لنقص اللمس والأشكال الأخرى من السلوك العاطفي أكثر من المعتاد”.
عندما نتحدث عن “اللمس”، يخطر ببال معظمنا الشعور المباشر – قيام العصب الموجود في الجلد بإبلاغ الدماغ عن الإحساس بسرعة كبيرة. لكن اهتمام البروفسور ماكغلون ينصب على عصب مختلف تماماً – هو عصب اللمس المركزي الوارد.
تستجيب هذه الألياف العصبية المتعطشة للمس بشكل خاص إلى التمسيد اللطيف، وعلى عكس نظائرها من الأعصاب، لا ترسل تلك المعلومات إلى الدماغ على الفور – بل يستغرق الأمر ثواني عدة للوصول.
يقول ماكغلون: “من الواضح أن هذا العصب تطور بشكل مختلف… تشغل الألياف العصبية مناطق في الدماغ متصلة بالمكافأة. ويحدث إفراز لهرمون الأوكسيتوسين، الذي يلعب دوراً أساسياً في سلوكنا الاجتماعي. وله تأثير في مستويات الدوبامين، التي تعد مادة المكافأة في الدماغ، ويؤثر في إفراز السيروتونين، المرتبط بسعادتنا وسلامتنا، وله تأثير في نظام الإجهاد لدينا، ويساعد على خفض معدل ضربات القلب”.
ليس هذا بالأمر السيء بالنسبة إلى التمسيد اللطيف.
توافق تيفاني فيلد، مؤسسة معهد أبحاث اللمس في كلية ميامي الطبية، على أن “تأثيرات اللمس هي فيزيولوجية وكهربائية حيوية وكيميائية حيوية”. وتضيف: “تحريك الجلد (خلال المعانقة، أو التدليك أو ممارسة الرياضة على سبيل المثال) يحفز مستقبلات الضغط فيه التي تنتقل إلى العصب المبهم، وهو أكبر عصب قحفي يمتلك فروعاً عديدة في الجسم. زيادة النشاط المبهم تهدئ الجهاز العصبي (أي أنها تبطئ معدل ضربات القلب وتؤدي إلى حدوث أنماط التخطيط الكهربائية للدماغ التي ترافق الاسترخاء عادة). كما أنه يقلل من الكورتيزول – هرمون الإجهاد السيء – فيقوم عندها بإنقاذ الخلايا القاتلة الطبيعية التي تقتل الفيروسات والبكتيريا والخلايا السرطانية”.
بعد 20 عاماً من البحث المتعمق، يعرف الخبراء كل الأمور التي يمكن معرفتها تقريباً عن عصب اللمس المركزي الوراد. مثلاً، أنه يتميز بتفضيله أن يكون اللمس بسرعة مثلى (وهي ملامسة 3 إلى 5 سنتيمترات في الثانية) وأن تكون درجة الحرارة مثلى (كدرجة حرارة الجسم، ما يعني أن ملامسة الجلد للجلد بشكل مباشر هي الأفضل).
يقول ماكغلون: “نعلم أن تطور هذا العصب استغرق ملايين السنين وأنه مهم جداً… ما يحدث الآن هو أنه، ولأول مرة خلال التطور، لا يستطيع الناس تجربة هذا الشيء الذي نعتبره مسلّماً به عادة. لا نفتقد الأشياء إلا عند غيابها – لكن عندما يغيب اللمس، سيلاحظ الناس أن هناك شيئاً مفقوداً، حتى إذا لم يتمكنوا من تحديد ماهيته”.
إنه جزء من سبب شعور الكثير منا بالفقدان، على الرغم من تواصلنا باستخدام التكنولوجيا أكثر من أي وقت مضى. تضاعف عدد المكالمات الصوتية والمرئية باستخدام تطبيق واتساب مقارنة بما قبل الإغلاق، في حين أبلغت كل من زوم وسكايب وفيسبوك ماسنجر ومايكروسوفت تيمز وهاوسبارتي عن قفزة كبيرة في استخدام منصاتها. لذلك نحن لا نتوق إلى الوجوه والأصوات البشرية في لا وعينا، بل هي اللمسة الإنسانية. إذا كنت، مثل ستيفاني، تعيش بمفردك وتفكر بشكل مستمر “كل ما أريده هو عناق”، فيرجع هذا إلى كون أليافك العصبية “تصرخ”، وفقاً لماكغلون، الذي يتابع: “الأدمغة جيدة… إذا كانت تفتقد لشيء ما، فستطلب منك القيام بفعل ما”. أحد الأمثلة الواضحة هو الجوع – عندما تحتاج إلى تناول الطعام، يُعلمك دماغك بذلك. لكن مع غياب الاتصال الاجتماعي بسبب كوفيد 19، قد يخبرك دماغك كذلك أنك بحاجة ماسة إلى العناق.
تقول فيلد: “أنا متأكدة من أن الحرمان من اللمس هو صدمة قوية للأشخاص المعتادين على اللمس كثيراً وافترقوا حالياً، مثل العلاقات الرومانسية الجديدة أو الأشخاص الذين يدخلون المستشفى”. وفي استطلاع أجري في الفترة من 25 مارس (آذار) إلى 5 مايو(أيار) وشمل 260 شخصاً بالغاً، وجد قسم تيفاني في كلية ميامي الطبية أن 43 في المئة من المستجيبين للاستطلاع قد عانوا من الوحدة، و58 في المئة يشعرون بالعزلة، بينما يشكو 42 في المئة من شعور الحرمان من اللمس.
يمكن أن تكون آثار نقص اللمس، بخاصة عند الرضع والأطفال، مفجعة. المثال الأكثر شيوعاً هو دور الأيتام الرومانية، التي كُشف عن انتهاكاتها في أوائل التسعينات بعد سقوط النظام الشيوعي. تم إهمال الأطفال بشكل كبير في تلك المؤسسات ولم يتعرضوا لأي اتصال جسدي حنون. ما هي النتائج؟ كان تطور معظمهم متأخراً بشدة، جسدياً وعقلياً، وشُخص العديد منهم خطأ على أنهم يعانون من إعاقات عقلية بسبب ظهور تشنجات جسدية. كما أظهرت دراسات التصوير بالرنين المغناطيسي أن الأطفال الذين ترعرعوا في دور الأيتام الرومانية يمتلكون أدمغة أصغر من الناحية المادية مقارنة بنظرائهم الأصحاء. أثبتت تجربتهم أن الاتصال البشري الأساسي لا يقل أهمية عن التغذية بالنسبة لنمو الطفل.
أجرى فريق السيدة فيلد أيضاً دراسات في تأثير اللمس في الأطفال والشباب، وتوصل إلى أن زيادة الاتصال تؤدي إلى سلوك أقل عدوانية. تشرح فيلد قائلة: “لقد درسنا أطفالاً في سن ما قبل المدرسة في ساحات اللعب في باريس وميامي… كان الآباء عطوفين جسدياً في ساحات باريس أكثر وكان أطفالهم في سن ما قبل المدرسة أقل عدوانية من الناحية الجسدية واللفظية تجاه أقرانهم”.
كما أن استجاباتنا هذه تنعكس لدى الثدييات الأخرى في مملكة الحيوان. على الرغم من استخدام أصحاب الكلاب عبارة “كلب جيد” المتكررة، وجدت إحدى الدراسات أن الكلاب لا تستجيب للثناء اللفظي، في حين أنها تحب اللمس الجسدي والملاعبة. في تجربة مختبرية قارن الدكتور مايكل ميني الجرذان التي لديها أمهات تقوم بلعقها وتهذيب شكلها بانتظام عندما كانت رضيعة بتلك التي لم تحظ بذلك. كانت الجرذان الأولى حيوانات اجتماعية أكثر بكثير ولديها مستويات إجهاد أقل من تلك الموجودة لدى المجموعة الثانية، والتي كانت ميالة إلى القلق والعدوانية – مظهرة سلوكيات مماثلة للأطفال الذي يكبرون في أسر مسيئة.
عواقب الحرمان من اللمس شديدة، حتى لدى البالغين. يقول ماكغلون: “عندما لا تتعرض للمس، لا يوجد إغلاق علني للنظام، ولكن دور العصب اللمسي المركزي الوارد له تأثيرات على المدى الطويل في صحتنا الجسدية والعقلية… تخفف اللمسة الجسدية من الضغط وتساعدنا على الشعور بالرضا. قد يؤثر غيابها كذلك في قدرة الشخص على تحمل الضغوط”.
إن معرفة التفسير العلمي وراء المشكلة قد لا يحلها، ولكنه يشرح على الأقل سبب شعور الأشخاص الذين يعيشون بمفردهم بفقدان شيء لم يتمكنوا من تحديده. حتى أن ماكغلون يوصي بتقليد تأثيرات الشعور بالسعادة من خلال قيامك بتمسيد ذراعك ورقبتك وظهرك وكتفيك التي توجد فيها الألياف العصبية بتركيز أعلى – ويقول: “أضمن لكم أن ذلك سيساعد على خفض معدل ضربات القلب ومستويات الكورتيزول”.
بالنسبة إلى ستيفاني، عليها عدّ الأيام المتبقية حتى يمكن استئناف الحياة الطبيعية. وتقول: “مازحت أصدقائي بأنني سأقفز إلى الحانات فور انتهاء هذه الأزمة… لكن ما أريده حقاً هو عناق طويل من شخص يفتقدني. أتمنى أن يكون لدي الكثير منهم بانتظاري”.
( *تم تغيير اسم السيدة)
المصدر : أندبندنت عربية