كتب : مصطفى النعمان
كان 21 سبتمبر (أيلول) 2014 هو اليوم الذي تخلت فيه الدولة عن شرعيتها الوطنية والدستورية واستبدلتها باتفاق (السلم والشراكة) مقابل استمرار الرئيس في الحكم، وبموجبه صار ما جرى بعده مجرد اعتراف بأن القوة وسيلة مقبولة لتحقيق الغاية السياسية، وهي نتيجة طبيعية لغياب القيادة القادرة الكفؤة والنزيهة.
رغم كل شواهد الفشل السياسي منذ 2012 وغياب القيادة المدركة للمخاطر، فقد ظلّ الوهم عند الكثيرين بأن معجزةً ستحدث وتستعيد معها الدولة كرامتها وقيمتها، لكن ما توقعته القلة هو الذي حدث بالفعل بدايةً بهروب الرئيس من صنعاء، ثم هروبه الثاني من عدن، وأخيراً استقراره في أحد القصور بالرياض، وتوزّع كبار موظفيه والقيادات الحزبية الذين لحقوا به على فنادقها مع أسرهم.
زرت الرياض كثيراً والتقيت كثيراً من ضيوفها وزادت مخاوفي من حالة الاسترخاء التي كانوا يعيشون فيها، وكان جلياً أنهم يسيرون بلا هدى ومن دون بوصلة ولا قيادة ولا إرادة ولا كفاءة ولا شعور بحجم الكارثة التي يواجهها البلد، وكان أشد قلقهم هو تأمين السكن والراتب والخوف من الإجراءات العقابية التي قد يتعرضون لها في الداخل، ولم يكن مسار الحرب وإنجاز أهدافها المعلنة يمثل هماً لهم، لأن التحالف أعفاهم من هذه المسؤولية ولم يشركهم في تفاصيلها ولا سير العمليات، وجميعنا يتذكّر تصريح الرئيس بأنه لم يتوقع الاستجابة لطلبه ونفى علمه بموعد قيامها.
ما يحدث اليوم من تفتّت للكيان اليمني ليس أمراً طارئاً وغير متوقع في ظل هذا الكيان الذي يفترض أن يكون ممثلاً للشرعية اليمنية، فقد صار البلد محكوماً بكيانات لا تعترف بمفهوم الدولة الوطنية ولا تلتزم القوانين والدستور، وما زاد من خطورة الوضع الغياب المستدام للرئيس وتخويل كل صلاحياته بصورة غير دستورية إلى مكتبه ودائرة أسرية ضيقة، وضاعف من ارتباك المشهد السياسي سيل من التعيينات في أغلب مواقع الدولة لأشخاص لا يمتلكون الكفاءة والتجربة للتعامل مع القضايا الداخلية والخارجية والاقتصادية، وكأن معيار الاختيار الوحيد هو الاستسلام للتوجيهات الصادرة من مكتب الرئيس وأسرته من دون نقاش ولا اعتراض.
إنني على ثقة أن الرئيس هادي وكبار موظفيه لن يغادروا المشهد اختيارياً وغير راغبين في العودة إلى اليمن، وصار منطقهم (نحن ومن بعدنا الطوفان)، وأصبحوا عقبة حقيقية يصعب التعامل معها ويتعمدون استمرار الغموض ونشر الارتباك لأن استقرار الأوضاع وانتهاء الحرب ستكون نتيجته المباشرة تضاؤل وربما انتفاء أدوارهم مستقبلاً، ويكفي النظر إلى سجل إنجازاتهم منذ مارس (آذار) 2015، لأنهم لم يحققوا شيئاً إيجابياً في الداخل، ولكنهم حتماً حقّقوا الكثير من المكاسب المادية.
الطرف الثاني في المعادلة اليمنية… الحوثيون
هذه الجماعة لم تكن في الماضي، وحتى اليوم، مهتمة ولا مكترثة ولا مستعجلة للتوصل إلى تفاهمات وطنية تلزمها تقديم تنازلات كبرى، فهي تعتقد – مخطئة- أن القوة التي تمتلكها تمكنها من الحصول على المكاسب السياسية المستدامة التي تتوخاها والتي تضخمت بعد اقتحام صنعاء والسيطرة على معظم المناطق شمال خط التشطير القديم بين الشمال والجنوب. كما أنها تعتبر أن عدم قدرة التحالف على إنجاز أهم (أهداف عاصفة الحزم) – استعادة الدولة- هو بحدّ ذاته انتصار يحسب لها، وأن استمرار غياب هادي وحكوماته المتعاقبة يعزز من مكانتها التفاوضية.
لم يكن بمقدور (أنصار الله) الحوثيين التعامل بطريقة مؤسسية بعد سيطرتهم على كل مؤسسات الدولة، لأنهم لا يمتلكون أدواتها الضرورية، وهم في الأصل ميليشيا مسلحة تمتلك عقيدة دينية متأصلة عند أنصارها، لذلك لجؤوا إلى الإجراءات القمعية وترهيب المخالفين واعتقالهم وإخفائهم، ولم يتمكنوا من الانفتاح على المجتمع الآخر المخالف الذي لا يؤمن بفكرهم وأسلوب تسييرهم للمؤسسات، فصار تركيزهم على الجانب الأمني بما يتسق مع حالة الشك والهلع عندهم، ونتيجة لذلك صارت ثقتهم محصورة في نطاق مذهبي وجغرافي ضيّق، وأصبحت القطيعة متزايدة بينهم وبين الناس من مخالفيهم ومعارضيهم.
يعترف الحوثيون على استحياء بعدم خبرتهم وكفاءتهم وما سبّبه ذلك من ارتباك إداري، ويبررون ذلك بأن الحرب باغتتهم قبل أن يتعرفوا إلى بقية شرائح المجتمع ويعزون ذلك إلى عزلتهم الطويلة عن بقية اليمن، وأن الحرب لم تمنحهم الفرصة الكافية للتعامل من دون خوف وريبة مع المواطنين، وأن الدولة التي كانت موجودة ناصبتهم العداء ووضعت أمامهم العراقيل لإفشالهم.
وهكذا، مع اختفاء كل صوت معارض وناقد انساق بعض الشخصيات المرتبطة بهم في الفساد والصفقات مستفيدين من غياب الرقابة ومنع تناول هذه القضايا تحت طائلة الاعتقال بمبرر الحرب وما يسمونه (العدوان)، كما التحقت بهذه المجموعة شخصيات لا تؤمن بأفكارهم، لكنها تستفيد من التصاقها بهم.
إن الإشكالية الكبرى التي تواجه أي اتفاق مع جماعة (أنصار الله) هي أن السلاح والاحتفاظ به صار ضمانتها الوحيدة في أي اتفاق محتمل مقبل، وهو منطق مفهوم أكثر اليوم بالنظر إلى حالة العداء المتراكمة ضدها، التي نتجت عن تصرفاتها وقسوتها، وهي تظن أن بقاءها مرتبط بغياب الأطراف الأخرى عن اليمن وببقاء السلاح تحت يدها، كما أن تاريخ الحروب ضدها يضاعف من مخاوفهم وقلقهم.
الطرف الثالث… المجلس الانتقالي الجنوبي
هو المنتج النهائي لمسار احتجاج سلمي ضد السلطة في صنعاء بدأ بعد حرب صيف 1994، وبلغ مداه حين تحول إلى مقاومة مسلحة بعد دخول الحوثيين إلى عدن في مارس 2015.
بعد إخراج الحوثيين من عدن في منتصف 2015 لم يتحقق للناس أي من الوعود التي جرى الإعلان عنها بتحويل عدن والجنوب إلى واحة من الاستثمارات والنشاط الاقتصادي وإعادة بناء البنية التحتية، فزادت نقمة الناس وحنقهم ولم تسعَ الشرعية ولم تبذل جهداً للإنجاز، سوى البيانات والأرقام الكاذبة، وارتفعت معدلات الجريمة والاغتيالات في وضح النهار وتدهورت كل الخدمات الأساسية وسط انقطاع الرواتب وندرة الأعمال.
منحت هذه العوامل فرصة للمنادين بعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الوحدة اليمنية في 22 مايو (أيار) 1990، وكان من الطبيعي أن يلقى هذا الشعار قبولاً شعبياً جارفاً، وكان الحامل له هو المجلس الانتقالي الجنوبي الذي ظنّ الناس أنه سيجلب معه مستقبلاً أقل تعاسة وخوفاً.
لم يكن سراً أن دولة الإمارات وجدت في المجلس حليفاً تثق به بعد أن ساءت علاقتها مع الرئيس هادي رغم المحاولات السعودية المتكررة، وللتعبير عن الغضب فتحت أبو ظبي الأبواب ووسائل الإعلام للمجلس وقياداته، فزاد التوتر بينها وبين هادي الذي أحسّ أنه بعد أن خسر حلم العودة إلى صنعاء فقد تصبح عودته إلى عدن والجنوب أكثر صعوبة. وكان الكل يدرك أن الإمارات العربية المتحدة لن تتساهل في مسألة تشكل ركناً أساسياً من سياساتها، وهي الرفض المطلق لأي جماعة تقوم على أساس دينيّ، وتحديدا جماعة الإخوان المسلمين.
كانت الإمارات مقتنعة بأن مكتب الرئيس هادي تديره شخصية محسوبة على حزب الإصلاح، الذي تتهمه بأنه جزء من التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، وأن مستشاري الرئيس والحكومة اليمنية وكل موظفيها ليسوا أكثر من رقم عند مدير المكتب وأسرة الرئيس، رغم أن الحزب قد أصدر بياناً يتبرّأ فيه من أي علاقة له بالجماعة، لكن ذلك لم يغيّر من موقف الإمارات، ولا كان كافياً لتحسين صورة الرئيس ولا حزب الإصلاح لأن عدداً من قيادات الإصلاح الحالية مرتبط بقطر وتركيا أو مقيم فيها.
تدهورت العلاقة بين الرئيس هادي وقيادات المجلس الانتقالي لأن الصراع بينهم محكوم بقضيتين تحكمان مسارها: قناعة داعمي المجلس الانتقالي بتأثير حزب الإصلاح على قرارات هادي وسياساته، والثانية تاريخ الصراعات الجنوبية- الجنوبية المتكررة.
إن هذين العاملين ما كان بالإمكان تجاوزهما بسبب ضعف منظومة الحكم المحيطة بالرئيس وتحولها إلى مجموعة من المنتفعين، وعوضاً عن السعي الجادّ لتوحيد الصفّ الجنوبي، فضّل هادي الاستمرار في شقه فزاد من إرباك المشهد. وفي المقابل رفعت قيادات الانتقالي سقف طموحاتها فجذبت الناس إليها، لكنه بلغ حداً لا يمكنها الوصول إليه مهما بذلت، وليس بمقدورها حالياً إدارة عدن، ناهيك بالجنوب كاملاً، ومعروف بالأرقام أن كل دخل المدينة لا يمكنه تغطية خدماتها واحتياجاتها ومرتبات موظفيها.
لقد استعجل المجلس الإعلان عن الانفصال واستعادة الدولة الجنوبية بمظنة إمكانية حدوثه، وغاب عن قيادته التعقيدات وعدم واقعيته الآن، رغم أني لست ضد المبدأ، لذلك جاء الإعلان عن الإدارة الذاتية كحل سياسي وإعلامي خطوة ذكية للتراجع خطوة عن دعوة الانفصال بطريقة غير مدروسة، وستكون عدن تجربة لمعرفة قدرة المجلس وكفاءته.
التحالف العربي… عمان وإيران قطر تركيا
منذ اليوم الأول لعاصفة الحزم كانت ملاحظتي التي طرحتها على من التقيتهم من كبار المسؤولين في العواصم الخليجية، أن الحرب لا يمكن لها أن تحقق الأهداف المعلنة في بدايتها، ولم يكن ذلك رجماً بالغيب، ولكنه قراءة لتاريخ اليمن، وليس هذا هو المقام للحديث عن مجمل الأخطاء التي ارتكبت منذ 26 مارس 2015، لكن من المهم إدراك حجم الإشكالية التي يواجهها التحالف.
أنا أدرك أن التخلي عن الشرعية في هذه المرحلة المتأخرة، رغم الاستياء الشديد والنقد المرير لأدائها وشخوصها وكفاءتها، سيفقد الحرب مشروعيتها وسيحمل التحالف كل تبعاتها الإنسانية والقانونية، كما أنه سيمنح الحوثيين، وأيضاً إيران وكل خصوم السعودية والإمارات وأعضاء التحالف، نصراً مجانياً كاملاً قبل الدخول في المفاوضات النهائية.
النفوذ القطري والتركي
لا يقترب نفوذ الدولتين من حجم النفوذ السعودي- الإماراتي، لكن الدوحة وإسطنبول تمتلكان أوراقاً يمكنها التشويش على كل جهود التحالف والتحقق من عدم إنجاز أي من أهدافه، وهو ما يجعل الانتهاء منها يجري بشروط قد لا تقبلها الرياض مهما كانت الأثمان.
تبقى سلطنة عُمان الطرف الأكثر مرونة وقدرة على التحرك من دون معوقات، وهي لا تسعى لنفوذ في اليمن، إلا بما يؤمن حدودها وأمنها واستقرار جارتها، الذي سينعكس إيجاباً عليها وعلى المنطقة، لكنها حتما لم تتعامل مع القضية اليمنية برغبة استنزاف أي طرف أو إنهاكه أو التخلص منه.
القول بأن السلطنة تستضيف عدداً قليلاً من قيادات جماعة الحوثي ليس تهمة، بل هو في قناعتي ورقة يمكن الاستفادة منها لاستمرار قنوات التواصل معهم، ثم إنه من المنطقي أن يكون لمكوثهم هناك تأثير على منهجية تفكيرهم وقرارهم. ويجب أن نتذكر هنا أن السلطنة أيضاً قدّمت المكان المناسب لعدد من القيادات اليمنية من اتجاهات مختلفة وربما متناقضة، ومن الممكن بل ومن الضروري أن يتم استغلال موقف مسقط وتخفّفها من أعباء الحرب، فهي بلا خصوم في اليمن حتى بين المتحاربين رغم كل الاتهامات التي وجهت إليها.
الخلاصة
إن صراع المكونات الثلاثة الرئيسة (هادي– الحوثيين– الانتقالي) أفقد الناس حقوقهم وتركهم في العراء لمواجهة الموت والأوبئة والفقر والجوع، والمؤسف أن الطرف الأقل مناعة والأكثر عجزاً هو الكيان الذي يمثله الرئيس هادي وكبار موظفيه لأنه غير موجود على الأرض وفاقد للسند الشعبي وعاجز عن الظهور بما يؤهله لتمثيل المواطن والوطن.
إن ما يجري حالياً من معارك بينية في أبين والبيضاء بالذات ليس أكثر من تثبيت خطوط خريطة النفوذ الحقيقية التي بموجبها سيتم بوضوح تحديد حصة كل طرف في المفاوضات المقبلة لإنهاء الحرب، وسيدفع هادي ومن معه الثمن نتيجة الغياب والابتعاد عن الناس والفساد وعدم القدرة وسوء الاختيار، وهي العناوين الكبرى لمرحلته منذ 2012.
المصدر : أندبندنت