أربعون عاما على تحقيقات “شرلوك هولمز” في القرون الوسطى
إبراهيم العريس
“أعلم أن ديركم هو النور الوحيد التي تقدر المسيحية أن تباهي به مكتبات بغداد الستّ والثلاثين، والعشرة آلاف مخطوط التي يمتلكها الوزير ابن العلقمي، وأن كتبكم المقدسة تعادل الألفين والأربعمئة مصحف قرآني التي تتباهى بها القاهرة، وأن حقيقة خزاناتكم هي البيّنة الساطعة ضد أسطورة الكافرين الذي يقولون (وهم المتعودون على البهتان) أن مكتبة طرابلس تعد ستة ملايين من الكتب ويسكنها ثمانون ألف شارح ومائتا ناسخ…”. ليست هذه السطور منتزعة من نقاش علمي دار في مؤتمر ما معقود للمقارنة بين الحضارات والأديان، بل هو جزء من حوار طويل ومتشعب يدور في أحد فصول الرواية الأولى التي كتبها عالم سيميولوجي وفيلسوف مهتم بالعصور الوسطى في لحظة تساءل بينه وبين نفسه عما إذا كان من الصعب عليه أن يخوض ميدان الإبداع الأدبي. كان ذلك قبل أربعين عاماً من الآن، حين فاجأ ذلك العالم، أمبرتو إيكو عالَم الثقافة بتلك الرواية التي صدرت في العام 1980 لتعتبر على الفور واحدة من أعظم الروايات التي صدرت في النصف الثاني من القرن العشرين وتحتل مكانها الى جانب “مئة عام من العزلة” بوصفها من أكثر الروايات نجاحاً في زمنها.
سؤال الأربعين عاماً
واليوم إذ نحتفل هنا بالذكرى الأربعين لولادة هذه الرواية الفذة، نجدنا نطرح على أنفسنا سؤالا يطرحه كثر: ما هي “اسم الوردة” في نهاية المطاف؟ واللافت في الأمر أن الجواب الأبسط والأوضح جاء على لسان كاتبها نفسه إذ قال إنها رواية بوليسية، تكاد تكون في جوهرها وحبكتها شبيهة بالعديد من روايات الكاتب الإنجليزي سير آرثر كونان دويل التي يتولى التحقيق في جرائمها شرلوك هولمز في حواره المتواصل مع صديقه الدكتور واطسون. ولئن كانت حوارات هولمز/ واطسون تدور في القرنين التاسع عشر والعشرين وتتناول العديد من الشؤون ومن بينها الشؤون العلمية التي تفسر وتبرر الاكتشافات المدهشة التي يتوصل إليها هولمز في تحقيقاته ويدونها واطسون ليرويها لنا، فإن حوارات القس الإنجليزي غوليالمو من دي باسكرفيل ومرافقه الفتى آدسو دي مالك، ومغامرتهما في الدير البهي والغامض في إيطاليا بدايات عصر النهضة تتناول سلسلة الجرائم التي تقع في الدير ويدعى ذلك القسيس العقلاني الكبير لحل طلاسمها. إن التجريبية والعقلانية هما القاسم المشترك بين المحقق العتيق وزميله الحديث. ولكن فيما نجد النزعتين طبيعيتين في إنجلترا العصور الحديثة، من خلال هولمز وواطسون، سنجدهما لب المعركة وبيت القصيد في الدير القروسطي من خلال غوليالمو وأدسو، علما أن الأحداث هنا تُروى لنا استناداً إلى ذاكرة هذا الأخير الذي كان فتياً راهباً مبتدئاً يوم تراكمت تلك “الأحداث الغريبة والرهيبة” التي استدعت إرسال القسيس الإنجليزي إلى وكر الدبابير الإيطالي ليكشف سر ما يحدث.
على لسان آدسو
ونقول “ما يحدث” هنا لأنه وعلماً أنها كانت الجريمة الأولى التي دعت إلى مجيء غوليالمو قد حدثت قبل وصوله ومرافقه، فإن بقية الجرائم تحدث خلال وجودهما وبالتالي خلال ما يرويه لنا آدسو بعد سنوات حين صار شيخاً بدوره ومسؤول دير وها هو جالس يتذكر صديقه الكبير ومغامرتهما العجيبة المشتركة، والدروس التي تعلمها منه.
ومن بين تلك الدروس، إلى جانب النظر العقلاني في الأمور، مجريات الصراعات الكنسية بين الطوائف والمذاهب، وصعوبة تمرير الإصلاحات على عقليات متحجرة تحاول جهدها إخفاء الإبداعات الفكرية والأدبية ولا سيما منها تلك الأرسطية التي لا يكاد يمر فصل من فصول الكتاب إلا ويخبرنا غوليلمو المتبحر بصورة مدهشة بالتاريخ والعلوم والأفكار والمتبع مبدأ الاستنباط الفكري للوصول إلى الحقيقة، كم تدين أوروبا ومكتباتها ومثقفوها الحقيقيون في ذلك المجال للعرب الذين تُذكر كتبهم ويُعثر على العشرات منها وفي شتى حقول المعرفة مخبوءة داخل خزانات مكتبة الدير.
والحال أن تلك المكتبة هي مركز الأحداث التي كانت تعصف بالدير وتابعت حدثانها في الأيام التي يتذكرها آدسو ويحدثنا عنها وعن مغامراته وأستاذه فيها، مغامرات أوصلتهما إلى حافة الموت والجنون، وهو ما يجعل من “اسم الوردة” رواية رعب ومغامرات إلى جانب كونها رواية بوليسية تشتغل على مبدأ “من اقترف الجريمة؟” الشهير. وطبعاً لسنا في حاجة إلى التوضيح أكثر هنا، طالما نعرف أن كثراً لم يقرأوا الرواية بعد، ولن يسرّهم أن نكشف لهم منذ الآن أكثر مما فعلنا!
نصّ فلسفيّ عقلانيّ
مهما يكن من أمر فإن “اسم الوردة” التي تتخذ هنا هذه السمات البوليسية التحقيقية المشوّقة، لا تنسينا أبداً أن كاتبها فيلسوف في الأصل ومؤرخ للفلسفة. وهو يذكّرنا بهذا في كل صفحة من صفحات الكتاب، حيث إن الواجهة البوليسية، تشكل إطاراً لرسم صورة عميقة وجذابة للمناخات الفكرية السائدة هناك في ذلك العصر كما أشرنا… ولا سيما في أجواء الطوائف الهرطوقية… وهذا ما يجعل إيكو يغوص في تفاصيل مدهشة حول الأفكار ولغة الحوار بين مختلف الأقوام وعاداتهم وحياتهم اليومية، ثم بخاصة حول فضاء الصراع على السلطة داخل الكنيسة نفسها. والمذهل هنا هو أنه كلما غاص إيكو أكثر في حمأة الأفكار العميقة، وجد لذة قبل أن يثقل على القارئ، في القفز مباشرة إلى الأحداث البوليسية وحكايات الجرائم، ما يعطي هذه الرواية فرادة فكرية.
ولعل أجمل ما في الأمر أن الأحداث كلها تدور في ذلك العالم السحري الغامض، عالم الدير المغلق على نفسه والذي تدور الأحداث في داخله مع عين مفتوحة على العالم كله، حيث يدرك القارئ بداهة أن كل ما يحدث هنا، بما في ذلك الجرائم البوليسية نفسها، إنما هو على علاقة مباشرة مع العالم الخارجي: مع النتائج التي ستتمخض عن ذلك الصراع الخفي بين المنطق والنقل، بين العقل والخرافة، ثم بالتحديد بين نظرة إلى الدين منفتحة على العالم تقبل الحوار مع ما هو مختلف، وبين نظرة أخرى يرعبها كل منطق وانفتاح. وطبعاً سنفاجأ، في نهاية الأمر، بأن حل ألغاز الجرائم إنما هو مرتبط كلياً بذلك الصراع اللاهوتي – الفكري.
ذلك أن هنا بالذات، يدخل أرسطو ومنطقه، من طريق الترجمات العربية، وتحديداً من طريق تفسيرات ابن رشد الأندلسي له. ابن رشد هو المحرك هنا، والموضوع هو أرسطو، أما النقطة الأساسية لكل الأحداث أي مكتبة الدير، فتبدو كالمتاهة. والمكتبة داخل الدير هي، كما يقول الباحثون صورة حقيقية لغموضه، لكنها في الوقت نفسه – كما يشير إيكو وكما يقول مؤرخ العصور الوسطى الفرنسي جاك ليغوف – المكان الذي يولد منه العصر الحديث، هذا العصر الطالع من رحم فكر أرسطو وجهود ابن رشد.
جرائم هدفها منع الولادة
أما الجرائم التي تحدث، فإنها تحدث، بالتحديد، لمنع تلك الولادة. و “الولادة” هذه، على ارتباط مع الضحك كوسيلة لانبعاث حرية الفكر لدى الإنسان. والضحك موجود في بعده الإنساني داخل كتاب لأرسطو، يحاول رجعيو الدير إخفاءه، فيما يسعى رجال دين آخرون إلى قراءته، وسط ظلام المكتبة. وهذا الكتاب الذي هو في الأصل وسيلة تنوير لا بد من أن تصل إلى الناس جميعاً، يكون هو تحديداً الأداة التي يستخدمها الرجعيون لقتل دعاة التنوير. وهذا ما سيكتشفه دي باسكرفيل، رجل التنوير والعقل الحقيقي الذي إذ يصل إلى الدير مكلفاً بالتحقيق، يأتي حاملاً معه أفكار معلميه الإنجليز التنويريين من أمثال فرانسيس بيكون والأوكامي. (والاثنان كانا من كبار أهل الرشدية في الفكر الأوروبي)، وهذا ما يمكّنه، وسط سجالاته التنويرية والإنسانية، من حل الألغاز وكشف الجرائم ومدبّريها. غير إن هذا سيؤدي إلى احتراق المكتبة.
أما بالنسبة إلى أمبرتو إيكو الذي من الواضح أن نجاح روايته هذه غير المتوقع قد قلب حياته ولا سيما منذ حُوّلت إلى فيلم سينمائي حاز نجاحاً ضخماً أيضاً وقام فيه شون كونري – جيمس بوند السابق – بدور دي باسكرفيل، ومن هنا نراه، من دون التوقف عن دراساته الفلسفية والنقدية يصدر عدداً من الروايات خلال السنوات التالية والتي راحت تحقق نجاحات مدهشة رواية بعد الأخرى: “بندول فوكو” (1988)، “جزيرة اليوم السابق” (1994)، “باودولينو” (2000) “الشعلة الخفية للملكة لوانا” (2004)، “مقبرة براغ” (2010) وأخيراً “العدد صفر” التي أصدرها قبل وقاته عام 2016، بفترة وجيزة.
المصدر : أندبندنت عربية