منى عبدالفتاح
بعد أن وصل السودان إلى إنتاج النفط وتصديره، بات يكتفي بمروره فقط، شاقاً أراضيه إلى ميناء التصدير في بشائر ببورتسودان شرق البلاد، ولا ينال منه غير رسوم العبور المُختلف حولها.
وقبل أن يصل اتفاق النفط بين السودان ودولة جنوب السودان إلى نهايته في عام 2022، لجأ عبد الله حمدوك رئيس الوزراء السوداني إلى سلفاكير ميارديت رئيس دولة جنوب السودان لإمداد الخرطوم بكمياتٍ إضافيةٍ من النفط الخام.
فبعد انفصالها أصبحت دولة جنوب السودان تحصل على 75 في المئة من إنتاج النفط، ولكن النسبة تتأثَّر بالصراع الدائر هناك، بينما يتأثر السودان بصراعاته الداخلية أيضاً في ظل نسبته الضئيلة المتبقية.
فهل تنجح حكومة حمدوك في تسوية الخلافات القديمة في ما يتعلَّق بعائدات النفط والفساد الذي رسَّخه النظام السابق، والوصول إلى سلامٍ في مناطق الإنتاج، نظراً إلى التواؤم السياسي بين البلدين بعد الثورة؟
فساد في النفط
طالبت قوى الحرية والتغيير السودانية من ﻟﺠﻨﺔ إزالة ﺍﻟﺘﻤكين بكشف فساد النظام السابق ﻓﻲ ﻣﻠﻒ البترول ﺧبﺎﺻﺔ إﺑﺎﻥ تولي عوض ﺍﻟﺠﺎﺯ وزارة النفط والتعدين لفترة طويلة امتدت من 1995 إلى 2008 باعتباره ﻣﻦ أكبر ﻣﻠﻔﺎﺕ ﺍﻟﻔﺴﺎﺩ ﻓﻲ عهد النظام السابق، ومن ثم تعيينه مسؤولاً عن ملف الصين بدرجة وزير، ومساعداً لرئيس الجمهورية حتى قيام ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018.
وفي الواقع فإنَّ تحقيقات الفساد في عائدات النفط بدأت منذ سنواتٍ بسبب الصراع داخل أروقة النظام بين مجموعة البشير وعلي عثمان النائب الأول للرئيس السابق، ولم تُسفر لجان التحقيق والمراجع العام عن شيء بسبب تغييب المعلومات بأمر البشير.
حتى هذا الشهر مايو (أيار) 2020، اكتمل التحقيق الذي أجرته الحكومة الانتقالية في 14 قضية فساد مالي وإداري بوزارة الطاقة والتعدين بحسب ما كشف عنه عادل علي إبراهيم وزير الطاقة والتعدين.
هذا في ما يتعلَّق بقضايا الفساد الداخلية، لكن ممارسات النظام السابق والفساد، أفشلت جهود الشركات العاملة في قطاع النفط مع بعض الشركات العالمية، كما لم تستطع الإيفاء باستحقاقاتها ما أثقل كاهل الميزانية بالديون.
هجوم متكرِّر
ردّاً على إقالة بعض قيادات النظام السابق من وظائف مهمة داخل وزارة النفط والتعدين، تبنَّت مجموعة سمَّت نفسها “تجمُّع رد المظالم”، يُشار إلى أنَّها تنتمي إلى النظام السابق، بأعمال تخريبية في حقول النفط في مدينة الفولة في ولاية غرب كردفان.
وعلى طول عهدها لم تسلم مناطق التنقيب من الهجمات، ففي أكتوبر (تشرين الأول) 2007، استولت حركة العدل والمساواة على المنشآت النفطية الصينية في منطقة “دفرا”، كرسالة تحذير للصين لوقف الدعم العسكري والسياسي لحكومة الخرطوم.
وفي ديسمبر (كانون الأول) من العام ذاته، هاجمت الحركة منشأة نفطية في مدينة هجليج، تديرها شركة سور الصين العظيم للحفر. أما الحادثة الثالثة فكانت في العام التالي 2008 عندما قامت مجموعة مجهولة بهجوم، أسفر عن اختطاف تسعة موظفين صينيين لمؤسسة البترول الوطنية الصينية في حقل نفطي قرب دارفور، قتلت الجماعة المتمردة أربعة منهم. كما هاجمت مجموعات متمردة حقل هجليج في أبريل (نيسان) 2012.
تقودنا عمليات الهجوم المتعدّدة، إضافة إلى هجوم “مجموعة ردّ المظالم” الأخير إلى قضية استحقاقات النفط التي كان يفترض أن تذهب إلى تنمية المنطقة بحسب اتفاقية قسمة الثروة التي وقَّع عليها النظام السابق.
وتناولت اتفاقية السلام في الجزء الخاص بقسمة الثروة، تأثير العمليات النفطية في الوضع البيئي في مناطق الإنتاج وما يمكن أن تحدثه من أخطار تهدّد المجتمع المحلي.
تسكين المجتمع المحلي
نصّت اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) بين حكومة جمهورية السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش الشعبي لتحرير السودان في 9 يناير (كانون الثاني) 2005، على مبادئ موجهة لاقتسام عائدات النفط ومنها ما خُصص لحكومة الشمال وحكومة الجنوب وأهل المنطقة أو الولايات المنتجة للنفط.
وكان أهم بندين في الاتفاقية هما تخصيص نسبة لا تقل عن 2 في المئة من إيرادات النفط للولايات المنتجة له بحسب الكمية المنتجة في تلك الولايات.
كما يُخصّص من بداية الفترة قبل الانتقالية 50 في المئة من صافي إيرادات البترول المستخرج من آبار النفط في جنوب السودان لحكومة الجنوب، وتُخصّص 50 في المئة المتبقية للحكومة القومية وولايات شمال السودان. واستمر العمل بها حتى انفصال الجنوب في يوليو (تموز)2011.
أما نسبة 2 في المئة التي خُصّصت لأهل المناطق المنتجة أو المجتمع المحلي مُمثلاً في الولاية أو المحلية فهناك ضبابية حولها، حيث تتضارب الأقوال بين عدم دفعها كاملة من الأصل، وبين عدم توظيفها بالشكل المطلوب، والنتيجة واحدة وهي أنّه لم يحدث أي نوع من التغيير ولم تستفد المناطق من بنود المسؤولية الاجتماعية لشركات النفط وتنمية البنية التحتية.
أزمة شفافية
ورد في تقرير أعده جون أكيك مدير منتدى الأكاديميين والباحثين من أجل التنمية في جنوب السودان، وكاثلين شنكيل موظفة برامج حوكمة الموارد الطبيعية بعنوان “توزيع الإيرادات النفطية على المجتمعات المحلية في جنوب السودان”، أنّ الولايات التي حُوّلت لها هذه الأموال قد فشلت في إنفاقها على التنمية، في حين أنّ النظام المقترح لتخصيص الأموال للمجتمعات المحلية يُعدُّ معقّداً للغاية وتصعب مراجعته.
ويرجع ذلك جزئياً إلى أنَّ معظم التقسيمات الإدارية دون مستوى الولاية لا تمتلك حسابات مصرفية، وبالتالي فهي مُعرّضة لانتهاك أو نزاعات لاحقة.
إضافة إلى ذلك فإنَّ هناك خلافات حول انغماس حكومات الولايات في إدارة قطاع النفط نفسه وما يحيط بها من شبهات فساد.
كما تمظهرت حالة انعدام الشفافية في قطاع النفط، في أنّ هناك فروقاً بين سعر النفط الذي كانت تعلنه الحكومة السابقة والسعر الذي تنشره الصحافة النفطية.
وأظهرت تقارير أخرى أشهرها ما نشرته مجموعة “غلوبال ويتنس” البحثية (GW) في لندن عام 2009 عن التناقض بين الأرقام الصادرة عن الحكومة السودانية حول عائدات النفط وعدم مطابقتها للأرقام التي وردت من مصادر أخرى مثل التقارير السنوية للشركة الصينية للبترول القائمة على استخراج النفط في السودان منذ تسعينيات القرن الماضي. وأنَّه ليس باستطاعة حكومة الجنوب ولا المواطنين السودانيين التحقّق من صحة عائدات النفط التي تستلمها حكومة الخرطوم كجزءٍ من اتفاقية السلام الشامل.
وأنَّ تسويق النفط تم عن طريق حكومة واحدة فقط من الحكومتين اللتين تتشاركان في إيراداته وهي حكومة الخرطوم، بينما حكومة الجنوب لا تحصل على نصف عائدات النفط من آباره في الجنوب. كما لا توجد رقابة كافية على عائدات النفط المُقدَّرة بملايين الدولارات وهناك القليل فقط من الأدلة المرئية.
آخر النفق
وفي سياق المعالجة، اتفقت الحكومة السودانية و”الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال” بقيادة مالك عقار، أحد مكونات الجبهة الثورية، أمس الخميس 21 مايو (أيار) على تخصيص نسبة 40 في المئة من العائدات المُنتجة في المنطقتين (جنوب كردفان والنيل الأزرق) لحكومة الولاية، و60 في المئة للحكومة الاتحادية لمعالجة القضايا التنموية في المنطقتين، بحسب تصريح صحافي لإسماعيل التاج عضو وفد الحكومة الذي بثته وكالة “سونا” للأنباء.
جاء هذا الاتفاق في إطار قسمة الثروة ضمن القضايا العالقة بين الحكومة والجبهة الثورية، إلَّا أنَّه لم يتطرَّق إلَّا إلى النزر اليسير من مسار الترتيبات الأمنية في المنطقتين، وهو المسار الذي من المفترض أن يضمن سريان هذا الاتفاق ويؤسس له. وكما هو واضح لم يشمل الاتفاق ملف “الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال” بقيادة عبد العزيز الحلو.
يُلاحظ أيضاً أنَّه لم تُحدَّد الموارد (موضوع الاتفاق) التي من المُفترض اقتسام عوائدها، ولكن بالنظر إلى أنَّ المنطقتين المعنيتين هما بؤرة تدفق النفط وبسببه يشتعل النزاع، فإنَّ المعنية في المقام الأول هي عائدات النفط.
من ثم يأتي في المرتبة الثانية الذهب الذي يقع ضمن سيطرة عبد العزيز الحلو ويستقوي به في صراعه مع الحكومة السابقة والحالية، وكذلك في صراعه مع جناح التنظيم والجبهة الثورية.
وقد تناقلت صحف الخرطوم في مارس (آذار) 2014 اعتراض قيادات في قطاع الشمال من أبناء جبال النوبة على منح زوجة عبد العزيز الحلو تمويلاً من بنكٍ في جوبا عاصمة دولة جنوب السودان بتوصية منه لشراء معدات للتنقيب عن الذهب في المعسكرات التي تنتشر بها قواته.
كما أثارت أمن مطار جوبا في حادثة ثانية بحملها كميات من الذهب أثناء سفرها إلى مقرِّ إقامتها في إحدى العواصم الأفريقية عبره، قيل إنَّها أحد استثمارات القطاع في مناطق ينتشر فيها الذهب.
من المرجَّح أن يخدم التواؤم بين الحكومة الانتقالية وحكومة دولة جنوب السودان الشريك في النفط والوسيط الحالي لمفاوضات السلام بين الحكومة الانتقالية والحركات المسلحة، قضية الوصول إلى سلام.
وبالنظر إلى زاوية شراكة النفط فقد يحدث تضارب في المصالح بين البلدين، ولكن لن يكون ذلك قبل الوصول إلى سلامٍ أو تسوية داخلية في كلٍّ من البلدين.
سيستمر السباق مع الزمن وسباق الأحداث خلال سنوات مقبلة وهي عمر الفترة الانتقالية إلى أغسطس (آب) 2022، حينها ستكون الأحداث مفتوحة على كل الاحتمالات، إما تمديد الفترة الانتقالية أو الانتقال السياسي بالانتخابات إلى إقامة الديمقراطية، ويعمل الجميع على ألَّا يكون من بين الاحتمالات الرجوع خطوة واحدة إلى الوراء.
المصدر : أندبندنت عربية